قراءات نقدية

حيدر مجيد اليعقوبي: من أشواك مريم إلى مسمار فاطمة.. قراءة في فيلم (Fatima 2020)

يعدُّ فيلم "فاطمة" (Fatima 2020) للمخرج ماركو بونتيكورفو، أحدث معالجة سينمائيّة لواحدة من أشهر الأحداث الدينية في القرن العشرين (نهاية الألفيّة الثانية)، يقدم الفيلم توثيقًا دراميًّا للأحداث التي جرت في بلدة "فاطمة" في البرتغال عام 1917، حيث ادّعى ثلاثة أطفال من الرعاة هم: (لوسيا دوس سانتوس وابنا عمها: فرانسيسكو وجاسينتا مارتو) أنّهم شاهدوا أكثر من مرّة سيدة "مشرقة أكثر من الشمس" قادمة من الجنّة، وأخبرتهم بأخبار غيبيّة عن الحروب المستقبليّة وعن موت فرانسيسكو وجاسينتا وأمور أخرى، والتي تحققت بالفعل لاحقًا.

ترصد الدراما الصراع الذي واجهه هؤلاء الأطفال، بين إصرارهم على صدق مشاهدتهم وبين ضغوط السلطات العلمانيّة المعادية للدين في الجمهوريّة البرتغاليّة الأولى، وكذلك شكوك الكنيسة الكاثوليكية نفسها مع إنكار أهاليهم في بداية الأمر، ويبلغ الحدث ذروته فيما عُرف بمعجزة الشمس في 13 أكتوبر عام 1917، التي شهدها جمع غفير يُقدّر بمئة ألف أو يزيدون.

يستند هذا الفيلم وكذلك الرواية الرسمية للكنيسة إلى النص الأصلي الموثق لهذه الظهورات وهو "مذكرات الأخت لوسيا" (Memoirs of Sister Lucia) التي كتبتها بعد سنوات، تقدّم هذه الرواية تفسيرًا لاهوتيًّا كاثوليكيًّا للحدث، إذ عرّفت السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيدة المسبحة" (Lady of the Rosary)، وطلبت من الأطفال الصلاة والتكفير عن الخطايا، وأوكلت هذا الأمر إلى لوسيا بوصفها رسولة المسيح إلى هذا العالم، وقد فسرتها الكنيسة الكاثوليكية رسميًّا منذ عام 1930 بأنّها السيّدة مريم العذراء.

غير أنّ هذا التفسير الكاثوليكي الرسمي يتجاهل مفارقات جوهريّة، تفتح بابًا واسعًا للتأويل، وأولى هذه المفارقات هو مكان الحدث، حيث يحمل اسمًا عربيًّا إسلاميًّا يعود إلى فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وتنسب الروايات التاريخيّة الشائعة الاسم إلى أميرة مسلمة (موريسكية) من القرن الثاني عشر تُدعى "فاطمة"، مما يضعنا أمام مفارقة أوليّة: حدث يُفسر مسيحيًّا، يقع في مسرح يحمل اسمًا إسلاميًّا، وهذه المفارقة مصحوبة بالانزياحات الرمزيّة والبصريّة التي يقدمها الفيلم نفسه – والتي سنناقشها لاحقا – تدعونا إلى تجاوز التفسير الرسمي نحو تحليل أعمق للرموز والخطاب.

لا تتوقف المفارقات عند الاسم وحسب، بل تتجلى بوضوح أكبر في النص البصري للفيلم الذي ينحرف عن النص الأصلي بطرق تحمل دلالات عميقة.

1-  من الأشواك إلى المسامير:

يذكر النص الأصلي، أنّ السيّدة أظهرت للأطفال قلبًا محاطًا بالأشواك، وهذه إحالة واضحة إلى تاج الأشواك الذي وُضع على رأس السيّد المسيح، والذي يجسّد آلامه، ولكن الفيلم، في معالجته الدراميّة، يظهر المشهد على أنّ السيّدة كشفت عن منطقة صدرها لتري الأطفال تلك المسامير النابتة في صدرها وجريان دمها، وهذا الترخيص الفني من المخرج ليس بريئًا من الناحية التأويليّة، إذ كان المخرج يهدف – على الأغلب – لربط آلام مريم بمسامير صلب المسيح، ولكنّه بقصد أو بغير قصد فتح بابًا لتناص مع سياق آخر تماما، ويحمل دلالات أخرى، فالمسمار رمز غائب عن لاهوت مريم العذراء، ولكنّه رمز محوري وحاضر بقوّة في الذاكرة الإسلاميّة الشيعيّة كأداة مرتبطة بآلام السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حادثة (مسمار الباب)، لقد استبدل الفيلم رمزًا مسيحيًّا خالصًا (الأشواك) برمز مشترك (المسمار)، وهو يمتلك إحالة أقوى في السياق الإسلامي الشيعي لحادثة الدار الفاطمي.

2-  مركزيّة المسبحة:

تعرّف السيدة القادمة من الجنّة نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة"، وفي حين يُفسّر هذا مباشرة بـ"المسبحة الورديّة" (Rosary) الكاثوليكيّة، فإنّ هذا التوازي الوظيفي مع تسبيح فاطمة الزهراء في التراث الإسلامي الشيعي لا يمكن إغفاله نقديًّا (تأويليًّا)، فكلاهما عبادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشخصيّة المقدّسة (مريم، فاطمة عليهما السلام)، وكلاهما يُستخدم كأداة للذكر.

3-  المعجزة "حادثة الشمس":

إنّ الدليل الأكبر الذي قُدّم للحشود (معجزة الشمس) له نظير نمطي مدهش في التراث الإسلامي، فظاهرة "سقوط الشمس" في الظهور الأخير للسيّدة تجد صداها في كرامة "ردّ الشمس" للإمام عليّ عليه السلام (زوج السيدة فاطمة عليها السلام)، إنّ تكرار نمط المعجزة الكونيّة الشمسيّة كدليل إثبات في كلا السياقين يربط سياق السيّدة في البرتغال بسياق "علي وفاطمة" عليهما السلام.

4-  تحليل الخطاب:

إذا كان الإطار الرمزي الخارجي (الاسم، المسمار، المسبحة، المعجزة) يهيئ المسرح لقراءة مغايرة، فإنّ الخطاب الداخلي للسيّدة في الفيلم يكاد يُصرّح بهذه القراءة عبر ثغرات عميقة:

أ- أزمة الهويّة: اللافت أنّ السيّدة لم تقل صراحة أنا مريم العذراء أو أمّ المسيح أو ما شابه، بل عرفت نفسها على أنّها "سيّدة المسبحة" مما يحيل إلى قراءة مختلفة تمامًا للحدث عن القراءة الكاثوليكيّة، والأكثر دهشة وغرابة من ذلك – كما يظهر في الفيلم - هو حديث السيّدة المتكرر عن مريم العذراء وكأنّها شخص آخر، وهذا (انفصام لغوي)، ويعدّ دليلا تأويليًّا قويًّا على أنّ الذات المتكلّمة ليست هي الذات المشار إليها (مريم العذراء عليها السلام).

ب- أزمة اللاهوت: يكشف خطاب السيّدة عن تناقضات مع العقيدة التي يُفترض أنها تمثلها، فهي تطالب الجمهور (الذي يُفترض أنّهم من المؤمنين) بالإيمان، كما حدث مع الطفل المقعد، إذ طلبت أمه من لوسيا أن تطلب له الشفاء من السيّدة، فطالبتهم السيدة بالإيمان ليُشفى الطفل، مما أثار استغراب الأم قائلة "ابني مؤمن!"، وهذا يشير إلى أنّ السيدة لم تطالبهم بتعميق إيمانهم، بل هي طالبت بالإيمان، مما يعني (ربّما) أنّها تطالبهم بإيمان مغاير عن إيمانهم.

كما أنّها طالبتهم بالتوقف عن إهانة الله، وقالت: "الله أبعد من أن يهان فعلا"، وهذا المفهوم غريب جدًّا، فالله لا يُهان بذنوب العباد، وهذه لغة أراها غريبة عن اللغة المسيحيّة، ولكنّها لغة قرآنيّة بامتياز، يقول سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۚ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (المائدة، 73)، والأغرب من ذلك إخبارها للوسيا بأنّها ستهديهم إلى ابنها، ولا أعلم كيف تهديم لابنها وهم يعبدونه في الأصل، فهل تريد الإشارة إلى أنّ كيفية اتباعهم باطلة؟، أم أنّها تقصد شخصًا آخر غير المسيح؟، هذا في حال كونها مريم، أم في كونها فاطمة الزهراء عليها السلام فالمسألة واضحة، وهذا التحليل يعضّد التأويلات المغايرة للرموز المذكورة في الحادثة الأصلية والفيلم السينمائي الذي جسّدها.

إنّ قراءة فيلم (Fatima 2020) بمعزل عن سياقه الرسمي الكاثوليكي، وباستخدام النقد التأويلي، تكشف عن نسق دلالي متكامل ومدهش، فعندما تجتمع الرموز التي حللناها مع الخطاب الداخلي فإنّنا نصل إلى ضرورة رمزيّة.

يخلص هذا المقال إلى أنّ فيلم "فاطمة" والنص الأصلي للحدث نفسه، بغض النظر عن قصديّة المؤلّف، هو نص مفتوح، يُنتج معنى يتجاوز تفسيره الرسمي، إنّه نص يروي قصّة ظهور حقيقي لمريم العذراء (بحسب التفسير الكاثوليكي) ولكنّه يضمر بقوّة قصّة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإمّا أن يكون الظهور ظهورًا فاطميًّا أوّل بتأويل مسيحي، أو أنّه ظهور مريمي حقيقي، يضمر المعنى الحقيقي لهذا الظهور، وهو: فاطمة الزهراء، رمز الحبّ والسلام من جهة، والثورة على الظلم من جهة أخرى.

***

حيدر مجيد اليعقوبي – جامعة الكوفة – كليّة الآداب

في المثقف اليوم