قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: الانبعاث من الرماد

قراءة نقدية رمزية نفسية هيرمينوطيقية في قصيدة سمر يازجي "سكَنتُكِ... فأزهرتُ".

في قصيدة "سكَنتُكِ... فأزهرتُ"، تسير الشاعرة السورية سمر يازجي على خيط من الضوء الممزوج بالرماد، فتكتب من قلب التجربة ومن جوف التحوّل، لا على سطح الكلمات. القصيدة ليست مجرد بوحٍ عاطفي؛ بل هي نصّ تأويليّ يتشابك فيه الحب مع الهوية، والأنثى مع الوجود، والانبعاث مع الفناء. وسنتناول هذه القصيدة عبر منهج نقدي مركّب يضمّ المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، والهيرمينوطيقي (التأويلي)، لقراءة طبقاتها العميقة بنظرة فكرية أدبية فلسفية.

- في مجال البنية الرمزية – الأزهار التي تنبت من السكن

العنوان ذاته "سكَنتُكِ... فأزهرتُ" يستبطن مركزية العلاقة بين "السكن" و"الازدهار"، وهي علاقة رمزية شديدة العمق: "السكن" هنا ليس إقامة جسدية، بل اندماج روحيّ تامّ، نوعٌ من الحلول الصوفيّ في الآخر، والذي يُفضي إلى تفتح الذات وازدهارها.

"سكَنتُكِ... فأزهرتُ" —

العنوان يشي بأن الذات لم تكن مزهرة قبل اللقاء، بل كانت جدباء، وبفعل هذا الاتحاد، حدث نوع من التحوّل الوجودي.

الرموز المتتابعة — من "الدهر"، إلى "الأحلام"، إلى "العينين"، إلى "التيه"، إلى "الرماد"، كلها تُشكّل بناءً رمزيّاً لرحلة التحوّل الداخلي التي تخوضها الذات العاشقة.

- في مجال البنية النفسية – الحب كفعل إنقاذيّ من العدم

القصيدة كلها يمكن قراءتها كمسار تحلُّل نفسي للقيود التي كانت تخنق الشاعرة، إذ نلاحظ كيف تُمثّل الحبيبة بمثابة "الآخر المنقذ"، القادر على إعادة تشكيل كينونة المتكلمة، تقول:

"ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ."

هنا نجد تعبيراً واضحاً عن التحوّل من حالة "اللاوجود" أو "الحياة المتوهمة" إلى حالة "الحياة الحقيقية"، وذلك عبر الدخول في تجربة الحب العميق. ووفقاً للتحليل النفسي، يمكن فهم الحبيبة كـ"الذات العليا" التي تتكامل معها الـ"أنا"، أو كرمز للأمّ الأولى – الحاضنة الوجودية الكبرى.

- في مجال الأسلوب والصور الشعرية – تناغم اللغة والإيقاع والمعنى

أسلوب الشاعرة يتّسم بنَفَس تأملي داخلي، يُقرّب القصيدة من النثر الشعري، لكنه يحتفظ بإيقاع داخلي ناعم تشكّله التكرارات والوقفات، مثل:

"سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،"

تكرار الحرف والضمير والتصعيد التدريجي في البناء النحوي يمنح النص نغمة روحية وإيقاعاً خفياً يشبه التراتيل أو الأدعية الوجودية. كما نجد صوراً شعرية مركّبة وعذبة، تقول الشعرة سمر اليازجي:

"انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

"كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى."

"صرتُ بكِ شِعراً لا يُتعبه النثر."

في هذه الصور، تتكشّف قدرة اللغة على استعادة الذات، على تحويل العدم إلى قصيدة، والشتات إلى شكل فنيّ معترف به. الرماد والغبار يمثلان الفراغ والضياع، بينما القصيدة والشعر يمثلان إعادة صياغة الذات وتخليق المعنى.

- في مجال المنهج التأويلي – الهرمينوطيقا الوجدانية للنص

القصيدة، وفق تأويل هرمنيوطيقي، ليست عن الحب فقط، بل عن جدلية الحضور والغياب، عن التحول من غربة الذات عن نفسها، إلى لحظة تعرّفها عبر مرآة الآخر. فالحبيبة ليست شخصاً فقط، بل معنى وجودي، صورة للـ"معنى" ذاته، تقول:

"والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة."

إنها ليست لغة جسد أو غرام فقط، بل لغة كينونة كاملة لا يُفهَم الزمن بدونها. وتبعاً للمنظور الهيرمينوطيقي، يمكن اعتبار هذه "اللغة" ميتافيزيقا فردية تنبع من ذاتية التجربة.

في مجال الحب كفلسفة وجودية

تُبنى القصيدة على فلسفة ضمنية مفادها: الحب ليس عاطفة، بل "حدث وجودي" يُعيد تعريف الذات والواقع. لهذا تقول:

"أنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

كأنّ الحب فعل خلق، يُخرج الذات من رمادها — من هشاشتها — ليجعلها قصيدة، أي بنية منسجمة، فنيّة، متماسكة. وهذا التصور يقارب رؤية كيركيغارد للحب بوصفه "رحلة الإيمان الجمالي"، ويقترب كذلك من مفهوم إريك فروم للحب كقوة روحية إبداعية، لا مجرد عاطفة عابرة.

- خاتمة: الحب بوصفه تجدداً وجودياً

قصيدة سمر يازجي ليست اعترافاً غرامياً، بل تجلٍّ وجودي لمعنى الحب كإعادة صياغة للذات والدهر والمعنى واللغة. إنها قصيدة عن "السكن" الذي لا يُشبه الإقامة، بل الانصهار، وعن "الازدهار" الذي لا يُولد من أرضٍ خصبة، بل من تربة محترقة تُحييها نظرة، أو اسم، أو أنثى.

القصيدة تقول – دون أن تصرّح – بأن الإنسان لا يُولَد مرّةً واحدة، بل يولَد حقًا حين يُحبّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

سكَنتُكِ... فأزهرتُ

سمر يازجي

أحببتُ دهري حين أحببتكِ،

ففيكِ استقامت الأحلام،

وازدهى المعنى الذي كان غائماً في تفاصيل العيش.

في عينيكِ سمعتُ وشوشة وجعي،

وغفرتُ للدنيا كلّ انكساراتها،

لأنكِ كنتِ فيها.

سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،

كأن بين روحي وحنيني عهدٌ

لا يُنقَض.

أنا لا أفارقكِ،

لأن الحبَّ فيّ يسكن،

وأنتِ تجسّده.

قلتُها حين التقيتكِ:

لن أنثني،

لن أتهرّب من هذا التيه الجميل،

فأنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد.

أقسمتُ أن أكون ظلكِ،

أن أُقيم في عينيكِ كفصلٍ أبدي،

لا يعرف الخريف.

منذ التقينا،

والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة.

بكِ تحررتُ من أشيائي التي كانت تقيّدني،

كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى،

وكنتِ الريح التي أعادت لتفاصيلي الحياة.

ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ.

صرتُ بكِ شِعراً

لا يُتعبه النثر،

ولا تُطفئه الأيام.

في المثقف اليوم