قراءات نقدية

رافد القاضي: من تشييء الجسد إلى تسييل الأيقونة الثقافية

قراءة تحليلية في انزلاق الخطاب النقدي من مساءلة الإبداع إلى توصيف الهيئة.. بدر شاكر السيّاب في مرايا النقد المعاصر

لا تبدأ أزمة النقد حين يخطئ في الإجابة بل حين يخطئ في السؤال وحين يُسأل عن المبدع من زاوية جسده بدل مشروعه ومن هيئة وجهه بدل بنية نصه فإننا لا نكون أمام قراءة بديلة بل أمام تحويل مسار معرفي يفرغ النقد من وظيفته التاريخية.

إن استعادة بدر شاكر السيّاب من بوابة ملامحه الجسدية كما أُثير في بعض الخطابات الثقافية المعاصرة تضعنا أمام إشكالية مركّبة تتجاوز شخص الشاعر لتطال بنية التفكير النقدي ذاته وحدود العلاقة بين الجسد والإبداع وبين الرمز وسلطته في الوعي الجمعي.

أولًا: الجسد في النظرية الثقافية – من الحضور الوجودي إلى الأداة الخطابية

في الفكر النقدي الحديث لم يعد الجسد مجرّد كيان بيولوجي بل أصبح نصًا ثقافيًا تُقرأ عليه آثار السلطة والمعرفة والطبقة فالجسد بحسب المقاربات ما بعد البنيوية موقع تُمارَس عليه السلطة الرمزية ويُعاد من خلاله إنتاج المعايير الجمالية والأخلاقية السائدة.

غير أن الخطورة لا تكمن في إدخال الجسد ضمن التحليل بل في الطريقة التي يُستدعى بها فحين يتحوّل الجسد من تجربة وجودية إلى معيار قيمي ومن سياق إنساني إلى أداة تصنيف وانتقاص يكون النقد قد انزلق من التحليل إلى الهيمنة، ومن المعرفة إلى الضبط الرمزي.

ثانيًا: تشييء الجسد بوصفه عجزًا عن تفكيك النص

إن اختزال المبدع في ملامحه أو هيئته الخارجية لا يحدث غالبًا إلا حين يعجز الخطاب عن مواجهة النص ذاته فبدل تفكيك اللغة والبنية الشعرية والتمرد الجمالي يتم الالتفاف على الرمز عبر جسده وكأن الجسد يصبح ساحة بديلة لتصفية الحساب الرمزي.

هذا النمط من الخطاب لا يختلف كثيرًا عن آليات الإقصاء الطبقي حيث يُحاكم الفرد وفق شكله لا وفق فعله ويُدان وفق مظهره لا وفق أثره وهو ما يجعل من توصيف الجسد ممارسة سلطوية ناعمة تتخفّى وراء لغة ثقافية لكنها في الجوهر تعيد إنتاج منطق الإلغاء.

ثالثًا: السيّاب كمشروع تاريخي لا كسيرة شكلية

إن بدر شاكر السيّاب لم يكن حالة فردية معزولة بل تعبيرًا مكثّفًا عن لحظة تاريخية مضطربة، تداخل فيها السياسي بالاقتصادي والوطني بالوجودي وقد كتب من موقع الانكسار لا من موقع الامتياز وكان جسده – المريض والمرهق – انعكاسًا لبنية اجتماعية مريضة لا دليلًا على ضعف ذاتي.

فالمرض في تجربة السيّاب ليس تفصيلاً سير ذاتيًا بل عنصرًا بنيويًا في تشكّل الحس المأساوي في نصه والفقر لم يكن علامة فشل شخصي بل نتيجة مباشرة لاختلال التوازن الطبقي أما اغترابه فكان اغتراب مثقف اصطدم بسلطة لا ترى في الشعر سوى تهديد.

رابعًا: ما أُثير عن ملامح السيّاب – قراءة في دلالات الخطاب

إن ما أُثير على لسان الباحثة بلقيس شرارة بشأن ملامح السيّاب الجسدية لا يمكن فصله عن هذا الإطار الإشكالي فحين تُستدعى هيئة الشاعر وتُوصَف ملامحه بطريقة تُحيل إلى “عدم الجمال” أو الهشاشة الشكلية فإن السؤال لا يكون عمّا قيل بل لماذا قيل وبأي وظيفة معرفية.

ليس المقصود هنا الطعن في النيّات بل تفكيك الخطاب ذاته إذ إن التركيز على الملامح الشكلية بدل المشروع الإبداعي ينقل السيّاب من موقع الرمز الثقافي إلى موقع “الحالة” ومن كونه منتج معنى إلى كونه موضوع توصيف وهذا التحوّل ليس بريئًا لأنه يُعيد ترتيب سلّم القيمة: الجسد قبل النص الصورة قبل الأثر الشكل قبل التاريخ.

إن هذا النمط من الاستعادة يندرج ضمن خطاب ثقافي أوسع يميل إلى تسييل الرموز أي نزع كثافتها التاريخية وتحويلها إلى صور قابلة للتداول الإعلامي حتى وإن كان ذلك تحت غطاء البحث أو التوثيق.

خامسًا: بين السيرة والتجريح – أين يتوقّف البحث وأين يبدأ العنف الرمزي؟

لا خلاف على مشروعية دراسة السيرة في البحث الأكاديمي لكن الخلاف يكمن في حدود الاستخدام فالسيرة ليست رخصة أخلاقية للانتقاص ولا مساحة مفتوحة لإعادة إنتاج الأحكام الذوقية وحين تتحوّل السيرة إلى وصف جارح فإنها تفقد بعدها التحليلي وتتحوّل إلى خطاب قوة يُمارَس على الميت باسم المعرفة

وهنا يصبح الجسد أداة اقتصاص رمزي لا موضوع فهم. ويغدو النقد شكلًا من أشكال “العدالة المتأخرة” التي لا تُنصف، بل تُشوّه.

سادسًا: النقد البرجوازي ومنطق الجمال المعياري

ينتمي هذا الخطاب إلى ما يمكن تسميته بـالنقد البرجوازي الجمالي الذي يقيس القيمة وفق معايير الشكل والتمثيل لا وفق القدرة على زعزعة الوعي وهو نقد ينزعج من الرموز التي كُتبت من الهامش لأنها تفضح زيف المركز فيسعى إلى تحييدها عبر تشويه صورتها.

إن السيّاب بوصفه شاعرًا خرج من الفقر والمرض والمنفى الداخلي يشكّل تهديدًا لهذا المنطق لأنه يثبت أن الإبداع لا يحتاج إلى جسد “مكتمل” وفق المعايير السائدة بل إلى وعي مأزوم قادر على تحويل الألم إلى لغة.

سابعًا: الرمز الثقافي ومسؤولية الاستعادة النقدية

إن استعادة الرموز ليست فعلًا محايدًا بل ممارسة أخلاقية ومعرفية فالرمز الثقافي لا يُستعاد بوصفه فردًا بل بوصفه طاقة تاريخية ما تزال فاعلة وأي انتقاص من هذه الطاقة عبر توصيفات شكلية هو انتقاص من الذاكرة الجمعية ذاتها.

إن الدفاع هنا ليس عن السيّاب كشخص بل عن حق الإبداع في أن يُقرأ من موقعه الحقيقي: موقع الصراع لا الصورة ؛ موقع المعنى لا الملامح.

إن الحاجة الملحّة اليوم ليست إلى نقد أكثر جرأة في الوصف بل إلى نقد أكثر مسؤولية في المنهج ونقد يُعيد الاعتبار للنص بوصفه بنية مقاومة وللجسد بوصفه أثرًا تاريخيًا لا مادة استهلاك وللرمز بوصفه سؤالًا مفتوحًا لا صورة قابلة للتداول

فالإبداع لا يُقاس بملامح الوجه بل بملامح الوعي الذي تركه في التاريخ وكل خطاب يتجاهل هذه الحقيقة إنما يشارك – وعيًا أو دون وعي – في إفراغ الثقافة من بعدها الاحتجاجي وتحويلها إلى أرشيف شكلي بلا ذاكرة ولا معنى.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم