قراءات نقدية
علي حسين: في ذكرى رحيله.. عينا يوهانس فيرمير
في الايام الاخيرة انتهيت من قراءة رواية ممتعة بعنوان " عينا مونا " كتبها مؤرخ الفنون الفرنسي توماس شليسير "، وقد وضعت دار النشر مقطع من لوحة فتاة ترتدي قرطًا من اللؤلؤ للفنان الهولندي الشهير " يوهانس فيرمير " المولود " في 31 تشرين الاول عام 1632، والذي تمر اليوم – 15 كانون الاول – ذكرى رحيله الـ " 350 ".
تبدأ رواية " عينا مونا" بإصابة الفتاة الصغيرة ذات السنوات العشر " مونا " بنوبة عمى مفاجئة وغامضة: " " شَعرتْ بظلّ ثقيل ينزل على عينيها، كما لو أراد أحد مُعاقبتهما، لكونهما زرقاوين، كبيرتين جداً، نقيتين جداً". ستتعافى منها بعد اكثر من ساعة، إلا أن والديها يخشيان أن تفقد بصرها بشكل دائم ويستشيران طبيب العائلة، في هذه الاثناء يتدخل هنري، جد " مونا " الذي يقرر اصطحاب حفيدته الى المتاحف بدلاً من الاطباء، فهو يعتقد أن ما تحتاجه " مونا " هو علاج جديد ومبتكر، وسنجده ينطلق معها كل أربعاء في مغامرة فنية، حيث يزوران أشهر الأعمال في متاحف باريس على مدار عام. يبدأن بمتحف اللوفر، حيث أعمال رافائيل وجيرار ودافنشي ورامبرانت ومايكل انجلو وآخرين. ثم يتجهان إلى متحف أورسيه هناك تجد مونا نفسها في مواجهة انطباعية كلود مونية وبول سيزان ومانيه، إلى جانب فان كوخ وكليمت،، ويختتمون الجولة بمركز بومبيدو، حيث تسكن الحداثة في أعمال كاندينسكي ودوشامب.
يطلب الجد من حفيدته " مونا "، أن تتأمل العمل الفني لدقائق في صمتٍ تام، ثم تستمِع بعدها إلى ما سيشرحه لها عن عناصرهذا العمل، والهدف الذي ابتغاه الفنان من رسمه أو نحته، بعد ذلك عليها أن تقدم انطباعها عما فهمته.
من خلال هذه الاعمال الفنية يحاول الجد ان يكتشف لحفيدته طريقة جديدة لفهم الحياة: المحبة، الكرم، والشجاعة، والشك، والكآبة، والتمرد، وغيرها الكثير. حيث تدور أحداث الرواية حول فكرة أن الفن يعلمنا أن نعيش، لا أن نعرف فحسب.
مع مرور الايام التي تقضيها مونا امام روائع الفن التشكيلي، نتابع صحوتها الروحية التي تنشأ بفضل سلطة الفن، صحوة تقودها إلى اكتشاف عينٍ مطلقة تتحدى الظلام، تساعدها على البحث ورؤية ذلك النور الذي يومض داخلها.
بصفته مؤرخ للفنون يستخدم توماس شليسّير، خبرته لدمج السرد الروائي الذي يسير بانسياب ومتعة، مع النقد الفني، فمن خلال حوارات " مونا " وجدها هنري، نتعرف إلى أعمال فنية شهيرة من عصر النهضة إلى الفن الحديث، مع تحليل دقيق لأبعادها الفنية والفلسفية، وإضاءة وافية عما دار في أزمنة الرسامين، مما جعل الرواية تجمع بين المتعة الأدبية والمعرفة الفنية.. فعندما يقف الجد مع خفيدته امام لوحة " عالم الفلك " ليوهانس فيرمير" حيث يشرح لها كيف عاش هذا الرسام الهولندي حياة بسيطة لكنها محاطة بالتكتم، عمله بمفرده وعاش في منزل صغير.
وانا اقرأ الفصل الخاص بيوهانس فيرمير تذكرت حكايتي البسيطة مع هذا الرسام الهولندي الغريب الطباع والتي ابتدأت من جملة قرأتها في رواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود " حيث وجَدتُ سوان الخبير بالفنون عندما يلتقي مع اوديت، تبادر الى دعوته لتناول الشاي غير انه: " كان رهن متعة عمل، مقال عن فيرمير، وهو مقال في الواقع كان قد اهمله منذ سنين ".
قبل وفاته بعام، تحامل مارسيل بروست على نفسه وقرر ان يحث خطاه المتعبه باتجاه المعرض الاول من نوعه الذي يقام في مدينة باريس للفن الهولندي، حيث كانت تعرض ضمن اعمال المعرض، ثلاث لوحات للفنان يوهانس فيرمير، كان بروست بصحة سيئة وحالة الربو تتفاقم، لم يكن يخرج من بيته، وعندما كان ينهض ساعة واحدة في غرفته فانه يشاهد متلحفا بالبطانيات والاغطية وبكل ما يمكن للانسان ان يتدثر به عندما يصاب بنوبة برد، لكنه اآن قرر الخروج، نصحه بعض اصدقاءه بعدم مغادرة المنزل حتى لا يعرض نفسه لازمة صحية حادة، فقال وهو يمزح: " ماذا تريدون يا اعزائي، فقد قال انكساغوراس ان الحياة سفر "
كان بروست مغرما بلوحات " يوهانس فيرمير " المولود غرب هولندا، والذي عانى من الاهمال اثناء حياته مثلما عانى بروست، فلم يكن فيرمير معروفا ومعترفا حتى بعد موته بسنوات، لم يرسم كثيرا.. هناك فقط 35 لوحة تمت نسبتها الى فيرمير الذي يعد اليوم واحدا من اشهر فناني عصر النهضة، لم يبع فيرمير لوحة واحدة اثناء حياته، لكنه رهن عددا منها ضمانا حتى يسدد ما بذمته من ديون، فقد قضى حياه القصيرة (عاش 43 عاما) غارقا في الديون، لم يحقق لنفسه او لأسرته شيئا، كما انه مثل مارسيل بروست كان يعاني من مرض مزمن حاله بينه وبين رسم عدد اكبر من اللوحات، ومثل بروست كان مهموما بموضوع واحد هو الزمن.. ففي معظم رسوماته نشعر وكأن الزمن قد توقف، لان الرسام لم يكن يرغب بتعكير صفو فتاياته المستغرقات في الحلم، فنراهن مره يطرزن، وفي لوحة اخرى وهن يقرأن رسالة جاءت من مكان بعيد.. ومثل بروست لم يكن فيرمير يحب الخروج من المنزل، ولعل من المرات القليلة والنادرة التي قرر فيها الخروج كان لرسم لوحته الشهيرة " مشهد من دلفت"، وهي اللوحة التي اهتم بها مارسيل بروست كثيرا وكتب عنها في روايته " البحث عن الزمن المفقود " و " دلفت " هي المدينة التي عاش فيها فيرمير معظم حياته.
كان بروست قد سافر الى هولندا عام 1921 وهناك شاهد لوحة فيرمير " " مشهد من دلفت "، فكتب عنها في سجل المتحف بانها " اجمل لوحة في العالم "، وبعد سنوات سيخبر اندريه جيد بان اللوحة اوحت له وهو يذهب إلى فراش النوم في التاسعة مساء، بان يبدا رحلة مع الماضي
في كتاب مارسيل بروست بقلمه نقرأ: " على سلم بيته، واثر دوار رهيب استولى عليه ترنح وتوقف ثم تابع سيره.. كان على (فوادواييه) ان يمسك بذراعه ويوجه خطاه المتداعية نحو لوحة (مشهد من ديلفت).. في الربع السفلي الايمن من اللوحة، الذي ياتي مباشرة إلى يسار البرج الاول القائم على البوابة المائية المظللة، شاهد جزءا من قمة سقف مسه ضوء الشمس لذلك المساء الصيفي الخالد ". كان فان كوخ قد راى عام 1880 اللوحة التي رسمها مواطنه فيرمير، وقد كان شديد الحماس لها، يكتب في احدى رسائله لشقيقه: " اذا شاهد المرء منظر المدينة لفيرمير، عن قرب شديد، فيبدو له امرا لايصدق. لقد رسمت بالوان مغايرة كليا لتلك التي قد يتوقعها المشاهد من مسافة بضع خطوات عنها ".
ويحاول مارسيل بروست في " البحث عن الزمن المفقود " ان يعطي اهمية كبيرة للوحات فيرمير: " فهمت ان الغرابة الآخاذة، الجمال المخصوص في هذه التصاوير يكمن إلى حد كبير في الدور الذي تلعبه رموزها في كل واحدة منها، بينما كانت حقيقة ان هذه الصور لم تصور على انها رموز، إذ ان الفكرة المرموز اليها لم يعبر عنها فيها، بل صورت من قبل الرسام على انها اشياء، حقيقية، محسوسة بالفعل او ملموسة لمسا ماديا ".
في الخامس عشر من شهر كانون الاول عام 1675، يتوفى يوهانس فيرمير بعد معاناة مع المرض.. كان قد تعرض خلال سنوات حياته الى مصاعب مالية.. فهو يعيل احد عشر طفلا.. وقد تقدمت زوجته بطلب الى المحكمة لاعفائها من الديون المترتبة على زوجها المتوفي.. إلا ان المحكمة قررت تعيين احد موظفيها لجرد ملكية الفنان الراحل، كان في البيت عددا كبيرا من اللوحات، وكرسيان وحامل للرسم، وطاولة خشبية، وسرير قديم، وعدد من الصحون.. تم حجزها جميعا لصالح الدائنين.
قبل سنوات حصلت على كتاب بعنوان " قبعة فيرمير " – ترجمة شاكر عبد الحميد – يتناول فيه مؤلفه تيموني بروك باسلوب ممتع تفاصيل بعض اللوحات الشهيرة التي رسمها " فيرمير، ورغم ان الكتاب مخصص للرسام الهولندي الشهير إلا اننا نجد انفسنا نقرأ كتابا يجمع بين الفن التشكيلي والادب والاقتصاد والسياسة، ونجد فيرمير ورامبرانت وعالم القرن السابع عشر، وبعد ان انتهيت من " قبعة فيرمير " تمنيت لو يكتب كتابنا ونقادنا كتابا مثل هذا عن رموزنا الثقافية والفنية.
في الكثير من الحوارات التي اجريت معه عبر سلفادور دالي عن اعجابه المفرط بـ " فيرمير " وفي سيرته الذاتية " انا والسيريالية " – ترجمة اشرف ابو اليزيد- يقدم دالي تصنيفا لاعظم الفنانيين، وفيه نجد ان فيرمير يتفوق على رفائيل ودافنشي، وبسبب اعجابه الشديد رسم دالي لوحة بعنوان " طيف فيرمير ".
رصدت اعمال فيرمير حياة هولندا اليومية في عصرها الذهبي، عبر الانطباعات الضوئية الساطعة على جدران البيوت في " منظر من دلفت ". اللوحة الاجمل في العالم كما قال بروست، والأولى في العالم التي تصور مدينة قاتمة بدقة بالغة.. كان بيكاسو يقول ان فيرمير لا يحتاج الى الخيال، فكل النساء عنده متشابهات، لهن وجوه مستديرة، وعيون لامعة، ويرتدين القبعات.. فهل كان مثيرا للضجر؟. يجيب اندريه مالرو كان في غاية الجاذبية، بتقنية المثيرة، وتكاد وانت تنظر الى اللوحات تمد يدك، كي تجس اشياء يخيل اليك انها حقيقية. يكتب بروست لا مكان للاوجاع، والهوى، والجنس في فن فيرمير.
في رواية " عينا مونا " يصف الجد فيرمر بانه: " لم يكن مشهوراً على نوع خاص. كان جزءا من شبكطة رسامين ليس هو المبدع الأكثر إثارة للصخب فيها، فهو يعيد تناول موضوعات تناولها آخرون: لحظات من الحياة المنزلية في أجواء حميمية ساكنة، تتعايش في فضائها شخصية او اثنتان مع حشد من اشياء غالباً ما تكون معقدة جداً.. إن إعطاءه ما يستحقه من قيمة، وتمييز سماته الفريدة حقاً، مسألة أحتاجت لوقت، واعبقرية بعض المشاهدين الخبيريين. يحتاج كبار العباقرة لمتفرجين منتبهين وأصحاب بصيرة يا مونا ".- عينا مونا ترجمة روز مخلوف.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية






