قراءات نقدية

د. عدنان عويّد: دراسات نقديّة.. أهمية اللون في الأدب

اللّون لغةً: ورد معنى اللّون في معجم لسان العرب أنّه هَيْئةٌ كالسّواد، والحُمْرةِ، ونقول: لَوَّنْتُهُ فتلوّنَ، ولَونُ كُلِّ شيءٍ ما فَصَلَ بينه وبين غيرِه، والجمع “ألوان”، وقد تَلَوّنَ، ولَوَّنَ، ولَوَّنَهُ، والألوانُ الضُّروبُ، واللّون النّوعُ، وفُلانٌ مُتَلَوِّنٌ إذا كان لا يَثْبُتُ على خُلُقٍ واحدٍ، واللّون “الدَّقْلُ”، وهو نوعٌ مِنَ النّخْلِ.

أما اللّون اصطلاحًا في مجال الأدب:

لقد حدد طبيعته ودلالاته النّقّاد العرب القُدامى والمحدثين مثل:

(الجاحظ (255ه/868م) الذي يرى "أنَّ الشّعْرَ صناعةٌ، وضَرْبٌ من النّسيج، وجنْسٌ من التّصوير". ومِثْله ابن طباطبا (322ه/934م)، الذي درس العلائق بين الفنون، فعنده "إنّ الشّاعر الحاذق كالنّسّاج الحاذق الذي يصنع الأصباغ في أحْسَنِ تقاسيم نقشه، ويُشْبِعُ كلّ صِبْغٍ منها حتى يتضاعَفَ حُسْنُه في العيان.". أمّا عبد القاهر الجرجاني (471ه/1078م)، فذكر العلاقة بين الشّعر والرّسم، قالاً: "وإنّما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل معها الصّور والنّقوش، فأكّدَ بذلك التّقارب بين صِفِةِ الأديب المبدعِ والرّسّام، فكلاهما يقدّم عملًا حِسَّيًا. ولعلّ حازم القرطاجني (684ه/1284م) أشار بعده بِقَرْنَين إلى هذه العلاقة، فقال عن المحاكاة: "إنَّ المحاكاة كالمسموعات تجري من السّمْعِ مجرى الملوّنات من البصر”). (1).

الدلالات المجازيّة للّون في الأدب:

بداية دعونا نقف عند مسألة هامة بالنسبة للنظر في مسألة اللّون عند كل من الأديب والفنان التشكيلي.، فهناك فرق بين نظرة الفنان التشكيلي إلى اللّون وطريقة موضعته في اللوحة الفنية التشكيليّة، أو بالنسبة لتشكيله وطريقة موضعته عند الأديب في النص الأدبي شعراً أو نثراُ.

فالفنان التشكيلي يتعامل مع اللّون عبر إحساساته الملموسة للّون وشكله وطريقة توظيفه. فبالنسبة لشكل اللون عنده يأتي بصريّا، فهناك اللون الأبيض والأسود والأحمر والأخضر والأصفر وما يعرف من بقية الألوان الأخرى واشتقاقاتها أو تناسلها عبر عملية مزج الألوان مع بعضها، كما أن للون عند الفنان التشكيلي أيضاً سمات وخصائص محددة، ومن حيث خائص اللّون هناك الغامق والفاتح، والحار والبارد والدافئ. وللّون وظيفته وطريقة التعبير عنه وفقاً لشعور الفنان وعمق إحساسه وعمق تجربته والمدرسة الفنيّة التي يتكئ عليها، وكذلك وفقاً لاهتماماته الماديّة والروحيّة معا.

أما في الأدب: فاللّون صيغته الحسيّة الماديّة في الأدب، وله دلالاته عند الأديب والمتلقي معاً. فلو تتبعنا الأدب الجاهلي على سبيل المثال، لرأينا أن اللون حاضر فيه بكل أشكاله، وقد أخذ مساحةً كبيرةً من اهتمام الشعراء، إذ استمدوا موضوعاتهم اللّونيّة من البيئة، وبدا تأثير اللّون واضحا في وجدانهم، فتجلت نصوصهم ملونةً بما تطبعه عليهم الأحاسيس وهم يحاكون الواقع، ومن ذلك قول الشّاعر يصف بكاء الخنساء بقوله:

لما رأتْ عَزمي بكتْ فتورّدتْ

بيضُ الدّموع بخدها المتوردِ

*

تنهل وهي لآلئ وتعــود في

توريد خديها كَلون العسجــدِ

لقد وظف الشاعر لفظة «العسجد»، والعسجد معدن ثمين أصفر اللّون ساطع، تصنع منه الزينة والحلي، وقد وصف الشاعر به خد المرأة لمعاناً وحرارةً بصياغة لافتة للانتباه ودليلاً على الحيويّة والنشاط.(2).

