قراءات نقدية
جمعة عبد الله: رحلة معاناة التهجير في رواية "طفل ودفتر ذكريات" للكاتب حسن الموسوي
الصيغة الفنية والتعبيرية الدالة، ترسم أبعاد متشعبة من اللوحة العراقية من عهد البعث الحزب والثورة، في أدق التفاصيل اليومية، من تلك المرحلة المظلمة والسيئة، في نهج الارهاب والقمع ومطاردة المواطنين الذين لم ينتموا الى حزب البعث، بل هم في الضفة المعارضة السياسية، سواء كانت اسلامية وغير اسلامية، فكلهم تحت مجهر المراقبة والترصد والاقتناص من جلاوزة الحزب في تقاريرهم الكيدية، لزجهم في الاعتقال والسجن، وربما يتطور الأمر إلى اكثر فداحة الى الموت بإحدى الطريقتين الوحشيتين، الرمي في احواض التيزاب، أو الى ماكنة الثرم، هذا ما دأب عليه البعث في الحكم في نهج البطش والتنكيل بالارهاب السياسي للمعارضين، وكذلك للناس الابرياء، في مبدأ ان لم تكن معي فأنت ضدي لا تستحق الحياة، نظام غير إنساني، بل الصفة الوحشية قليلة بحقه، مكونات الحدث السردي، تدور حول مجموعة من الشباب إلاسلاميين من حزب الدعوة، اتباع الشهيد محمد باقر الصدر، كانت الحياة آنذاك قاسية في المعاناة لا تثمر الجمال والحب، بل تزرع الموت والحرب، من أجل تصريف أزماته الداخلية، اطلاق العنان الى جلاوزة الحزب في المراقبة المشددة والصارمة، مما خلق شرخاً كبيراً بين نظام الحكم وعموم الشعب، لذلك انتهج سياسة شوفينية صرفة مع شريحة عراقية اصيلة، عراقية الاصل والنسب عن اب وجد، وهم الكورد الفيلية،، في نهب ممتلكاتهم ووقمع انسايتهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية، بحجة واهية بأنهم من التبعية الايرانية، هكذا وبكل بساطة جردهم من حق المواطنة، وسلب حقوقهم الانسانية في رميهم عند الحدود بطريقة بشعة، هذا ما حصل فعلاً ايام البعث، وليس من نسيج الخيال، قصص مأساوية واقعية تفتت الحجر والحديد لعمق المآسي والاهوال التي حصلت، اضافة الى هذه الطامة الكبرى في تشتيت ابناء الوطن، قام بشن حرب ضروس عبثية ضد ايران، هذه الوقائع الحقيقية من النظام الوحشي حدثت فعلاً، صيغت الحبكة الفنية في اسلوب واقعي رصيينن، لتثبيت هذه الدلائل لتي تجرم الحزب والثورة بجرائم كبرى ضد الانسانية، وباللغة السردية المتمكنة في تقنياتها في التناول والطرح والاقناع، وهي تتابع سيرة الشخصية المحورية الساردة (حسين) شاب يدرس صباحاً في الجامعة، ويشتغل مساءاً قاطع تذاكر في المستشفى، وما وقعت علية من اهوال في حياته كادت ان تؤدي به الى المجهول، أو في زنازين السجون من جلاوزة البعث الحزبين في تقاريرهم الكيدية، تلك الغيوم الملبدة بسواد البعث المظلمة، كان الموطن يرزح تحت رحمتها بالخوف والرعب اليومي المتواصل، اي وضع النظام في اسلوبه الهمجي الانسان، في دائرة ضيقة مسدودة الابواب، وعلى المواطن ان يختار الموت في ارساله الى محرقة الحرب، أو الموت في الداخل بين العسف والظلم، فلا مكان للحياة والاحلام والامنيات والحب، صياغة الاحداث في السرد، اعتمدت على تصعيد الاحداث في ديناميكية متصاعدة الى قمة المعاناة، احداث متلاحقة لا تترك القارى ان يتنفس الصعداء، في نيرانها المتصاعدة، والشيء المبدع والمتمكن، لم يغوص الكاتب الروائي في التنظيرات الفكرية والفلسفية، وانما يترك القارئ ان يكتشفها في ابعادها، ويستنتج الحقيقية الواقعية منها، والمتن الروائي استغل تناص الاسطورة الدينية في الحزن العراقي المقيم منذ ولادة الانسان العراقي، في جريمة قابيل ودماء هابيل، حين ولد الحزن والفواجع والاهوال منذ ذلك الحين، كأنها اصبحت حليب العراقي في الرضاعة، حيث استهل الاهداء بما يلي: الى حلمي الوردي / ذلك الحلم الذي اجهز عليه معتوه / شهر في وجهي سيف الفراق / الى ليالي الفقد الاليمة / اليها... اهدي كلماتي.
- لماذا سياسة التهجير الانتقامية ضد الكورد الفيلية؟؟
حقيقة بوادر هذا العداء يرجع إلى اسباب تاريخية من مراحل الصراع السياسي وتداعياته، فبعد انقلاب البعث عام 1963،، وقفت المناطق بغداد سكنة الكورد الفيلية، وخاصة شارع الكفاح، في مقاومة الانقلابيين في المجابهة المسلحة، فظلت هذه المناطق عصية وخارج سيطرة الانقلابين لمدة اسبوعين، بروح التحدي والمقاومة من الغرائز الطبيعية لهذه الشريحة العراقية الاصيلة نسباً وانتماءاً الى تربة الوطن العراق، تاريخهم مكلل بكسر رؤوس الطغاة على مختلف العصور، فزرع البعث في نهجه وعقليته روح العداء والانتقام منهم، وعند مجيئه ثانية الى الحكم، نفذ وعده الانتقامي من هذه الشريحة العراقية الاصيلة الكورد الفيليين، في تهجرهم وتسفيرهم الى الحدود الايرانية بحجة التبعية الايرانية، بعدما سلب اموالهم وممتلكاتهم ونزعهم من أرض الوطن قسوة واجحافاً، في معاملة وحشية، تفتقد الى ابسط الحقوق الانسانية، لتغتال حياتهم و احلامهم وامانيهم تحت خيمة الوطن. أن يتجرعوا كأس الحنظل بالأهوال والمصائب.
- سيرة الحدث السردي:
استيقظ (حسين) السارد الحدث السردي، او ما يطلق عليه ضمير المتكلم، أو الصوت الواحد (مونو فونيه) مرعوباً في الصباح الباكر من حلم مرعوباً أفزعه، وحينما ذهب الى شيخ الجامع، قال له: بأن الأحلام في الفجر تعتبر رؤيا ترسم الخطوط العامة لحياتك المستقبلية، وفي هذه الرؤيا كانت هناك تذاكر سفر ملونة، فهو اختار تذكرة السفر الحمراء، بلا عودة أو رجعة. كان يدرس في الجامعة وفي المساء يعمل في المستشفى قاطع تذاكر، لكي يساعد أهله في الحياة المعيشية، يتعرض على الدوام لمضايقات جلاوزة البعث، في الإيقاع به في تقارير كيدية، وكان تحت مجهر المراقبة الامنية، لانه لم ينتمي الى حزب البعث، ومتهماً بتوجهه الإسلامي، ويلتقي مع اصدقاء متهمين الى حزب الدعوة والى المرجع الاسلامي محمد باقر الصدر، احب (زينب) شقيقة صديقه (عباس) وتطورت علاقة الحب الصادقة بين الجانبين الى عقد الزوج، كأن السعادة فتحت ابوابها بهذا الزواج الميمون، لكن لم يعرف العواقب التالية، وفي احدى الايام رغبت زوجته (زينب) لزيارة اهلها واوصلها وذهب الى عمله، وحين رجع في المساء، كان له القدر بالمرصاد، فعرف أن زوجته هجرت مع عائلتها إلى الحدود بحجة التبعية الايرانية، لم يتحمل الصدمة شلت كيانه وادخلته في دهاليز الحزن والوجع (للحظات اخذت أدور في البيت كالثور الهائج، وانا افكر في كل ماجرى وما يجري،على الفور أوقدت الشموع في جميع أركان البيت اعلاناً للحداد)، وبعد اسبوع اصابته فادحة اخرى بوفاة أمه، وبعد التخرج من الجامعة جند الى محرقة الحرب الى جبهات القتال، كأن الصدمات تأتي تباعاً بدون توقف (لا غرابة تضاهي غربة رجل ابتعد عن القافلة المسافر معها، في وسط الصحراء، وظل به السبل كي يعود الى قافلته)، كانت اهوال خنادق القتال مرعبة ومخيفة، لم تتوقف الصواريخ التي تنهال على الخنادق، وتحولها الى ملاجئ محطمة، تنبعث منها بروائح غريبة بالاجساد البشرية المشوية بنار الصواريخ المتساقطة عليها، اين المفر والخلاص؟ ترك الخنادق يتعرض للنار من القطعات الخلفية بالإعدام مع تهمة الخيانة والجبن، يعني الموت أمامكم وخلفكم، وما انتم إلا وقود وحطب لادامة طاحونة الحرب، وفي هجوم صاعق وقع في الأسر، اعتبر هذا الاسر يمكن أن يقربه الى زوجته في الوصول إليها، مهما كانت المخاطر والمجازفات، فكان يتحين الفرص للهروب من معسكر الأسر، وعدة مرات تظاهر بالمرض ويرسل الى المستشفى، ويرجعونه ثانية الى معسكر الأسر، وفكر بطريقة أكثر خطورة، هو حقن جلده بالنفط الابيض، وبالفعل جازف ونقلته سيارة الإسعاف الى المستشفى، وهناك ابتسم له الحظ، صادف زيارة رجل دين لبناني يتفقد المرضى في المستشفى، واطلع على حالته المأساوية، فاصر رجل الدين أن يطلق سراحه من الأسر والمستشفى، فكان له ذلك، وبدأت رحلة البحث عن زوجته (زينب) في طهران سأل الكثير من العراقيين المتواجدين، وقالوا له: ان شقيقها (عباس) يأتي كل خميس للصلاة في الحسينية، داعبه الفرح بأنه أصبح قاب قوسين أو ادنى من حبيبته (أغداً ألقاك يا لهف فؤادي من غدي... أغدا ألقاك يا لشوقي بانتظار الموعد) وبالفعل وجد الدليل الذي يعرف بيت عائلة زوجته (زينب) وعند باب البيت، داهمته شتى افكار بين الفرح والحزن، وكأن زمن الوصول الى المشتهى طال، وجاءت لحظات اللقاء الموعود (لحظات كاد قلبي ان يسقط أمامي، أخذت أطرق الباب وماهي إلا لحظات حتى انفتحت. وبانفتاحها شعرت كأن آلام السنين قد انمحت من سموات حياتي) استقبله صديقه (عباس) بالدموع والاحضان، وهو متشوق على جمرة النار لرؤية زوجته (زينب) شلت كيانه حين علم بأنها توفيت حزناً عليه، لم تتحمل فواجع الفراق عليه، فماتت بالحسرة والقهر، وجال بصره في غرفة زوجته، وجد طفلاً نائماً يشبهه في طفولته تماماً، فقال له عباس (انه ابنك سجاد) كأنه ثمرة الحب والعشق بولادة (سجاد) بأن الحياة لا تموت بل تحيا من الالم والوجع.
***
جمعة عبد الله





