قراءات نقدية
عبد الله الفيفي: النَّظْم.. ومقولتا التوقيفيَّة والاعتباطيَّة!
تطرَّق المساق الماضي إلى أنَّ من نَظْم الشِّعر هوسًا مَرَضيًّا لدَى بعض الشُّعراء بنظم القوافي، يُفسِد بناء القصيد، ويَضيع معه المعنى. وضربنا مثلًا على (هوسيَّة النَّظم، وتضييع المعانى) بقصيدة (أحمد شوقي)، تحت عنوان «في الانقلاب العثماني وسقوط السُّلطان عبد الحميد».(1) وأُشيرَ إلى بعض قوافيه المجتلَبة لتكثير النَّظْم، مثل (الغدير)، و(النذور) وغيرهما، وكأنَّه قد ألزم نفسه بأن يستغلَّ كلَّ الكلمات الرائيَّة في اللِّسان العربي! قلت لـ(ذي القُروح):
ـ ولا تنس كلمة (الحبور).
ـ حتى لقد جعل الأميرات التركيَّات يلبسن الحِبَر اليمانيَّة! وهو ما اضطرَّه إلى جمعها على (حُبور). فقال:
صَــبَغَ السَّــوادُ حَــبيرَهُنَّ
وكــانَ مِـن يَقَـقِ الحُـبُـورِ
ـ لِـمَ لا؟ فالشِّعر لديه تصيُّد الكلمات التي تصلح أن تكون قوافي.
ـ بل لا حاجة للتصيُّد، فقد أُعِدَّت له بها معجمات جاهزة بالقوافي. ولقد أشكل البيت على شارحه (أحمد محمَّد الحوفي)، ولم يستسغه؛ فالحُبور: السُّرور. قال: ولكن «يظهر أنَّ شوقي أراد جمع كلمة حَبِرة، وهي ثوب من قطن أوكتَّان مخطَّط، كان يُصنَع باليَمَن... لكن جمع هذه الكلمة حِبَر... وحَبرات»، وليس (حُبور). ثمَّ ستجد الشاعر يقول عن (عبد الحميد):
ونَـــراهُ عِنـــدَ مُصــابِهِ
أَولـَـى بِبــاكٍ أَو عَــذيرِ
ونَصـــونُـهُ ونُجِلُّـــــهُ
بَيــنَ الشَّـماتَـةِ والنَّكيـرِ
كَم سَبَّحوا لَكَ في الرَّوا
حِ وأَلَّهوكَ لَدَى البُكـورِ
ورَأَيتَهُم لَـكَ سُــجَّـدًا
كَسُجودِ موسى في الحُضورِ
خَفَضوا الـرُّؤوسَ ووَتَّـروا
بِالــذُلِّ أَقــواسَ الظُّهـورِ
ـ البيتان الأوَّلان لا يضيفان إلى معناه شيئًا، غير قافيتَي راءٍ مجتلبتَين.
ـ أمَّا الأبيات الثلاثة التي بعدهما، ففي غاية الغرابة! أهو يصف (عبد الحميد) أم يصف (الحميد) نفسه، سبحانه وتعالى؟!
ـ ذاك خِمار القوافي، الذي كان يأخذ (أحمد شوقي) إلى أن يقول كلامًا لا معنى له؛ لكي يأتي هنا بقوافٍ رائيَّة مردوفة بالياء أو الواو، فلا يترك كلمة في العَرَبيَّة بتلك البِنية إلَّا استعملها كيفما اتَّفَق، وتلك غاية الشِّعريَّة عنده!
ـ ثمَّ يضيف:
وغَضـــِبتَ كالمَنصـــورِ أو
هـارونَ فـي خـالي العُصورِ
ضَـــنُّوا بِضـــائِعِ حَقِّهِــمْ
وضَنَـنتَ بِالـدُّنـيا الـغَـرورِ
هَلَّا احتَفَظــتَ بِــهِ احتِفـا
ظَ مُـرَحِّــبٍ فَــرِحٍ قَريــرِ
هُـوَ حِليَـةُ المَلِـكِ الرَشيـ
ـدِ وعِصْمَـةُ المَلِكِ الغَريـرِ
وبِــهِ يُـبـارِكُ فـي المَمـا
لِكِ والمُلـوكِ عَلى الدُّهـورِ
ـ ما معنى هذا الكلام؟
ـ وماذا يمكن للقارئ أن يفهم منه؟ وما مرجع الضمير في قوله: «احتفظتَ به»؟ أيعني احتفظتَ بـ«ضائع حقِّهم»؟! وكيف يكون ذلك «حلية الملك الرشيد»، و«به يبارك في الممالك والملوك على الدُّهور»؟
ـ هذيان عارٍ عن المعنى؟
ـ أو قل: إنَّ معناه في بطن الشاعر! لا لعمق مراميه، ولا لبُعد مجازاته، ولا لغموض موضوعه، ولكن لأنَّ الرجل مهووس بالألفاظ دون المعاني، مجنون بالقوافي والبديع، ولا يعنيه بعدئذٍ بناء القصيدة ومعناها. ولذا تخطَّى الشارحُ هذه الأبيات دون أن يشرحها، أو يتوقَّف عندها. لأن ليس فيها من شيءٍ ليُشرح، ولا شيء ليتوقَّف عنده.(2)
-2-
ـ هذا، إذن، مثال نموذجي على مقدار ما تجنيه القوافي والهوس بها، حتى على أمير الشُّعراء، كما لُقِّب من محبِّيه وأمثاله في الوعي الشِّعري، كأنَّ الشِّعر لا يعدو طبلًا وزمرًا وجعجعة فارغة، بحيث يستحيل النصُّ إلى مهارات لفظيَّة، لا علاقة لها لا بطبيعة الشِّعر ولا بوظيفته. وإذا كان هذا شأن أمير الشُّعراء، فكيف بغَفير الشُّعراء؟! لكن دعنا، يا (ذا القُروح)، من نظميَّة (شوقي باشا)، وعُد بنا إلى نظميَّة اللُّغة لدَى (عبد القاهر الجرجاني).
ـ لقد كانت غاية (الجرجانيِّ) في «دلائل الإعجاز» البحث في ما يجعل لنَظْم الكلام بلاغيَّته وإعجازه، ممَّا يعود لديه إلى الصُّورة والتركيب، لا إلى اللَّفظ المفرد. وإلَّا ففي كلامه ما يدلُّ على رأيه في اعتباطيَّة العلاقة بين الدالِّ والمدلول، وأنَّها ليست باعتباطيَّةٍ مطلَقة. ذلك حينما يقول، عن «قضيَّة اللَّفظ عند المعتزلة وبيان فسادها»: «ومن المعلوم أنْ لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يَجْري مَجراها [أي الوصف بالفصاحة والبلاغة]، ممَّا يُفْرَد فيه اللَّفظُ بالنَّعت والصِّفة، ويُنْسَب فيه الفضلُ والمَزِيَّة إليه دون المعنى، غَيْرُ وصفِ الكلام بحُسْنِ الدِّلالة وتمامِها فيما له كانت دِلالة، ثمَّ تَبَرُّجها في صورةٍ هي أبهى وأزينُ وآنَقُ وأعجبُ وأحقُّ بأنْ تستولي على هَوَى النَّفْس… ولا جهةَ لاستعمال هذه الخصال غيرُ أنْ تَأتِـي المعنى من الجهة التي هي أصحُّ لتأديته، وتَختار له اللَّفظ الذي هو أخصُّ به وأكشفُ عنه وأتمُّ له، وأحرَى بأن يُكسِبه نُبْلًا، ويُظهِر فيه مَزِيَّة.»(3) على أنَّ مفهوم (الاعتباطيَّة) قد ظلَّ في العصر الحديث محلَّ قلقٍ لدَى (السِّيْمَوِيِّين)؛ ولذا سعَى (بياجيه)(4) إلى تسويغ الاعتباطيَّة بإشارته إلى تقسيم (دي سوسير) إيَّاها إلى ما سمَّاه «اعتباطيَّة نِسْبيَّة Relatively Arbitrary» و«اعتباطيَّة جذريَّة Radically Arbitrary». مثلما حاول (بارث)(5) الاستدراك على دي سوسير بتعلُّقه بفِكرة التواطئيَّة الذهنيَّة لدَى أبناء اللُّغة، التي لا مجال لاعتباطيَّةٍ فيها، وإنَّما الاعتباطيَّة تقع في علاقة الإشارة بمرجعيَّتها العَينيَّة.
ـ وهنا هل يمكن أن نتخطَّى تلك النظريَّات الخنفشاريَّة، أو قل: غير العِلميَّة بطبيعة حالها، ولا القائمة على دليلٍ عقليٍّ أو نقلي.
ـ كأني بك تشير إلى مزاعم كتلك التي أدلى بها صاحب كتاب «الصاحبي في فقه اللُّغة»، (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، ـ395هـ= 1004م)(6)، الذاهبة إلى غير رجعة- وفي ثِقَةٍ عجيبة، لم يرزقها من أرباب الخرافات والأساطير من أحد- إلى أنَّ اللُّغة الإنسانيَّة توقيفيَّة؟(7) وهو يخصُّ هنا اللُّغة العَرَبيَّة. حيث قال: «والدليل على صحَّة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلُغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتَّفقون عليه. ثمَّ احتجاجهم بأشعارهم. ولو كانت اللُّغة مواضعة واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منَّا في الاحتجاج بنا، لو احتججنا على لُغة اليوم، ولا فَرْق.»
ـ ويا له من دليلٍ دامغ، وحُجَّة بالغة!
ـ إنَّه يحتجُّ، أوَّلًا، بإجماع العلماء! وما زال هذا ديدن قطعان الاتباعيِّين، في كلِّ زمانٍ ومكان، وفي كلِّ ملَّةٍ وتخصَّص، ممَّن يقدِّسون البَشَر، ويحتقرون عقولهم، إنْ وُجِدت. وأولئك هم الذين جاء وصفهم في «القرآن»: «ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ؛ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ، قَاتَلَهُمُ الله، أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟! اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله.» والذين كفروا من العَرَب هم المحتجُّون بمثل هذا الموروث: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟!»
ـ أمَّا احتجاجه على توقيفيَّة اللُّغة باحتجاج العلماء بلُغة العَرَب وأشعارهم، فأشدُّ غرابة.
ـ وهو حُجَّةٌ عليه لا له، لو كان يفكِّر تفكيرًا مستقيمًا. لأنَّه بهذا قد بَقَرَ زعمه السابق، مُقِرًّا أنَّ اللُّغة لا تبقى على حال. والذين احتجُّوا بلُغة العَرَب قبل الإسلام وبأشعارهم لم يفعلوا ذلك لأنَّ لُغة العَرَب مقدَّسة أو توقيفيَّة، وإنَّما لأنَّ «القرآن» نزل في ذلك العصر الذي يحتجُّون بلُغة أهله وبأشعارهم. فلمَّا رأوا فساد اللُّغة قد اعتور أهالي العصر، امتنعوا عن الاحتجاج بلُغته الفاسدة بتقديرهم. وهذا أكبر دليل على أنَّ اللُّغة ليست بتوقيفيَّة، بل هي كائن ٌحيٌّ يتطوَّر ويتغيَّر، سلبًا أو إيجابًا، وإلَّا لثبتت على حالٍ واحدة.
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
................................
(1) (1988)، الشَّوقيَّات: الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، (بيروت: دار العودة)، 1: 119.
(2) يُنظَر: (1979)، ديوان شوقي، بتوثيق وتبويب وشرح وتعقيب: أحمد محمَّد الحوفي، (القاهرة: نهضة مصر)، 341-347.
(3) الجرجاني، عبدالقاهر،(1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 43.
(4) Piaget, Jean, (1971), Structuralism, Translated and edited by CHANINAH MASCHLER, (First published in Great Britain), p.78.
(5) See: (March 1977), Elements of Semiology, Translated from French Language by Annette Lavers and Colin Smith, (New York: Hill Wang), p.50- 51.
(6) يُنظَر: (د.ت)، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 6- 00.
(7) وإذا كانت هذه الفِكرة قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب كلَّ شيءٍ تقريبًا إلى الغَيب، فإنَّ فِكرة (الاعتباطيَّة) قد جاءت وليدةَ عصرٍ سادَ فيه فِكرٌ يَنسِب الأشياء في الطبيعة غالبًا إلى الصُّدفة المحضة، والعبثيَّة، واعتباطيَّة العلاقات. وفي كلا الاتِّجاهَين غُلُوٌّ، تُكذِّبه القرائن العِلميَّة. أضف إلى هذا أنَّ الاعتباطيَّة- المنسوبة إلى (دي سوسير، -1913) «اعتباطًا»؛ من حيث إنَّه لم يؤلِّف بنفسه الكتاب المنسوب إليه أصلًا، بل كان محاضرات، جمعها تلميذان من تلاميذه ونشراها بعد وفاته بثلاث سنوات، 1916- إنَّما تنبني على تحليل اللُّغات الأوربيَّة، الغالبة عليها الطبيعة اللَّصقيَّة والاصطلاحيَّة التركيبيَّة. ثمَّ جاءنا اللغويُّون العَرَب الاتِّباعيُّون، فآمنوا بتلك الآراء، وأمَّنوا عليها كالعادة، غير مميِّزين بين لغتهم العَرَبيَّة- ذات التاريخ الشَّفويِّ الموغل في القِدَم، وذات الطبيعة النوعيَّة- وبين تلك اللُّغات التي انبثقت عنها النظريَّة الاعتباطيَّة في الغرب أساسًا. حتى إنَّك لتجد معظم شواهد الاحتجاج لدَى العَرَب تكاد لا تعدو ترديد شواهد الدراسات الغربيَّة نفسها، من الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة!






