قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية ـ تحليلية موجزة ومعمّقة لقصيدة «شتاء على كتفي»
للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي
تأتي قصيدة «شتاء على كتفي» للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي بوصفها نصًا تتقاطع فيه الذاكرة الفردية بالوجدان الجماعي، ويتجاور فيه البرد الخارجي مع صقيع الروح. إنّه نصّ تمزج فيه الشاعرة بين الانكسار الهادئ والمقاومة الخفيّة، فتجعل من الشتاء استعارة كبرى للفقد، ومن الغياب مسرحاً تتصارع فيه الدلالة مع الصمت. ومن هنا تفرض القصيدة نفسها بوصفها مادة خصبة لقراءة هيرمينوطيقية تأويلية، وسيميائية، ونفسية، وتاريخية، تستكشف البنى العميقة للخطاب، وتكشف الرموز المتوارية تحت جلد اللغة، وتبحث في علاقة الذات بالأب والوطن والذاكرة.
إنّ هذا النص، بما يحمله من كثافة شعورية وصورٍ تتشظّى كما تتشظى الروح، يحتاج مقاربة متعددة الحقول تعيد بناء نظام العلامات فيه، وتفكك بنيته الأسلوبية، وتضيء على ما يختبئ خلف استعاراته وانكساراته، ليظهر في النهاية سؤال واحد: كيف يمكن للشعر أن يكتب الدفء في زمنٍ يعلو فيه الشتاء إلى حدّ الإطباق؟
هذا النص يدفع باتجاه اتباع منهجية التحليل التالي يجمع بين هيرمينوطيقا تأويلية، منهج أسلوبي/ بلاغي، مقاربة سيميائية (بمنهج غريماس عند الحاجة)، قراءة نفسية، ومقاربة وطنية/ تاريخية تفاهمية. الهدف استخراج البنى العميقة، فك رموز الصورة الشعرية، وقراءة ما «تحت الجلد» من نبض وتوتر ورمز.
1. قراءة هيرمينوطيقية تأويلية (فقه الأفق والمرجع):
القصيدة تبدو نصّاً استحضارياً للغياب والبرد والفراغ؛ لا غيابٌ فقط لشخص (الأب/ الحبيب/ الزمان)، بل غيابٌ يمسّ البنية الوجدانية لذات الراوية. من منظور عدد من النقاد العالميين، القصيدة تعمل كـ«نص-أفق» يتقاطع فيه أفق الشاعرة مع أفق القارئ: الشاعرة تستدعي خبرة الفقد والشتاء لتبني دالًّا يفتح آفاقًا متعددة: الحزن الفردي، الحزن الوطني، وحالة اللامكان الوجدانية.
التأويل المركزي: الشتاء هنا ليس فصلًا مناخيًّا فحسب، بل حالة وجودية ــ زمنية تطغى على كتابة الشاعرة وتشكّل نمط رؤية العالم لديها: تقطيع الكلمات، تكسّر الصور، وتعطّل الفاعلية اللغوية (صمتُ المحبرة، عدم تزيين الليل بأجنحة). القراءة الهيرمينوطيقية تحاول الإجابة: ماذا تعرّف الشاعرة بالشتاء؟ وما النداء/ المَدَفَع الذي يُحرّك لغة النص؟ الإجابة: الشتاء رمز للغياب والفقد والجرح التاريخي/ الشخصي الذي يستحيل معه خطاب التدفئة (الكلام، النغم) — وبالتالي يتحول النص إلى مناشدة/ مناجاة ودعاء.
2. دراسة أسلوبية ولغوية وجمالية:
2.1 البنية اللغوية والإيقاع:
الجمل متقطعة، كثير من الكليشيهات الصوتية تُقطَع وتُعاد بصيغة انفعالية: «وكل الأغاني تلاشت»، «وثقيل…»، «ولستُ أفيق». هذا التقطيع يخدم إحساس الانكسار والشلل.
الإيقاع الداخلي يقوم على تباين طويل/ قصير، وميل إلى التكرار المتدرّج («و … و… و…») لخلق حالةٍ تنفّسٍ يعيق الانسياب الطبيعي.
الإيقاع الموسيقي يتحول من انسيابي إلى مُجّزأ كمرآة لشتاءٍ يفرض وقفه على اللغة نفسها.
2.2 الصور الشعرية والتعبيرية:
١- استعارات مركزية: «الشتاء على كتفي»، «شظّى العصي»، «تجاويف وجهي»، «السّديم»، «غيوم تشظّي قصيدي»، «برتقالا بغير ازرقاق أبي». هذه صور تمتزج فيها الطبيعة والعضوي: الشتاء جسمٌ يثقل الجسم؛ الغيوم تفعل فعل الصدمة على السرد.
٢- الصورة المركبة: الشاعرة تُجسّد المشاعر بأجسام وأحوال (شتاء كوزنٍ، غياب كأقفاص تُرصّف في الصدر)، ما يخلق شعرًا تجسيديًا مؤلمًا.
٣- التباين اللوني: «برتقالا بغير ازرقاق أبي» يستخدم اللون كدالٍ على الهوية والذاكرة (البرتقال: وطنية/ مادية، الأزرق: علاقة بالأب/ السماء/ الذاكرة الطفولية).
2.3 التكرار ودرجات الانفعال:
تكرار أداة العطف والـ«و» يخلق امتدادًا للحالة النفسية: تراكم الحزن.
درجات الانفعال تتراوح بين الهمس والنّدب والدعاء: القصيدة تنتقل دَرَجياً نحو مناجاة إلهية في النهاية («أدعو الذي علّم الطير..»).
3. سيميائية: قراءة علاماتية / تطبيق مقاربَة غريماس (نموذج الأدوار):
باستخدام نموذج غريماس (الفاعِل/ المفعول/ المرسل/ المتلقي/ العدو/ المساعد) نستخرج محاور الأدوار داخل النص:
١- الفاعل: المتكلمة الشاعرة (ذات راوية تئنُّ وتناجي).
٢- المفعول/ الهدف: استعادة الدفء/ النور/ الطمأنينة/ العودة إلى حالٍ يداوي الفقد (أو استرداد صورة الأب/ البيت/ الوطن).
٣- المرسل: يمكن أن نقرأه في طبقتين: (أ) الضمير الداخلي/ الذاكرة التي تؤمر الشاعرة بالتذكرة؛ (ب) الرمز الأبوي/ الوطني (ـ«أبي» كمصدر للنداء).
٤- المتلقي: إما الأب/ الغائب، أو القارئ/ العالم، أو حتى الذات المؤمنة/ الروح التي يجب أن تستلم «الدفء».
٦- المساعد: الذكرى، النغم، الدعاء، الصور الطبيعية حين تحاول تقديم وسيلة للدفء (النجمة، الطير، عشب الحديقة حين يبتسم).
٧ - المعارض/ العدو: الشتاء/ الغياب/ الصمت/ القتامة/ الجرح؛ القوى التي تمنع التحقق (الغياب يردع النور).
من تحليلات غريماس نرى أن بنية الصراع في النص صراع حول الوصول إلى موضوع العافية: قلبُ الشاعرة هادية السالمي دجبي، يريد أن يصل للنور، والشتاء يعرقل؛ هناك ماسّة تراجيدية: الراوية كـ«بطل» يفتقد الوسائل ويستغيث.
4. قراءة سيميائية رمزية: رموز مركزية ومعانيها:
١- الشتاء: رمز للفقد، الكآبة، تجمّد المشاعر، ربما الاستبداد أو زمن الأزمة الوطنية (قوة معطلة تغطي الأرض والذات).
٢- الأب («أبي»): رمز للأمان، للذاكرة، للوطن/ المرجع، وللشجرة الأصلية. نداؤها للأب يحمل بُعدًا شخصيًا ووطنياً في آن.
٣- البرتقال/ الأزرق: البرتقال ـ رمز أرضي/ محاصيل/ حياة يومية؛ الأزرق ـ لون السماء/ الأب/ الذاكرة — «برتقالا بغير ازرقاق أبي» تعبير عن فقدان النكهة/ الوحدة الوجودية.
٤- السّديم/ الغيوم/ الشظّى: علامات على التمزق المعرفي والوجودي: لا صفاء للرؤية، اللغة «تتشظّى».
٥- المحبرة/ الكلمات/ المجاز: حين تفشل المحبرة، تفشل القدرة على إعادة التدفئة بالكلام أو الفن: انكسار فعل الشعر ذاته.
5. قراءة نفسية: الحزن، الحنين، والعلاقة الأرضية كبديل أمومي
من منظور نفسي:
١- الحزن/ المرثية وميلان المِلَل: النص يقارب حالة بين الحزن والمرثية: «فراغ الغياب يجدّف فيه فؤادي»، علامات الحزن المكتوب أكثر منها مجرد حداد؛ الذات تختزل ذاتها في غياب المؤنث/ الأب/ البيت.
٢- الأرض كأم/ الأم البديلة: العلاقة بالأرض (البرتقال، الحديقة) تعمل كوظيفة أمومية: عندما يغيب الأب/ المرجع، تتحول الأرض إلى بديل للحنان/ الهوية. هذا يتوافق مع فكرة أن الميثولوجيا النفسية تُعيد تشكيل الأمومة في رموز وطنية.
٣- عقدة الفقد والهوية: تكرار الاستفهام وعدم القدرة على إخراج النغم يشيران إلى عقدة فقدٍ تُجمد الإمكان التعبيري وتحول الشعر إلى شكوى ودعاء.
٤- الدعاء كآلية تَخلّص: الدعاء في نهاية النص يظهر كآلية نفسية للتماسك وإسناد الذات إلى مصدر رحمة/ طمأنينة أعظم من الذات.
6. الدراسة الوطنية ــ التاريخية: دلالات الممكن والمحظور
القصيدة لا تذكر حدثًا محددًا، لكنها تعمل كتأريخ وجداني لزمن شتويّ يجتث الدفء. قراءة وطنية-تاريخية محتملة (بصيغة تأويلية تحفظ الحياد التاريخي):
العمل الشعري يلتقط أصداء فراغات وطنية: غياب، جراح، تهجير أو تعاقب أزمانٍ قاسية.
رموز كـ«برتقال» و«الحديقة» يمكن قراءتها لوطنٍ يتمسّك بثمره الثقافي والزندقي لكنه فقد لونه (الأزرق الأبوي كمصدر هوياتي).
النص يصلح قراءة في سياق تجربة ما بعد صدمة (حرب، هجرة، انقلاب ذهني/ سياسي)، لكنه يظل بالأساس تجربة إنسانية جامعة لا تقصر على حادثة بعينها.
ملاحظة منهجية: لقراءة تاريخية دقيقة لا بد من ربط النص بسياق حياة الشاعرة هادية السالمي دجبي، ونصوصها الأخرى ومقابلة تاريخية/ أرشيفية؛ ما ورد أعلاه تأويلٌ وظنيُّ وليس تأكيدًا تاريخيًّا.
7. مرجعيات فلسفية يمكن مطابَقة أفكار النص معها
١- مارتن هايدغر: فكرة المزاج كحالة وجودية تكشف عن العالم. الشتاء هنا مزاجي يفضح علاقة الشاعرة بالعالم (الوجود الملقى في سكونٍ بارد).
٢- هانس-جورج غادامر/ بول ريكور: الهيرمينوطيقا/ تأويل النصوص: النص كأفق يؤسس فهم الذات والوجود عبر الذاكرة والتوجيه الأخلاقي/ الروحي.
٣- سيغموند فرويد/ ميلان كونديرا تفسير الحزن: مراثي الحزن والانعكاس النفسي على القدرة الإبداعية (فشل المحبرة).
٤- سيجموند فرويد/ جان بول سارتر (بُعد وجودي): الفقد كعامل لخلق «اللاوجود» وإدراك العدم؛ الشاعرة تكتشف هشاشة الفاعلية.
٥- كارل يونغ: الأبعاد الرمزية للأم/ الأرض كأنماط نفسية؛ الأرض كأنثى/ أم رمز للأنماط الأعمق في النفس.
٦- الغزالي (إشارةً سابقة في محادثتك) يمكن استخدامها لربط القلب كمساحة صراع بين خيرات وشرور نفسية وأخلاقية — وهو ما يظهر في صراع القلب مع الظلام (الشتاء).
الهدف هنا ليس المطابقة الحرفية، بل استخدام أدوات هؤلاء الفلاسفة لتنوير القراءة: المزاج الهايدغرّي، السرد الريكوري، والرموز اليونغية كلها تكشف عن أبعاد إضافية للقصيدة.
8. ما تحت الجلد الشعري: نبض، توتّر، رمز:
١- النبض: ندرة الأمان، اشتياق للدفء، انسداد القدرة التعبيرية.
٢- التوتّر: بين رغبة الاستدعاء (إحضار الأب/ الحنان) وحقيقة العجز (الشتاء يغلب).
٣- الرمز الأعمق: الشتاء كقوة تعتيمية تحوّل الكلام إلى نشيج، والغياب هنا هو امتحان للسيولة الروحية: هل يظل الشعر فاعلاً؟ القصيدة تُجيب: لا، تتحول الكتابة إلى شظايا.
9. تفسيرات لبعض المفردات/ التراكيب المركزية:
١- «شتاء على كتفي»: التجسيد يجعل الشتاء وزنًا جسديًا (قَيِّدًا يتحمّله الجسد) وامتدادًا للحزن الذي تحملُه الذات في حياتها اليومية.
٢- «شظّى العِصِيّ»: «شظّى» فعل تمزيق/ تفتت. العصا هنا قد ترمز إلى السلطة/ الاستقامة التي تُكسر، أو إلى وسيلة للحركة التي تتهشم.
٣- «تجاويف وجهي يُجدّف فيها غبار اللظى»: التجاويف كجوفات النفس التي تُملأ بالوَبَل (الغبار واللظى: لظى=لسعة النار/ الاشتداد)، أي: الوجه كحامل لذكرى أليمة.
٤- «السّديم»: علامة غموض / سحب تغشى الرؤية، تقود إلى فقدان الوضوح الشعري والوجودي.
٥- «برتقالا بغير ازرقاق أبي»: تركيب مشحون: البرتقال (ثمار، وطن، حياة) بلا الأزرق (المعنى الأبوي/ السماء/ الحنان) يفقد نكهته؛ فالفعل اللوني هنا يرمز إلى خلل في التناسق الوجودي.
- خاتمة:
قصيدة «شتاء على كتفي» نصّ قويّ في اشتغاله التصويري والجسدي للغيب، يعمل الشعر فيه كمرآةٍ تنكسِرُ إلى شظايا حين يتعرض للبرد والفراغ. قراءةٌ هيرمينوطيقية تؤكد أن القصيدة نصّ استدعاء ومناجاة، سيميائياً تُحيل الشتاء إلى قوة معطِلة، ونفسياً تُبرز عقدة فقدٍ تحول اللغة إلى جرح. لا يمكن فصل قراءتها عن بعدها الوطني/ الوجداني، لكنها أيضاً نص إنساني عامّ يُعالج تجربة الدنوّ من العدم والخُلوّ من الدفء.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
شتاء على كتفي
فراغ الغياب يُجدِّف فيه فؤادي ضُحًى
و لا بدرَ في الدرب يرتق ما جرّفته سياط الجوى.
و كلّ الأغاني تلاشت
و ذاك العِطاف هوَى
و ذاك الجدار الّذي كنتُ أسري إليه
قضى
و حطّ الشّتاء على كتفي
و شظّى العِصِيَّ.
**
تجاويف وجهي
يُجدِّف فيها غبار اللّظى
و يَغشى الدّخان سمائي
و فيها يئنّ الشَّظى
و فيها يرين السّديم
و يطغى الأسى
و هذي الغيوم تُشظّي قصيدي
و تُدمي يدي.
**
ثقيلا يجيء شتاء الحروف ولستَ معي
ولا شيء في الكلمات يُعطّر محبرتي.
ولا سقف يحرس دفء شهيقي وحنجرتي.
فأيُّ مجاز يُطرِّز للّيل أجنحة؟
و لستُ أرى برتقالا بغير ازرقاق أبي
و هذا الغياب يُرصّف في الصّدر أقفاصه.
نوافذ فجري تُغَلِّقها زفرات الغروب، أبي
فأيُّ مجاز به أفتح اليوم للنّور بابا يُدفِّئني ؟
أفتّش في الدّار عن وجه أغنية كنتُ ألمسها
فيهمي السّراب على مقلتيَّ كثيفا،
و يرغو الصَدى.
و لا نغمَ اليوم يُو قظ فيَّ الطّفولةَ
أو فيْأَها
و لا عنب اليوم يكتبني
في وميض السماوات أو ريشها.
و أسأل عشب الحديقة عنك،
فلا يبسم.
و يهطل منه سواد
يُغشّي الأديم فينتحب
و يختضّ بين يديّ ترابٌ جَفَته خُطاك
فما التأم.
**
ثقيلٌ، جُؤوم الشّتاء على معصمي، أبتي،
و لستُ أفيق لأقطف نورا يُحدِّثُني.
فيا ليت نجما يجيء إليَّ ويوقظني.
و إنّي لأدعو الّذي علّم الطّيرَ مَغْنَى الهدى
أن يُغيث الفؤاد بنور السّلام
و فيض التّقى
و إنّي لأدعو الرّحيم
يُفيضُ رضاه عليك، فترضى.
***
بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس







