قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: الفينومينولوجيا وتجلياتها السردية

من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي

يُعَدُّ المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي صاغه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل من أهم المناهج الفلسفية التي أحدثت انعطافاً في مسار الفكر الغربي الحديث. جوهره قائم على العودة إلى "الأشياء ذاتها" عبر تعليق الأحكام المسبقة وتحرير الظواهر من أغلفة التفسير الميتافيزيقي أو الاجتماعي، والولوج إليها من خلال التجربة الحسية والوعي المباشر. لكنّ اللافت في هذا المنهج أنّه لم يبقَ حبيس الدرس الفلسفي، بل تمدّد إلى ميادين الأدب والفن، ليُصبح أداة حيوية لفهم الإنسان في انفعالاته وأزماته وتحوّلاته الداخلية.

لقد كان فيودور ديستويفسكي أحد أبرز الروائيين الذين جسّدوا بعمق هذا المنهج قبل أن يتبلور كمفهوم فلسفي. ففي روايته المراهق نلمح ملامح تحليل ظاهراتي خالص، حيث يغدو السرد فضاءً لاستبطان الوعي البشري بأدقّ تحولاته. لا يتعامل ديستويفسكي مع أبطاله ككائنات خارجية بل كعوالم داخلية تتكشّف من خلال الحضور المباشر للوعي القَلِق، المتردد، والممزّق بين الرغبة والواجب، بين الأنا والآخر. وهنا يلتقي الفن الروائي مع الفينومينولوجيا في كونها "علم التجربة الداخلية" بامتياز.

وعلى نحوٍ موازٍ، نجد أنّ الأدب العربي المعاصر أخذ يستلهم هذا المنهج وإن بطرائق متفرّقة. في المجموعة القصصية «عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» للروائية السعودية رجاء البوعلي، يتبدّى أثر الفلسفة الظاهراتية واضحاً في محاولة الكاتبة استعادة التجربة الإنسانية من الداخل، لا بوصفها حكاية خارجية بل باعتبارها "وعيًا يعيش لحظته". فالقصة عندها لا تكتفي برسم الأحداث، بل تسعى إلى إعادة بناء التجربة الحسيّة والشعورية كما تُعاش في لحظتها الأولى، لتصبح الحكاية ضرباً من "التأمل" الذي يستنطق ما يتوارى خلف سطح الظواهر.

وقد أشار الناقد غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ الأدب العظيم هو ذاك الذي يمنحنا "إقامة جديدة في العالم"، أي يعيد صياغة إدراكنا لأبسط الأشياء وأقربها إلى حواسنا. وهذا بالضبط ما تتيحه الفينومينولوجيا حين تتسرب إلى بنية السرد: إنها لا تبحث عن المعنى في "الحدث الكبير"، بل في التفاصيل المألوفة التي يُعاد إدراكها من زاوية جديدة.

في التراث العربي يمكن أن نجد صدى لهذا المنحى في كتابات نجيب محفوظ، لاسيما في اللص والكلاب حيث يصبح وعي سعيد مهران بالمدينة والمطاردات والأصوات الخارجية انعكاساً داخلياً لصراعه النفسي. محفوظ، مثل ديستويفسكي، لا يصف الخارج إلا باعتباره مرآة للداخل، وهو بذلك يقارب الروح الفينومينولوجية دون أن يُصرّح بها.

إنّ حضور هذا المنهج في الأدب يعكس حاجة الإنسان الحديثة إلى استعادة ذاته المبعثرة في عالم تغلب عليه السرعة والسطحية. الأدب هنا يصبح مختبراً للوعي، ومكاناً لمساءلة التجربة الإنسانية بأدواتها الأولى: الإحساس، الإدراك، والتأمل. وإذا كان هوسرل قد أراد عبر منهجه تأسيس "علم صارم" للوعي، فإن الأدباء من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي قد جعلوا من هذا العلم فنّاً صارماً يقتنص اللحظة الإنسانية في شفافيتها وارتباكها، ليحوّلها إلى لغة خالدة.

وهكذا، يتّضح أنّ الفينومينولوجيا ليست مجرد فلسفة أكاديمية، بل هي روح تسري في الأدب وتمنحه بعداً جديداً: بعداً يجعل من النص مرآةً لذواتنا، ومن القراءة رحلةً إلى أعماقنا، حيث تصبح الحكاية وسيلة لفهم الحياة ذاتها لا مجرد سردٍ لأحداثها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم