قراءات نقدية

عدنان عويّد: دراسة نقدية في قصة (أمل) للقاصة الفراتيّة "نور إدريس محيمد"

ليس دور النقد الأدبي أن يقوم بتسليط الضوء على القامات الأدبيّة الكبيرة والمشهورة فحسب، بل دوره الأهم في نظري هو البحث أيضاً عن تلك الأصوات الابداعيّة المهملة أو المهمشة، التي لم تسنح لها الظروف أن تقدم نفسها للمتلقي بسبب محددات كثيرة ليس هنا مجال للنظر فيها .. وما الأديبة (نور إدريس محيمد) إلا صوت فراتي من هذه الأصوات التي أحببت تسليط الضوء على عمل إبداعي لها وهو قصتها(أمل).

نور. تحمل إجازة في اللغة العربية، تعمل مدرسة لمادة اللغة العربية في تربية ديرالزور - سوريا، لها بعض المساهمات الأدبيّة، لم تسنح الظروف بعد أن يخرج إبداعها إلى النور.

قصة (أمل).

مدخل: تظل الحريّة الفرديّة والجماعيّة للخلاص من الظلم والقهر والاستبداد والتشيىء والغربة الروحيّة والجسديّة بشكل عام، وحرية المرأة من القهر الذكوري بشكل خاص، الهاجس التاريخي الذي لا يفارق عقل ورح من يمارس عليه سجن الروح والجسد. بل كانت الحريّة هي الوسيلة الأكثر فاعليّة في تغيير حركة التاريخ البشري منذ أن بدأ استغلال الإنسان للإنسان واستعباده، فمعظم الثورات عبر التاريخ سببها الرغبة في نيل الحريّة للشعوب، ومعظم حالات التمرد الفردي سببها أيضاً الرغبة في الحريّة وخاصة لدى المرأة بشكل خاص. وهذه القصة موضوع دراساتنا للقاصة (نور إدريس محيمد)، هي إحدى حالات التمرد النسوي للخلاص من الظلم الذكوري التي لم تزل قائمة حتى اليوم، بل هي اليوم أكثر تعقيداً بسبب ما اكتسبه المجتمع الذكوري من سلطات متعددة على المستوى السياسي والاعلامي والتواصل الاجتماعي وفضاء الانترنيت اللامحدود من جهة، وبسبب ما حققته المرأة أيضاً من انجازات في مجال التعلم واكتساب العلم على كافة المستويات وتحقيق حضور فاعل لها في الساحة الاجتماعيّة والسياسيّة والفنيّة والأدبيّة والعلميّة بشكل عام من جهة ثانية.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

"أمل"، فتاة ضاقت من سجن أنوثتها التي فُرض عليها تاريخيّا بسبب قهر المجتمع الذكوري، وشدّة وقسوة العرف والعادة والتقليد الذي جعل من المرأة ضلعاً قاصرا، وناقصة عقل ودين، وكل ما فيها عورةً.

جلست وشقيقتها بين جدران بيتها السجن، ينهش القلق أعماق روحها وتفكيرها، هذا البيت السجن الذي أصبح يمثل لـ "أمل" طوق ذهب يلتف حول عنقها ولم تعد تطيقه، فراحت تتمتم كمجنونة فقدت توازنها أمام شقيقتها: (إنه يخنقني).. فترد عليها شقيقتها التي عرفت دلالات همسها، بعد أن ضربتها وهي تصرخ بها ... (هل أنت رجل حتى تكوني بلا عقد؟!.)، وهي تريد هنا أن تقول لأختها المتمرّدة والساعيّة في عقلها وتفكيرها وطموحها الأنثوي للحريّة، ليس من حقك أن تتشبهين بالرجال، فالحريّة لهم وحدهم.

نعم... الحريّة للرجال، أما المرأة فسيظل صوتها عورةً وتباع وتشرى مثل أيّة سائمة كما يقول نزار قباني في قصيدته (إلى أجيرة):

بدراهمي!

لا بالحديث الناعم

حطمت عزتك المنيعة كلها .. بدراهمي

وبما حملت من النفائس، والحرير الحالم

فأطعتني..

وتبعتني..

كالقطة العمياء مؤمنة بكل مزاعمي..

"أمل" فتاة تعلمت وراحت تحس وتشعر بذاتها كإنسانة من حقها أن تحصل على حريتها طالما أن الله خلقها والذكر (من نفس واحدة).

في الليل جلست قرب النافذة تحدّق في الجدران التي تحيط مدينة سجنها، فراحت تتساءل بحيرة:

- ترى ما خلف تلك الجدران؟.

أجابت أختها بارتباك وقد ارتعشت يدها:

- جحيم.

نعم عالم الحريّة عند (أختها) التي رضيت بالسجن والذل، واعتبرت الرجل هو السيد الذي لا يرد له أمر، هو جحيم بالنسبة لها... لكن الصوت الخفي داخل عقل "نور" المتمرد، أراد معرفة سر هذا الجحيم، ولماذا نار هذه الجحيم لا تحرق الرجال بل تحرق النساء فقط ؟.

هنا قررت أن تخرج إلى عالم الحريّة... عالم الجحيم كما وصفته شقيقتها، معتمدة في سردها على تحقيق حلمها بأسلوب تخييلي لا يخرج عن عالم الفانتازيا والرمز. متصورة نفسها تحفر جدار الغرفة الذي شكل عالم سجنها بقطعة حديد صدئة، لكن جدار السجن كان أكثر صلابة، فقررت أن تحفر نفقاً تحت الجدار.. لقد اختلط دمها بالتراب، ولكنها لم تيأس فاستمرت لشهور تخفي جهدها في الحفر حتى لامست يدها الجانب الآخر من السجن.. ارتجفت يدها وعادة مسرعة لتخبر النساء بما رأت خارج السجن، فضحكن بسخرية منها وهن يرددن: (من أين جاءت بهذه الأفكار، أهي المدرسة؟!، لكن الفضول هزم خوفهن .. وأخيراً قرّرن أن يتبعن "أمل"، وحين عبرن النفق انفتحت أمامهن جنة خضراء، انطلقن يضحكن ويرفرفن مثل عصافير تحررت من أقفاصها).

نعم هي المدرسة التي تلقت فيها "أمل" سر العلم والحياة ومعرفة ذاتها وموقها في هذه الحياة معا... هي المدرسة التي تقدم المعرفة التي تشكل جذر الحريّة.

مع خروجهن إلى عالم الجحيم كما وصفته لها أختها، صاحت "أمل":

(لم يكن هذا الخارج جحيماً.. بل  هي الحياة..) ولكن أسوار السجن لم تنته بعد، فلا زال سجن عالم الذكورة يمارس قهره وحصاره عليهنَّ... لقد هجم أحد الرجال على "أمل" وشدّ عقدها الذهبي على عنقها حتى سالت الدماء من عنقها وراحت تغطي مساحة من صدرها وهي ثابتة تودع النساء الباكيات أمامها بابتسامة قبل أن تسقط جثة هامدة بلا حركة. ولكن صوت صراخها في داخل أعماق بقيّة النسوة بقي حياً.. نعم لم يكن صوت صراخها يعبر عن فقدها للحياة.. بقدر ما كان هذا الصوت بالنسبة لهن، بعثاً لحياة أخرى ستشرق فيها شمس حريتهن لا محال.

البنية الفكريّة للقصة:

القاصة فتاة تعلمت، وبالعلم والمعرفة عرفت ذاتها، وموقع هذه الذات في عالم الذكورة الذي يحتقر المرأة رغم تعلمها ووصولها إلى مراتب عليا في كافة مجالات الحياة. إن علمها ومعرفتها شكلا بالنسبة لها سلاحا لا بد من استخدامه بالطريقة الصحيحة للخلاص من عبوديتها، مع معرفتها أن طريق نضالها من أجل حريتها طويل، وقد يؤدي بحياتها، ولكن هي طبيعة الحياة التي ترفض السكون، وتقبل المغامرة، وتشكل الحركة عندها سر استمراريتها وتجددها.

لقد شكل عامل الحريّة في البنية السرديّة جوهر القصة، فلا حريّة بدون وعي ومسؤوليّة .. نعم إن الحريّة وعي الضرورة... نكون أحراً بالقدر الذي نعي فيه حاجاتنا ونناضل من أجلها.

