قراءات نقدية

شمس الدين العوني: فسحة في المجموعة القصصية "أخطاء جليلة"

للكاتب عادل الجريدي

قصص قصيرة جدا بطعم الحنين والشجن والقلق وشؤون الكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك..

يظل السرد عموما فنا قديما قدم الانسان مشيرا الى كيانه ووجوده وحاجاته وشؤونه وشجونه ومنه القص كخطاب ناقل به موضوع ووصف وأحداث وشخوص.. ليتطور ذلك عبر المراحل التي تخطتها البشرية بما فيها من تطورات واستحداثات وخيبات ونكسات.. ومن هنا كان لهذه السيرة من الخطاب التجدد والابتكارضمن تعدد الخصائص والأساليب في الابلغ والقول..

ومن هنا وفي سياقات القص وبعد القصة القصيرة بدت معالم وخصائص ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة كنوع سردي له من الابداعية والمميزات ما جعل النسق يتصاعد في التعاطي معه لرشاقة الشكل والاقتراب كثيرا من الشعر حيث التكثيف والجرأة والمباغتة وسعة التخييل والخيال.. وكانت لهذه التجربة في الكتابة حكاية مع الكاتب العالمي أرنست همنغواي حيث شهدت سنة 1925 نصا من ست كلمات كالتالي " للبيع… حذاء طفل لم يلبس قط ".. وهناك أراء أخرى للدارسين والنقاد تشير الى أسماء لها صلة بهذا النوع السردي على غرار " ناتالي ساروت” الفرنسية التي سمتها بالانفعالات وقبلها " أليكس فينون " و"إدغار آلن بو" حيث أنهم لم يمهروا ما كتبوا بالقصة القصيرة جدا اشارة أو تصريحا.. ويشير البعض الى أن لهذا الجنس الكتابي حضورا في تراثنا العربي وثقافتنا القديمة وأدبنا الشفهي والمدون كتابة وذلك بالنظر لخصائصه المتصلة بالشعر كالاختزال والتكثيف والمباغتة فضلا عن الحكايات الخاطفة والمختزلة ومنها الطرائف والملح وقد أفاد هذا اللون القصصي ونعني القصة القصيرة جدا من عديد الفنون وأشكال الابداع ففيه القص والشعر والتشكيل والتأملات والمفاجأة وكسر أفق الانتظار والصورة وسعة الخيال في ضيق الحيز الكلامي.. و.. وما الى ذلك.. من المتاح الفني الابداعي الانساني.. ان القصة القصيرة جدا تجترح عالمها وكونها الفني من وحدة الحكاية وسرعة واختزال زمنها وتكثيفها وقلة شخوصها والتلميح وعدم التوسع والشرح فضلا علن عناصر الادهاش وشعرية اللوحة الاطار للقص والقفلة أو النهاية والتوهج.. نشير الى كل هذا من ناحية الاطار والنشأة لهذا الشكل في القص الذي استعاد حضوره في السنوات الأخيرة كحالة تعبيرية أدبية في السرد على غرار حالة الشعر والشعرية مع قصيدة الومضة.. انها عملية الكتابة التي تفضي في هذه الأزمنة الى مبتكرات أخرى في حقولها حيث التداخل أحيانا بين النصوص وممكنات توصيفاتها أين يأخذنا الشعر الى السرد وكذلك يفعل السرد اذ يأخذنا الى الشعر وهكذا.. وهو ما يذكرني بما جاء في مقدمة الناقد صبحي حديدي لمجموعة الشاعر الفلسطيني الراحل أمجد ناصر " حياة كسرد متقطع.. " انها الاشارة الى سؤال مهم وجزهري ومعناه الى أين تأخذنا الكتابة.. انها لعبة الأشكال والألوان والابتكار المفتوح ضمن جعرافيا واحدة أدواتها واحدة انها الكتابة لكن عناصرها وألوانها غير واحدة كان ذلك شعرا أو سردا.. هذا مهم بخصوص حكاية الكتابة وضروبها وأنماطها وأنفاسها وتلويناتها.. وهذا من علامات السلامة بالنسبة للسيدة الكتابة التي لا تخشى المغامرات والبحث والتسميات فقط يبقى الهام في الحفاظ على الابداعية.. وفقط.و في هذا التعدد في التعاطي مع نوع القصة القصيرة جدا نمضي في هذه الفسحة مع الاصدار الجديد للشاعر عادل الجريدي ونعني مجموعته القصصيّة من نوع " القصة القصيرة جدًّا" والتي مهرها ب" أخطاء جليلة" الصادرة عن دار الأدب الوجيز للنشر خلال هذه السنة 2025 ومن عناوينها العديدة نجد (موت مقصود) و(غارة) و(أزهار الحرب) و(تحت الأنقاض) و(اللقاء الأخير) و(موت سريري ) و(سكتة قلبية).

 منذ العنوان تبرز رغبة الكاتب القاص في شعرنة التعاطي مع هذه اللعبة المكتوبة في مائة من النصوص وبالتالي كيف تكون للأخطاء جلالاتها ودلالها ومقاماتها لولا رغبة الجريدي في استدعاء ما هو شعري لحظة كتابته انسجاما مع جيز من اشتراطات هذا الفن.. فن القصة القصيرة جدا..

ان قصص هذا العمل الأدبي لوحات فنية مكتوبة بها الحنين والشجن والقلق وشؤون شتى للكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك تتسارع متغيراته وتبدلات أحواله بأسلوبه الحاضن لهذه الكتابات يكشف عادل الجريدي عن اعتمالات بين ما هو وجداني انساني حميمي اجتماعي سياسي حضاري في سرد بسيط عميق مشوق خفيف مكثف.. ملامسا الكثير من حال الناس وحكاياتهم وأحلامهم.. في القصص كون مشاعر وأوهام وتطلعات بنى من خلالها المؤلف حكاياته القصيرة جدا حيث يجبر القارئ على النفاذ الى كنهها مستعجلا النهاية رغم القصر الشديد للنصوص.. ليكتشف بالتالي جنبا من ذاته بل جوانب من الانسان الذي تتقاذفه الانكسارات وتسعده النجاحات وفي هذا التنوع من الأحاسيس تبرز الأدوار المنسية للسلطة وأية سلطة كانت والمجتمع والناس والآخرين.. والذات.

أسلوب بين شفافية القص وسرعة نبضه وتسارع ايقاعه وتلوينات شخوصه والخلاصات وما أدراك ما الخلاصات والعبر.. انها فسحات سهلة للترعيب في التماهي مع النص وهي للجميع الطفل والشاب واليافع والكهل.. حيث يخلص القارئ الى عناوين شتى تعتصرها القصص ومنها المفارقة حيث الانسان بين زمنين وحالتين وسيل جارف من الحنين قولا بالكامن فيه من رفض للمستحدث المعيق لطبيعته وكيانه ولو باسم التطور وضرورات الأزمنة وهو الباحث في الركام عن هدوئه وأريحيته وايقاعه المطمئن زمن السقوط والتداعيات المريبة.. من ذلك الحنين لما هو مفتقد من جمال الأحوال.. وهنا تصدمنا قصة " المائدة " ص10و ترجنا رجا جميلا نستحقه :

(كنا اذا اجتمعنا حول مائدة الطعام تشتعل بيننا حرب ضروس نتزاحم في فرح طفوليو ان اشتد قتال الملاعق في قاع الاناء نضحك بشراهة فنشبع.. ومنذ أن غيرنا المائدة بأخرى فاخرة وتوزعنا على أطباق ممتلئة بالأكل.. فقدنا الاحساس بالشبع..)

من منا لم يعش هذا الاحساس العميق والدال.. انها قصة بسيطة مشتركة الأحاسيس والعواطف والذكريات تحاهها ولكنها عميقة في اشاراتها وادانتها للمعيش الانساني المكلل بالزيف والأقنعة.. انها شهادة محكية بفن القصة القصيرة جدا وجدا للنفاذ الى أعماق الذات الانسانية ووجدانها وهي التي لوثتها وسعت الى تشييئها العولمة والتسارع الواهم للأشياء.. ان التطور الانساني مهم ولكم هذا لا يجب أن ينسينا أصل الأشياء ومنها ذواتنا وبالمناسبة أذكر معنى ما قاله الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف (ان هذه الرحلة الطويلة لم تنسني الطريق الى بيتي أسفل الجبل)..

و في قصة (رسالة) نقرأ (علمته الغربة الاقتصاد في كل شيء فكتب بكل اختصار:

أنا بخير يا أمي.. كل ما ينقصني قطعة فرح وحذائي القديم.. ردت والدته على عجل: شجرة البيت تيبست في غياب ظلها).

تكثيف ورمزية عالية لتناول الأشياء والظواهر والسلوكيات والمواقف في أسلوب بين المرح والغرابة والدهشة والادانة.. وهكذا.

" أخطاء جليلة " للقاص الشاعر عادل الجريدي كتابة وفق نهج موغل في ايجاز سردياته المجترحة من المجتمع والناس وبكثير من الرغبة تجاه اشتراطات القص جد قصير.

***

شمس الدين العوني

في المثقف اليوم