سمات وخصائص ودلالات اللّونين الأسود والأبيض في الأدب:

إن مسألة اللّون عند الأديب، شاعراً كان أوقاصاً أو روائيّاً، نجدها هنا في حالة أو صيغة معنويّة أو بيانيّة، تتخذ من المفردات دلالات تشير في مضمونها إلى لونيين أساسيين في بنية النص، هما الأبيض والأسود. ولكنهما لا يحملان سمات وخصائص اللّون عند الفنان التشكيلي. وإنما لهما سماتهما وخصائصهما ودلالاتهما الايحائيّة الخاصة تماماً كما أشرنا أعلاه.

فاللّون الأسود:

هو اللّون الذي لا يوجد فيه لون ولا ضوء، ويعادل الليل والظلام، ومن أهم خصائصه أنّه لون فيه الصمت والسكون وعدم الحركة. وبالتالي هو يرمز إلى الحزن والخوف والخمول وتقليل النشاط والخفاء والغموض والسرّ والموت والوحشة والقلق. كما أن بعضهم يراه لون الجريمة والسرقة والمأتم والحداد. ويستخدم الأديب للتعبير عن دلالاته في بنية نصه مفردات وعبارات وجمل تدل على القهر والحزن والألم والجوع والاستبداد والتشرد والضياع واللامعقول. فالثوب الأسود، يدلّ على الحزن والظلم واليأس. والعلم الأحمر يدل على الثورة من أجل الحريّة والعدالة، وقطعة القماش البيضاء التي ترفع في المعارك تدل الاستسلام، وفي موضع آخر تدل على السلام والمحبة والتسامح. وكذلك يستخدم الأديب اللّون الأسود تأثّراً بمجتمعه وبيئته، أو يستخدمه من أجل خصائصه النفسيّة والدينيّة وحتى السياسيّة وفقاً لحاجة الأديب له وظيفيّاً في بنية النص.

أما اللون الأبيض:

إن للّون الأبيض كيفيّة إيجابيّة مهيّجة، ومضيئة، ولطيفة ودقيقة، والأبيض من أهمّ ميزاته وأبرز معانيه الرمزيّة، الطهارة، والعصمة، والبراءة، والفرح والانتصار. فالأبيض يرمز إلی السّلام ونهاية الحرب، فلذلك راية السلام بيضاء، علامة التسليم، ومتاركة الحرب، والصداقة وحسن التفاهم. الأبيض لون تحبّه القلوب، لأنّه يبعث الأمل ويسبّب المحبّة والودّ والطهارة والبراءة والتفاؤل.

كما ويعدّ اللّون بعمومه فی الأدب أداةً أساسيّةً للتصوير، بحيث يرتبط توظيفه بالزمان والمكان واللغة والتراث، وكذلك بإبداع الأديب وذوقه الفنّي وحالته النفسيّة ودرجة تأثره بالواقع وحياة مجتمعه وعوامل أخرى.

العلاقة بين اللون ومستويات النص البنيويّة والبلاغيّة والتعبيريّة:

إن الأعمال الأدبيّة الشعريّة منها والنثريّة، تثبت أن استخدام الألوان فيها ليس من باب المصادفة، أو الاستخدام من أجل التزيين، بل توجد هناك صلة وطيدة بين اللّون ومستويات النص البنيويّة والبلاغيّة والتعبيريّة.

إنّ الألوان التي تعتبر انعكاساً للظواهر الواقعيّة في الصور الأدبيّة تشتمل تراثاً ثقافيّاً يحتوي على بنى ثقافيّة متعددة ذات أبعاد زمكانيّة، منها الأسطوريّة والحضاريّة، إضافة لما لها من دلالات لغويّة تتجاوز دور الألوان في بعدها المادي الذي يتجلى استخدامه في الفن التشكيلي كما بينا في موقع سابق، وإنما هي تحيل إلى المعاني الإيحائيّة، لأنّها من العناصر الحيّة في بنية النصّ.

