قراءات نقدية

نهال غرايبة: أثر الفراشة في رواية "قواعد العشق الأربعون"

قراءة في ضوء نظرية الفوضى

شهدت الرواية المعاصرة تقاطعًا متزايدًا مع مفاهيم علمية وفلسفية حديثة، من بينها نظرية الفوضى (Chaos Theory) التي تقوّض فكرة النظام الثابت، وتؤكد أن أصغر التغيرات قد تُحدث نتائج غير متوقعة، ومن أبرز مفاهيم هذه النظرية "أثر الفراشة"، الذي ينطبق بشكل دقيق على رواية "قواعد العشق الأربعون"، وتمثل رواية "قواعد العشق الأربعون" للروائية التركية إليف شافاق مساحة سردية خصبة للتأمل في التحولات النفسية والروحية التي يمر بها الإنسان عبر تفاصيل تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها تحمل طاقات تغييرية عميقة، وإذا ما نُظر إلى هذه الرواية في ضوء نظرية الفوضى، وتحديدًا مفهوم "أثر الفراشة"، اتّضح لنا أنها تبني عالمها السردي على سلسلة من الأحداث الصغيرة التي تُفضي إلى تحولات جوهرية في حياة الشخصيات، بما يبرر مقاربة الرواية بمفاهيم العلوم الحديثة، ويمنحها بعدًا فلسفيًا غير مباشر.

فهل يمكن قراءة الرواية باعتبارها تجسيدًا سرديًا لأثر الفراشة؟ وهل تمثل التحولات الدقيقة فيها مبدأً لتفكيك الثبات والجمود؟

 أثر الفراشة: المفهوم والإطار النظري

يُشير مفهوم "أثر الفراشة"(Butterfly Effect)، أحد مبادئ نظرية الفوضى- وهي فرع من الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية، نشأت في القرن العشرين، وتهدف إلى دراسة الأنظمة المعقدة والحساسة للتغيرات الطفيفة-، إلى أن تغيرًا بسيطًا في بداية نظام ما قد يقود إلى نتائج بعيدة وغير متوقعة في المستقبل. ويُستخدم هذا المفهوم لتفسير التحولات الكبرى الناتجة عن مقدمات تبدو عشوائية أو هامشية. في السياق الأدبي، يُعدّ هذا المفهوم أداة تحليلية تُمكّننا من قراءة تطور الأحداث وتنامي الشخصيات بعيدًا عن خطية السببية التقليدية.

الرواية كنسق دينامي فوضوي

تعتمد الرواية على بنية سردية ثنائية، تربط بين:

القصة المعاصرة: إيلا روبنشتاين، المرأة الأميركية التي تعاني من رتابة الحياة، تتلقى مهمة تحرير رواية بعنوان "الكفر الحلو"، فتدخل عالمًا من التحولات العاطفية والروحية.

القصة التاريخية: العلاقة الصوفية بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي في القرن الثالث عشر، حيث تظهر "قواعد العشق" الأربعون.

هذه الثنائية تُجسّد مبدأ التراكم الفوضوي حيث تؤدي قراءة رواية من قبل إيلا إلى زعزعة بنيتها النفسية والاجتماعية، تمامًا كما تؤدي لقاءات شمس بالرومي إلى قلب توازن نظام فكري ديني مستقر.

تطبيقات أثر الفراشة داخل المتن الروائي

رفرفة الفراشة الأولى: قراءة رواية داخل رواية

إن تسلّم إيلا لرواية "الكفر الحلو" يبدو في البداية أمرًا إداريًا بسيطًا، لكنه يُفجّر سلسلة أحداث تغيّر مجرى حياتها، هنا تعمل "القراءة" كفعل تحويلي، يُشكّل نقطة بداية لتفتت النظام القديم داخل الشخصية.

وهذا الحدث البسيط أشعل سلسلة تغيرات عميقة في حياتها: فقد أعاد طرح أسئلة عن الحب، والروح، والذات. كما دفعها للتواصل مع الكاتب، عزيز زاهارا. وأيضًا قادها إلى رحلة داخلية من الشك إلى الإيمان ومن السكون إلى التغيير (هذا يشبه تمامًا رفرفة جناح الفراشة: قراءة رواية غيّرت حياة كاملة).

شمس التبريزي كعامل اضطراب في النظام الروحي

شمس هو الفراشة الثانية، دخوله حياة الرومي يُربك النظام الديني والاجتماعي، ويُحدث تحولًا شعريًا وفكريًا حاسمًا. فالعلاقة بين شمس والرومي تمثل نموذجًا لعدم الاستقرار المؤدي إلى الإبداع، وهو جوهر نظرية الفوضى في الفنون.

بمجرد دخول شمس إلى قونية ومقابلته لجلال الدين الرومي فقد أحدث زلزالًا في حياته الروحية والاجتماعية، وانقلابًا في علاقاته، خاصة مع تلاميذه وأسرته، وتحولَّ الرومي من فقيه واعظ إلى شاعر ومتصوف عظيم (وجود شخص واحد (شمس) أثّر على حياة آلاف لاحقًا عبر إرث الرومي الشعري والروحي).

قواعد العشق كنبضات تحولية

كل قاعدة من "قواعد العشق الأربعين" تُشبه في تأثيرها تلك الرفرفة الدقيقة التي تهز البنية المعرفية للشخصية، هذه القواعد ليست مجرد تأملات، بل محفزات لاضطراب خلاق في العقل والوجدان، وتعمل كبذور فكرية تفكك الاستقرار الزائف.

فكل واحدة من القواعد الأربعين التي يطرحها شمس تؤدي إلى تغيير فكري/ روحي تدريجي في الرومي وإيلا والقارئ، ومثال ذلك: "الحقيقة التي لا تُفهم بالقلب لن تُفهم بالعقل" — تنقل الإنسان من التعقّل الجامد إلى الذوق الصوفي (القواعد تبدو مفردات صغيرة، لكن أثرها واسع المدى في النفوس والعقول.)

سلسلة الأسباب الصغيرة = تحوّلات وجودية كبرى

الرواية تتأسس على مبدأ أن الإيماءة الصغيرة، الكلمة العادية، اللقاء العابر — ليست أشياء تافهة، وكل تفصيل يملك قدرة كامنة على زعزعة النظام الشخصي الداخلي.

 تحولات كبرى من مسببات دقيقة1725 nahla

 خاتمة: العشق كفوضى خلاقة

تتجلى رواية "قواعد العشق الأربعون" كنموذج أدبي يمثّل مبدأ أثر الفراشة في أبهى تجلياته، فالتغيرات الصغيرة التي حدثت للشخصيات، أو القرارات التي اتخذت ببساطة، نتج عنها تحولات كبرى في الوعي والمصير. ومن خلال مقاربة الرواية "بمفهوم "أثر الفراشة"، يمكن القول إن الرواية لم تقدم الحب بوصفه عاطفة متوقعة ومستقرة، بل بوصفه قوة فوضوية خالقة، تزعزع وتعيد ترتيب العالم الداخلي، وبذلك تكون الرواية تمثيلًا سرديًا لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من اللانظام، واليقين يولد من الشك، والتغيير الجوهري ينطلق من أكثر النقاط هامشية.

وبالتالي فالرواية ليست فقط خطابًا عن الحب، بل هي أيضًا تمثيل أدبي دقيق لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من الاضطراب، والتغيير الجذري يبدأ بخطوة صغيرة . وأيضًا الرواية في ضوء هذه القراءة تصبح أكثر من قصة حب، إنها تجربة فلسفية عن مصير الإنسان في مواجهة المجهول، وكيف أن الفراشات الصغيرة في حياتنا قد تكون سرّ ولادتنا الجديدة.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

في المثقف اليوم