قراءات نقدية
مرشدة جاويش: تفكيك صوفي للغياب.. قراءة أنطولوجيّة في نصّ "روح ضائعة"

روح ضائعة
للدكتور أمين جياد
السَّديمُ جُرمٌ بعيدٌ يَسْري ظلاماً، يعكسُ ضوءَ النجومِ،
والشمسُ دوائرُ عشقٍ،
تبعثُ دمدمةَ لهيبٍ مهولٍ فوقَ جسدِ الأرضِ،
والروحُ تسْري بحراً ثابتاً،
أراها رنيناً يهتزُّ بَيْنَ أصابعي، وبرقاً وصاعقةً ورياحاً، تلتفُّ أمواجاً عاليةً، تنتشرُ راجعةً تضربُ أحجاراً، فتختفي بينَ زبدِ علىٰ ضفةِ البحر.
***
مقدّمة رؤيويّة ومنهجيّة
يندرج نصّ (روح ضائعة) للدكتور أمين جياد ضمن التجربة الشعرية التي تقيم في تخوم الصوفي والفلسفي حيث يتحول الشعر من خلالها لأداة كشفية
وتتماهى اللغة كمقام للفيض ولاتقتصر على دورها الوصلي والقراءة هنا تنطلق من المنهج التفكيكي الصوفي الذي يرى النص بأنه مدار تتقاطع فيه العلامة بالغياب وينحاز المعنى باللايقين
وتلك الذات بالعالم
بمعنى لا وجود للمعنى خارج تكراره المتحوّل
فتبقى الروح ضمن مسارها فالضياع ليس فناء هنا إنما هو طريق المعرفة ومن هذا المنطلق فإنّ تفكيك النص صوفياً يعني القبض على لحظة التجلي في البنية اللغوية لا تأويلها من خارجها وهذا ما نركز عليه بالتناول النصي
تشريح العنوان:
الروح الضائعة كمقام سلوك
إن العنوان (روح ضائعة) هو مدخل التجربة ومفتاحها الرمزي إذ يُستحضر هنا معنى (الضياع) في الإصطلاح الصوفي بوصفه حالاً من أحوال السالك الذي يتجاوز العقل إلى الذوق
فالضياع هو نفي الإرادة في طريق الوصول وهو ما يسمّيه (الحارث المحاسبي) غيبة الروح عن تدبيرها
بذلك تتحوّل (الروح الضائعة) إلى مقام وجودي أعلى إلى لحظة يغيب فيها العارف عن نفسه في سبيل الإنكشاف ويصير الضياع وجهاً آخر للحضور الإلهي
إن الدكتور أمين يجعل العنوان مجالاً لتأويل متعدد يتجاوز الحرف إلى الإشراق فيغدو اللفظ نفسه شعيرة بل ممارسة للغياب
تحليل النصّ وتفكيكه صوفياً
في قوله (السديم جرم بعيد يسري ظلاماً يعكس ضوء النجوم) نكون أمام لحظة السلوك الأول
أي لحظة الخروج من الكثافة إلى اللطافة أو نحيل ذلك أيضاً من المادة إلى المجاز فالسديم هنا لم يكن كاستعارة قط إنما يشار من خلاله إلى العماء الصوفي الذي تحدث عنه (ابن عربي) حين جعل الخلق يتكون في سديم لا يرى ولا يُدرك إلا بالبصيرة إن هذا السريان في الظلام هو الحركة الأولى للفيض
فالنور في التجربة الصوفية لا يُدرك إلا من جوف العتمة وهنا ينجح الدكتور أمين في جعل الظلام هو ظل للنور
وهو رحْمَه الخلاق فتتبدى فلسفة (أنطولوجية عميقة) مفادها أن الكينونة تولد من نفيها وأن الوجود يُطل من فجوة العدم
إنه تفكيك دلالي للصورة يجعلها تتجاوز المحسوس إلى ما وراءه ويعيدنا إلى مبدأ الخلق في الفقد
ثم تأتي عبارة (والشمس دوائر عشق) لتُدخل النص في مقام الهيام الكوني إذ يتجلى الكون كله إلى حركة عشق دائرية
فالشمس في القراءة الصوفية أبعد ما تكون عن مصدراً للضوء لكنها رمزاً لـ(النور المحمدي) الأول الذي يُفيض المعنى على الوجود أما الدوائر فهي إشارة إلى تكرار الظهور الإلهي في العالم وإلى دورات الفناء والبقاء التي يعيشها السالك في رحلته نحو المطلق
وبذلك تصبح الصورة ذات طابع إشراقي تفكيكي فهي تفكك علاقة السبب بالمسبب والمرئي باللامرئي لأن العشق لا يُعلّل بل يتجدد في لحظة الدوران كما قال (الحلاج):
/أنا من أهوى ومن أهوى أنا/
وفي قوله:
/والروح تسري بحراً ثابتاً/
تتجلى المفارقة الكبرى التي يتقنها الدكتور أمين:
فالبحر الثابت هو نفي لحركته الظاهرة وهو مقام التمكين بعد التلوين في المصطلح الصوفي
هنا تتجسد وحدة المتناقضات:
/السريان والثبات/
/الظاهر والباطن/
/الحركة والسكون/ هذه الثنائية المنحلّة هي عين ما يسميه دريدا (différance) أي تأجيل الحضور الدائم حيث لا يكتمل المعنى لأنه يتوالد في لحظة غيابه
لكن في السياق الصوفي هذا التأجيل لم يكن نقصاً إنما هو كمالاً لأن السالك لا يرى الحق دفعة واحدة بل عبر مرايا الفيض المتدرج
إن النص يمارس هنا تفكيكاً صوفياً حقيقياً:
يُعيد تعريف اللغة بإعتبارها سلوكاً روحياً ليبعدها عن كونها وظيفة تصويرية
ونراه يقول (أراها رنيناً يهتزّ بين أصابعي) فيحول الناص المبدع د. أمين الروح هنا إلى ذبذبة صوتية وكأن الوجود كله موسيقى تتردد في جسد العارف
فالرنين من خلال السياقية نجده يتجاوز الصوت ولايقتصر عليه وذلك لأنه أثر التجلي الإلهي في المادة وهو ما عبر عنه (السهروردي) حين قال:
/إن الأنوار إذا تجلّت أحدثت صدى في النفوس/
بهذا الوعي تتجاوز القصيدة بنية الصورة إلى (ميتافيزيقيا) الإدراك فالإحساس يتحول إلى طريق للمعرفة
فالروح بالنص لا ترى ولا تُمس بل تهتز أي تُدرَك عبر الرجّة التي تتركها في الوجود إنها قراءة تُحوّل الغيب إلى حركة محسوسة والمعنى إلى ذبذبة لا تهدأ
وحين يقول الشاعر (وبرقاً وصاعقةً ورياحاً تلتف أمواجاً عاليةً تنتشر راجعةً تضرب أحجاراً فتختفي بين زبدٍ على ضفة البحر)
فإن النص هنا يبلغ مقام الهيبة والإحتراق أي لحظة التماس بالنور الذي يُفني البرق فهو اللمح الصوفي الخاطف
والصاعقة هي التجلي الماحق
والريح هي قبض النفس قبل الفناء
فكلها صور تشير إلى (التخلي) و(التحقق) إلى تلك المرحلة التي لا يبقى فيها من الذات شيء سوى أثر الزبد بعد انحسار الموج
إنها مرحلة فناء الفناء التي تحدث عنها (ابن عربي)
/حين يغيب العارف حتى عن وعيه بالغياب/
هذا المشهد الأخير يتخذ بنية دائرية تعيدنا إلى السديم الأول وكأن النص يتحقق في حركة أبدية من الظهور والامّحاء
هنا تتجلى عبقرية الدكتور أمين في بناء نص يحاكي البنية الكونية نفسها: فكل صورة فيه تولد من انهدام ما قبلها وكل معنى ينقض معناه السابق ليُثبت حركة الوجود اللانهائية
إنه نص لا ينغلق على تأويل واحد بل يقيم في الحيز الذي تسكنه الصوفية الحديثة: اللغة كطريق للحق
أضافة للكتابة كرياضة وجودية هكذا يرتسم النص إلى (مرآة للفيض) وإلى مقام من مقامات السلوك الروحي يتدرج فيه الخلق والفناء مع البصر والبصيرة في وحدة إشراق نادرة تعيد للقصيدة معناها الكوني
إن قراءة نص (روح ضائعة) تفكيكاً صوفياً تكشف عن شاعر يدرك جوهر الروح بعيداً عن كونه فكرة بل سير مستمر بين النور والظل وأيضاً عبر الإمحاء والوجود إن الدكتور لا يكتب شعره ليكون نوعاً أدبياً إنما يعتمده رياضة ومسار للتجربة الروحية للغة فكل صورة عنده كمقام وكل كلمة كحال وكل جملة كتجلّي جديد للمعنى
لغته شفافة كالنور لكنها عميقة كالعماء وصوره تتجاوز البلاغة إلى الإشراق
إنه شاعر وفيلسوف وصوفي كل ذلك بل أكثر
يكتب من موقع الرائي مجانباً موقع الراوي
ومن موقع العارف مبتعداً عن موقع الواصف
ففي (روح ضائعة) يبلغ الشعر منطقه الأعلى:
أن يتحول إلى تأمل كوني في ماهية الروح وأن يكتب الضياع كطريق إلى المعرفة
في نص يستحق أن يُقرأ بوصفه بياناً صوفياً جديداً في الشعر العربي الحديث
أبدعه دكتورنا العميق المغاير
فيلسوف الصوفية
***
مع مودتي والتحايا
مرشدة جاويش