إنّ معنى الألوان لدلاليّة/ الايحائيّة تتغير بناءً على حالة الشاعر النفسيّة والموقف الذي يتحدّث فيه، وعمق ثقافته وتجربته. فالأديب يستعين في صوره الشعريّة أو النثريّة باللّون على اعتباره عنصراً هاماً في بنية النص الأدبي بشكل عام والشعري منه بشكل خاص. فاللّون في بنية القصيدة يلعب دوراً هاماً في تكوين صورها الشعريّة وفنيتها وجماليتها التي تتجلى في التشابيه والاستعارات والكنايات. وهذا التوجه في استخدام اللّون وانعكاساته الفنيّة والجماليّة وحتى الوظيفيّة نجده عند الشعراء المعاصرين بشكل واضح، حيث راحوا يهتمون في استخدام الألوان ويعطونها عناية بالغة لما فيها من تنوع دلالي أيضاً. وممّا يجدر الانتباه هو أنّ اللّون يرتبط بالعالم الذي يخلقه الشاعر ويؤثر على شعريّته وخياله. كما برزت أهمية اللّون في الثّقافات الإنسانيّة منذ القدم، فكان الأساس للكثير من جوانب الحياة الإنسانيّة، في مختلف ميادينها، فقد عبّر الإنسان باللّون عن انفعاله وقيمه، ومشاعره تجاه الآخرين، فكسا الألوان حلية الدلالة، وجعلها رموزاً متنوعةً لآماله وخيباته، وأفراحه وأحزانه، وفي نصره وهزيمته، حياته وموته، ظلامه ونوره، رحمته وقسوته.

اللون في الأدب القديم

يقوم الأدب القديم على في مستويين هما:

المستوى الأول:

وفيه تم تناول شكل اللون ذاته، وتقديم وصف له عند الظاهرة الموصوفة كما بينا في موقع سابق.

كقول الشاعر "عمر بن كلثوم" في وصف المرأة

على آثارنا بيضٌ حسانٌ

 نحاذرُ أن تقسمَ أو تهونَ

والمستوى الثاني الموضوعيّ:

وفيه يتم تأكيد الفضائل والمُثُل في الممدوحِين، أو تأكيد صفات القبح والرذيلة في المذمومين على سبيل المثال لا الحصر هنا، أو يتمثل في رسم صورة جماليّة للمرأة مثلاً من خلال إبراز محاسنها، وألوان الزّينة التي كانت تتزيّن بها. وعندما يصف الشاعر العربي القديم ممدوحة بالبياض مثلاً فإنه ينوه عن أن ممدوحه كريم. أو يصفهم بالبياض لنقائهم من العيوب لأن البياض نقيا من الوسخ . قال "زهير بن أبي سلمى" في مدح "حصن بن حذيفة" :

وأبيض فياض يداه غمامة

على معتفيه ما تغبّ فواضله

اللّون في الشعر العربي الحديث والمعاصر:

في الشعر العربي الحديث والمعاصر، يعد اللون عنصراً أساسيّاً لبناء الصورة الشعريّة، وإضفاء القيمة الفنيّة عليها، حيث يمنح الشاعر إمكانيّة التعبير عن المشاعر والأفكار بعمق أكبر، ويستخدم كرمز يحمل دلالات متنوعة قد تتداخل مع مفاهيم مثل الحياة، الموت، الفرح، الحزن، أو القوة والعزة، مما يغني النص الشعري ويجعله أكثر حيويّة وإيحاءً.

فهذا الشاعر "محمد عفيفي مطر" يستخدم مثلاً اللّوف الفضّي ويحمّله بعداً نفسيّا متمثّلاً في المعاناة والفقدان:

رأيتها تفتح في السّماء

نافذة فضّيّة

رأيت في بسمتها فراشة الدّمع

وزهرة الألم.

لقد أصبح للون جمالياته التي دفعت النقاد إلى وضع البحوث والدراسات التي تُبيّن فاعليّته، ودلالاته الجماليّة من خلال السّياق الشّعريّ، لأنّه وحده الأكثر قدرة على إظهار دلالات اللّون، ولأنّ اللّون لم يكُنْ ظاهرةً بصريّةً فحسب، وإنّما تجاوز ذلك إلى دلالةٍ جماليّةٍ وذهنيّة ونفسيّة ووجدانيّة أو اجتماعيّةً، أو ميثولوجيّه يكتسبها النّصّ الشّعري، وقد ارتبطت هذه الألوان بمجالاتٍ ثلاثة: المجال الإنسانيّ، والمجال الحيوانيّ، والأشياء الأخرى كالمكان والسّلاح والخمرة. (3).

***

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

.........................

الهوامش:

1- (موقع المنافذ الثقافية - دلالة الألوان عند العرب واللّبنانيّين من خلال أمثالهم - غسّان حمد).

2- - (موقع صحيفة القبس الثقافي – الألوان.. رمزيتها ودلالتها في الحياة والأدب - رحاب حسين -) بتصرف.

3- (موقع المنافذ الثقافية - دلالة الألوان عند العرب واللّبنانيّين من خلال أمثالهم - غسّان حمد). بتصرف.

في المثقف اليوم