البنية الفنيّة والجمالّية للقصة:

أولاً: العتبة السيمائيّة للعنوان:

"أمل"...هو اسم القصة وبطلة القصة معاً، فالأمل هنا مركب في دلالاته، فلكونه اسم القصة، فهو يشير إلى أن حريّة النساء وما يحلمن به من تحقيق لذواتهنّ، والخروج من عالم قهرهنّ وظلمهنّ، يظل أملاً وحلما لن يَحُولَ دونه أية قوةٍ بالكون، فالحريّة طموح ومن أجلها ترخص الأرواح. وهذه الدلالة تدفعنا للدلالة الثانية التي يعتبر فيها اسم بطلة القصة "أمل"، بأن هناك من النسوة من يرفض الظلم والقهر وسجن الروح والجسد، وهنَّ على استعداد للتضحية بحياتهنّ من أجل الحصول على الحريّة، والفسح في المجال واسعا أمام الأخريات كي يناضلنّ من أجلها.

ثانياً: الشكل الفني في القصة:

إن القاص المتمكن من حرفته، يمهد لفكرة نصه الأدبي، ويهيئ الجو للحديث عنه بسلاسة وتنسيق، يستجيبان مع المواقف بشكل يثير الشوق ويجذب القارئ لمعرفة النهاية. وهذا ما تم في القصة منذ بدايتها فبراعة القاصة " " نور إدريس محيمد" تجلت في قدرتها على تصوير أو وصف حالة ارتباك وقلق بطلة القصة النفسيّة والجسديّة، التي تبحث عن حريتها للخروج من سجن الذكورة.

لقد امتاز تشكيل القصة بالعمق والغور في أعماق نفسيّة فتاة معذّبة في داخلها، تحلم وتبحث معاً عن نفق للخلاص من القهر الذي فرض عليها وعلى كل النساء تاريخيّاً، ورغم حالة التعقيد والتكثيف السردي في معالجة أحداث القصة التي تدخل في عالم الحلم والرغبة، إلا أننا نجد اللغة التي استخدمت في معالجة أحداث القصة، كانت واضحة وغنية في سهولتها ودلالاتها ومشحونة أيضاً بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين للحريّة، بحيث استطاعت إيصال الفكرة الأساسيّة للقصة إلى المتلقي.

وهذا يشير إلى أن الكاتبة تمتلك قدرات فنيّة في التخيل تجلت من خلال معالجتها لقضيّة نفسيّة على درجة عالية من التعقيد. لقد كان وصف الشخصيات وخاصة بطلة القصة في بنية القصة رائعاً، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً.

إن القصة بعمومها تفتقد إلى الحوار، وحتى عندما وجد الحوار في القصة بين "أمل" وشقيقتها أو بينها وبين النسوة، فقد جاءت هذه المحطات الحوارية القليلة لملء محطات أو بياضات صغيرة داخل البنية السرديّة، أو شكلت عتبات أساسيّة لدخول عالم القصة.

إن فقدان الحوار ساهم في إبراز دور القاص من الخلف، أو بصفة ضمير المتكلم، وهو دور العارف بكل خفايا القصة، وما جرى لبطلة القصة داخل سجنها الروحي والجسدي، وطموحاتها ورغباتها في التحرر، وهذا ما جعل القصة رغم استخدمها التخييل في السرد، إلا أنها امتازت بوضوح الرؤية وسلاستها وبساطة عرض أحداثها، وبالتالي غياب الحاجز بين الكاتب والمتلقي. لقد كان بناء القصة متماسكاً، وأدت وظيفتها التي رسمتها لها القاصة، حيث تجلت في تصوير أو وصف حالة الارتباك النفسيّة لبطلة القصة عندما راحت تتداول بصمت وحذر عبر حوار منولوجي داخلي مع نفسها مسألة التصميم على الخروج من سجن الذكورة.

ثالثاً: وصف وتحليل الشخصيّة في القصة:

لقد كان وصف شخصيّة بطلة القصة، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً صيغت كما بينا أعلاه بألفاظ سهلة، مشحونة بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين والرغبة في التحرر.

لقد استطاعت القاصة "نور إدريس محيمد " في الحقيقة، أن تقوم بتصوير شخصيّة البطلة تصويراً يدخل في نطاق الفانتازيا أو الخيال، فهي قاصة مبدعة تمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنانة قديرة تمتلك أدواتها الفنيّة والثقافيّة، مكنتها من فهم النفس الإنسانيّة داخل سجن قهر واغتراب أنوثتها.

رابعاً: الرمز في القصة:

نظراً لاعتماد القاصة التخييل والتكثيف الشديد في سرد البنية الحكائيّة أو السرديّة للقصة، لذلك اتكأت على الرمز كثيراً في سردها، فـ (الطوق)، دلالة على العبودية، و(الجحيم) دلالة على عالم الذكورة وقهره للأنثى، و(الجدار) دلالة على سجن الجسد والروح معاً، و(قطعة الحديد الصدئة) دلالة على ضعف مقاومة تحدي الأنثى لمجتمع الذكورة، و(حفر النفق) دلالة على صلابة الإرادة في التحدي من أجل الوصول إلى الهدف، و(الدم) دلالة على التضحية من أجل الحصول على الحريّة.

خامساً: ميزات القص وأسلوب القاصة:

امتازت القاصة "نور إدريس محيمد" بحسها الفني الرقيق، وذوقها المثقف، ورهافة اللفظ،، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيّة التي رسمتها بدقة، وأبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها، ومع الآخرين، ولأن هذه الشخصيّة، مقهورة ومضطهدة، إلا أن ما تحمله من مبادئ وقيم إنسانيّة نبيلة، يجعلها رغم ما تتعرض له من عذاب قد ينال الجسد، إلا أن الروح تظل فيها جذوة الأمل بالخلاص الفردي والجماعي تسعر في نفوس طلاب الحريّة، وهذا ما يساعد على الانتصار والخروج من أزمة التمايز بين الذكورة والأنوثة، وخروج الأنثى في نهاية المطاف منتصرة على ضعفها واغترابها، وبالتالي يعتبر هذا الانتصار أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

.............................

نور إدريس محيمد

قصة (أمل)

وتابعت متمتمة بهمس:

- إنه يخنقني.

انتفضت أختها ولطمتها، وهي تصرخ:

- اخرسي هل أنت رجل حتى تكوني بلا عقد؟!.

في الليل جلست قرب النافذة تحدّق في الجدران الأربعة التي تحيط مدينتها، فتجرأت وسألت أختها:

- ما خلف تلك الجدران؟.

أجابت أختها بارتباك وقد ارتعشت يدها:

- جحيم.

لكن الصوت الخفي في نفسها أراد معرفة سرها، ولماذا لا تحرق الرجال وتسلط نارها على النساء فقط ؟.

تسللتْ بصمت بعد أن نام الجميع حتى لامستْ جدار سجنها بأصابع مرتجفة.. حاولت خدشه بقطعة حديد صدئة، لكنها لم تفلح ... فبدأت تحفر نفقاً.. اختلط دمها بالتراب، استمرت لشهور تخفيه... بينما كانت تحفر، ارتجفت يدها وهي تلامس الجانب الآخر خارج سجنها، عادت لتخبر النساء بما رأت، فضحكن بسخرية وهن يرددن:

- من أين جاءت بهذه الأفكار، أهي المدرسة؟!،.

لكن الفضول هزم خوفهن.. في الليلة الموعودة بعد أن تبعن أمل، وحين عبرن النفق انفتحت أمامهن جنة خضراء، انطلقن يضحكن ويرفرفن مثل عصافير تحررت من أقفاصها.

صاحت أمل:

- لم يكن جحيماً .. إنها الحياة..

فجأة لم تكتمل ضحكاتهنَّ.. لقد ارتطم الجميع بالجدار الأعظم من السجن .. تجمدن.. وراحت النشوة تتحول إلى صمت، عندما أخذ الرجال ينقضون عليهنَّ ... ساق أحدهم أمل كنعجة، بينما السياط أخذت تنهال على أجساد النساء الأخريات. وفي ساحة المدينة وقف الجميع حول أمل.. شدّ أحدهم العقد الذهبي حول عنقها، بينما راح بقيّة النساء يصرخن بصوت واحد:

- هذا مصير من تحاول أن تتمرد وتطالب بالحريّة...

بدأ العقد يغوص في عنقها.. الدماء تتفجر وتسيل على صدرها وبعض مواقع جسدها وهي ثابتة تودع النساء الباكيات أمامها بابتسامة قبل أن تسقط جثة هامدة بلا حركة، لكن صوت صراخها في داخل أعماق بقية النسوة بقي حياً.. نعم لم يكن صوت صراخها يعبر عن فقدها للحياة.. بل كان هذا الفقد بالنسبة لهن بعثاً لحياة أخرى ستشرق فيها شمس حريتهن لا محال.

***

في المثقف اليوم