قراءات نقدية

ناجي ظاهر: النص ام الشخص؟

يربط العديد من القراء وبعض النقاد بين النص والشخص/ صاحبه، ويبالغون في هذا الربط حتى انهم بفسّرون كلّ ما يقرؤونه لهذا الكاتب او ذاك على انه يعبر عن وقائع وحوادث عاشها صاحبها وقام بتصويرها فيما يقرؤونه من اعمال او عمل أدبية، وممّا يذكر في هذا السياق ربط القراء والعديد من المثقفين والمتابعين الادبيين الصحفيين، بين الكاتب السوري الراحل حيدر حيدر واحد شخصيات روايته المشهورة وليمة لأعشاب البحر، وقد تمثّل هذا الربط في هيزعة ثقافية تلت نشر رواية حيدر قبل فترة ليست قصيرة من الزمن ضمن سلسلة أدبية مصرية مشهورة وذلك بعد صدورها بسنوات، وتمثلت تلك الهيزعة في أن أحد شخصيات الوليمة عبّر عن شيء من الكفر في احد المواقف التي تضمنتها الرواية. في تلك الفترة كان لا بدّ من توضيح بعض اسرار العملية الأدبية فيما يتعلق بكتابة الرواية وقد قمنا بالتوضيح في حينها، ممثلا في ان الكاتب يختلف عن الراوي وفي ان ما قالته تلك الشخصية، شخصية الوليمة، انما عبّر عنها ولم يعبر عن راي الكاتب صاحب الرواية، وذلك تفسيرا لما واعتمادا على ما رآه الناقد المنظّر الادبي الشهير برسي لبوك في كتابه عن صنعة الرواية.

هذا احد جوانب الموضوع وليس صلبه لهذا نمضي مبتعدين عنه لنعود مقتربين من صلب الموضوع، يختلف النص عن الشخص، ولا يلتقي معه الا في القليل، صحيح ان كل كاتب ومبدع بصورة عامة يُدخل نسبة من تفاصيل حياته في كتاباته المتخيّلة خاصة، قد تصل نسبة ما يدخله هذا العشرة او العشرين في المائة، غير ان ما يقوم به في عمله التخييلي، يدفعه لأن يُقلع في افاق الخيال وآمادها الواسعة الرحيبة، وقد يكون من نافل القول أن نزعم ان الكاتب المبدع حين اقلاعه في عالم التخييل إنما يمارس كذبا واختلاقا، لتكوين عالم كامل متكامل، يتجوّل فيه شخوصه، ويمارسون حياتهم اليومية العادية، وكأنما هم احياء يرزقون، غير انهم في الحقيقة لا يعدون في هذا كونهم كذبة واختلاقا، قد يكون اصدق من الواقع والحقيقة.

توضيحا لهذا نقول، إننا في حياتنا اليومية، نلتقي أناسا خلال لحظات محدّدة من الحياة، فنحن مثلا نرى الشيخ وهو يؤم في مصلّي الجامع، بالضبط كما نرى الراهب يكرز ويعظ امام جمهور المصلين في الكنسية، غير اننا لا نراه في مُجمل حياته اليومية بكل ما فيها من تحركات، أفكار واقوال، اما في العمل الإبداعي، فإننا نلتقي باي من الشخصيات في كلّ لحظاتها الحياتية اليومية المعيشة، او في جلّها، كما تتطلب السردية الأدبية، وذلك بخلاف تلك الشخصيات المحيطة بنا، والتي لا نعرفها مهما حاولنا تمام المعرفة، اقصد على العكس من الشخصيات الأدبية. لهذا نحن نعرف شخصية سي السيد (احمد عبد الجواد)، في ثلاثية نجيب محفوظ او زكريا المرسنلي في رواية الياطر لحنا مينة، او هملت في مسرحية شكسبير والامثلة كثيرة، أكثر مما نعرفهم من المحيطين بنا، وقد يذكّر هذا بالرجل الزوج الذي يمضي ربع قرن من الزمان مع زوجته وبالقرب منها ويكتشف في لحظة معينة انه لا يعرفها تمام المعرفة، والعكس صحيح.

فيما يتعلّق باختلاف النص عن الشخص، نعود بالذاكرة الى ما كتبه العديد من المفكرين والنقاد المعروفين في شتى بقاع العالم واصقاعه، فقد فَصلَ هؤلاء بين النص وصاحبه وراوا في كلٍّ منهما عالما قائما بذاته، وهو ما تجلّى في الكتاب الرائع عن " المثقفين"، الذي وضعه الكاتب الامريكي بول جونسون وضمّنه العديد من الفضائح المتعلقة بكتاب عُرفوا عالميا بانهم اخلاقيون من الدرجة الأولى وخلافا لهذا عُرفوا في حياتهم المعيشية اليومية الخاصة على النقيض من هذا ويكفي ان نكّرر قول جونسون عن هؤلاء متذكّرين ومشيرين الى كارل ماركس ابسن برتولد بريخت وارنست همنجواي، للتوضيح نقول ان جونسون يكشف عن الجوانب المعتمة في حيوات هؤلاء وغيرهم، تاركا الجوانب المضيئة غنيمة لأعمالهم الأدبية الخالدة.

من المفكرين الذين فصلوا بين النصوص واصحابها، نشير الى ما كتبه المفكر الشيوعي الكبير فردريك انجلز، صاحب كتاب اصل العائلة، عن الكاتب الفرنسي ذائع الصيت انورية دي بلزاك، صاحب رواية الاب جوريو، فقد رأى فيما خلفه من ابداع روائي ادبي، تمثلا عميقا للطبقة الصاعدة او الوسطى في المجتمع الفرنسي ابان القرن التاسع عشر، في حين ان بلزاك هذا، كما يقول انجلز ذاته، كان مَلكيًا آخذا ومؤمنًا بالحكم الفردي الملكي المطلق. ويتماهى ما يراه انجلز بهذا الصدد، مع ما رآه الناقد المجري البارز جورج لوكاش، عندما رأي في كتاباته الرائعة عن الادب الواقعي، تمثيلا حقيقيا لغياب العدالة الاجتماعية في النظم الرأسمالية، وذلك خلافا لما رآه معظم نقاد كافكا، إذا لم يكن كلهم، وهو ان كتابات كافكا انما عبرت عن الرؤية الكابوسية لانسان العصر.

السؤال الذي يطرح ذاته الآن، هو ما الذي يجعل النص مختلفا عن الشخص/ صاحبه في كثير من الأحيان والحالات.. والجواب قد يكون بسيطا، وهو ان الانسان المبدع عندما ينفذ عمله الإبداعي، عادة ما يكون في ذروة عالية من ذرى الصدق الإنساني، لهذا نراه طائرا محلّقا في آفاق الحقيقة التي قد لا يراها وربما لا يلمسها في حياته اليومية المعيشة لمس اليد، اما بالنسبة لنا نحن القراء، فان ما يبقى من الانسان المبدع هو عمله، واما ما يمارسه في حياته اليومية، جراء الكثير من الضغوطات والأسباب الخارجية، فانه يذهب مولّيا برحيله، مخلّفا لنا مناراته الإبداعية المضية في طريق حياتنا او الحياة عامة.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم