قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: شجرة النسيان.. انكسار الذات في مرايا الذاكرة والغياب

دراسة تحليلية رمزية نفسية وتأويلية في قصيدة «شجرة نسيان» للشاعر أيمن معروف

بين النسيان والركض كاستعارتين للوجود، يقدّم الشاعر أيمن معروف في قصيدته «شجرة نسيان» وهي تجربة شعرية تتجاوز البنية الوصفية إلى ما يمكن أن نسمّيه تفكيكاً وجودياً للذات عبر رموز النسيان والركض، حيث يتخذ النسيان هيئة الخلاص والتلاشي في آنٍ واحد، بينما يتحوّل الركض إلى حركة بلا اتجاه، دائرية ومفتوحة على فراغ الوجود.

منذ المطلع، يعلن الشاعر انكساره بلغة صادمة:

«كنتُ شاعراً. أكلني الذئبُ في الطريقِ / ولم تلتفتِ السيارةُ والمارّةُ...»

في هذه الجملة تتكثّف ثنائية الحياة والمحو، فالشاعر هنا ليس فقط منبوذاً، بل ضحية اغتراب مزدوج: اغتراب عن العالم الخارجي (المارة والسيارة)، واغتراب عن ذاته الشاعرة التي ابتلعها «الذئب»؛ وهو رمز الغريزة والخراب والوحشة.

أولاً: الرمز بوصفه بؤرة الوجود الشعري

يحمل النص بنية رمزية مركبة، حيث يتحول النسيان إلى جوهر أنطولوجي (وجودي) يُعاد فيه تشكيل الذات بعد فنائها:

«صار النسيان مادتي الخام، يمحوني ثم يعيد تشكيلي...»

هنا يرتقي الشاعر بالنسيان من مجرد فعل نفسي إلى فلسفة للحياة. فكما يقول هايدغر، إن الإنسان لا يوجد إلا في قدرته على النسيان، لأن «الوجود ذاته هو إمكان يتبدّى في الانفتاح على العدم».

النسيان إذن ليس هروباً، بل ولادة ثانية عبر الفناء. وهذا يتقاطع مع رؤية نيتشه حين قال إن الإنسان لا يمكنه أن يبدع إلا إذا امتلك «قدرة نسيان فعالة»، تتيح له التحرر من ثقل الماضي.

ثانياً: البنية النفسية – الركض كأعراض القلق الوجودي

القصيدة بأكملها تُبنى على تكرار فعل واحد:

«أركض... أركض... أركض دون اتجاه»

يتحوّل الركض إلى علامة نفسية للقلق الوجودي، أشبه بما وصفه كيركغارد بـ«دوّار الحرية»، أي ذلك الشعور بالانفصال عن المعنى في عالم بلا مركز.

الركض هنا ليس فعلاً حركياً، بل تجسيداً لانعدام السكون الداخلي. فالشاعر لا يركض ليصل، بل يركض لأنه لا يستطيع التوقف.

وهذا ما يجعل النص أقرب إلى الاعتراف النفسي المتعب، حيث تختلط الحركة بالمحو:

 «أركض في داخلي. أركض في كل اتجاه. دونما أسف أو ندم»

إنه ركض داخلي، في دهاليز النفس لا في الطرقات، وكأن الشاعر يسير في متاهة صمّاء لا تفضي إلا إلى ذاته المنهكة.

ثالثاً: المستوى التأويلي (الهيرمينوطيقي): النسيان كإعادة قراءة للذات

تقوم القراءة الهيرمينوطيقية على تفكيك النص من خلال دائرته التأويلية؛ أي العلاقة بين الجزء والكل، بين التجربة الفردية والرؤية الكونية.

فكل مقطع من القصيدة هو حلقة في دائرة التلاشي والولادة، يبدأ بالمحو وينتهي بالتشكل.

 «يمحوني ثم يعيد تشكيلي... لأتمّ عدّة الطريق»

هذه الجملة تلخّص البنية التأويلية للنص: الطريق بوصفه مجازاً للوجود، والعدّة هي التجربة الشعرية والإنسانية التي لا تكتمل إلا بالضياع.

فالنسيان هنا ليس خصماً للذاكرة، بل معنى مكمّل لها؛ إذ لا يمكن للذات أن تتعرّف على نفسها إلا عبر ما تنساه.

في هذا السياق، يذكّرنا النص بمفهوم الذاكرة والنسيان عند بول ريكور الذي يرى أن النسيان «ليس غياباً للذاكرة بل أحد وجوهها، حين يُعاد تشكيل الماضي في صورة جديدة».

ومن هذا المنظور، فإن الشاعر «يتصالح مع نسيانه» ليولد من رحم العدم كذات أخرى، أكثر وعياً، لكنها أيضاً أكثر وهناً.

رابعاً: الصور الشعرية والإيقاع:

تُبنى القصيدة على صور متتالية تُحوّل المجرد إلى محسوس:

 «أُقشّر كمأة الغياب وأبكي»

«أجعل من حبّات الدمع أعشاش طيور»

في هاتين الصورتين يزاوج الشاعر بين الألم والتحوّل، بين الدمع بوصفه سقوطاً والطيور بوصفها صعوداً. إنها جدلية الانكسار والبعث، حيث يتحوّل الحزن إلى إمكانٍ للحياة.

الإيقاع الداخلي للنص متولّد من تكرار الفعل «أركض»، الذي يمنح القصيدة موسيقى نفسية أشبه بصفير اللاوعي. التكرار هنا ليس زخرفة بل إيقاع للهاجس، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الإيقاع هو زمن المعنى».

إذ تتوالى الأفعال والحركات لتخلق موسيقى داخلية تترجم التوتر الوجودي للشاعر بين الرغبة في الثبات واستحالة التوقف.

خامساً: البعد الفلسفي والرمزي لشجرة النسيان

في الختام، تُختزل التجربة في صورةٍ ميتافيزيقية:

 «أنا، شجرةُ نسيانٍ طويلة»

هنا يتحقق الاندماج الكامل بين الذات والرمز.

الشاعر لم يعد يصف النسيان، بل أصبح هو ذاته النسيان.

الشجرة ترمز إلى الجذور والامتداد في آنٍ واحد، والنسيان إلى المحو، فالتعبير يجمع بين الثبات والزوال، بين الحياة والموت، في ما يشبه التحوّل الهيراقليطي الدائم حيث «كل شيء يتغير ولا شيء يبقى».

إنه كائن من نسيان، ممتد في الزمان، بلا ذاكرة، بلا مرفأ، بلا هوية إلا الركض نفسه.

خاتمة: الشعر كنجاة من الوعي الثقيل:

تبدو «شجرة نسيان» نصًّا عن عبث الوجود في عالمٍ فقد مركزه، وعن انكسار الإنسان الحديث أمام تيه المعنى وتضخم الذاكرة.

فالشاعر، مثل سيسيف، يركض نحو لا شيء، لكن في هذا الركض ذاته تكمن بطولته المأساوية.

يؤكّد النص أن الشعر لا يخلّد الذاكرة، بل يمنحنا نسياناً مضيئاً نواجه به ظلمة الوعي، وأن الخلاص لا يكون بالاستقرار، بل في الحركة الدائمة نحو المجهول.

كما لو أن الشاعر يقول مع ألبير كامو في أسطورة سيزيف:

 «علينا أن نتصور سيزيف سعيداً، وهو يجرّ صخرته إلى أعلى الجبل».

ففي النسيان ـ كما في الركض ـ تتجلى مأساة الإنسان وجلاله في آنٍ واحد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

شجرة نسيان

بقلم: أيمن معروف          

كنتُ شاعراً.

أكلَني الذّئبُ في الطّريقِ

ولم تلتفت السَّيَّارَةُ والمارَّةُ والعائدونَ

منَ الصّيدِ، لوجودي.

*

هكذا،

اكتشفتُ اسمي في النّسيان

وسرعانَ ما ضيَّعتُهُ

في النّسيان.

*

صار النّسيانُ

مادَّتي الخام يمحوني ثُمَّ يُعيدُ

تشكيلي ويوصلُني منْ جديد لأتمَّ

عدّةَ الطريق.

*

الاتّجاهاتُ

ندوبٌ في مرآتِيَ المُحدَّبة

ودمي، بحذافيرِهِ في كلمةٍ سوداء

على الجريدةِ، أبيض.

*

ابْيَضَّ دمي.

والأيّامُ الضّخمةُ جعلتْني أجرُّ رأساً هائلاً

ومجنوناً طوالَ تلك السّنين،

وأركض.

*

أركضُ في داخلي.

أركضُ في كلِّ اتّجاه. دونما أسفٍ

أو ندمٍ، أركض.

*

منْ سلالةِ العدّائين.

ومع هذا لم تذكرني الإذاعاتُ أو تأتي

على اسمي الصُّحف.

*

أرمي جسدي

مثلَ شيءٍ في الطّريقِ،

وأركض.

*

أُلمِّعُ كوارثَ النّهار

وأحملُها مثل أخطاءٍ قديمة

ولا أستعمل التّذكّر.

*

أُقشِّرُ

كَمْأَةَ الغيابِ، وأبكي. أبكي،

وأنا أركض.

*

أجعلُ منْ حبّاتِ الدّمعِ

أعشاشَ طيورٍ أكمنُ لها في قلبِ الوردةِ،

وأركض.

*

أركض. أركض.

أركضُ دونَ اتّجاهٍ. أركضُ

دونَ أثر.

*

نسيتُ،

حياتي، هناكَ، أركض.

*

أركضُ،

في البلادِ الّتي ليسَ فيها

سوى الرّكض.

*

ملءَ يدي

ثلاث علبٍ للتّيه وثلاثُ حماماتٍ

تلمعُ في عينيَّ وعلى جبيني

قوسُ قزح.

*

أنا،

شجرةُ نسيان طويلة.

 

في المثقف اليوم