قراءات نقدية
نورالدين حنيف: تشكّلاتُ الإنسان الضعيف في رواية "اولاد الكريان" لمحمد صوف

تسطير منهجي: سنمارس على هذا النص الروائي فنّ التأويل داخل مساحة تيماتية معيّنة درءاً لكلّ إسهاب أو تسيّب في المخرجات التحليلية. ونقصد بذلك البحث في الرواية عن ممكنات تشكّل الإنسان داخل منظوريْن: منظور المؤلّف المبادر إلى المعنى. ثم منظور القارئ المعيد لإنتاج المعنى. مستندين في ذلك على مقولة أرسطو (إنّ في كلّ كلامٍ تأويلا، من جهةِ أن اللغة تعريفٌ لأشياءِ الواقع)
و رواية (اولاد الكريان) مساحة تخييلية تعْبُرُ باللغة السردية ممكنات المعنى وفائض المعنى لتُعرّف بواقعٍ يتعيّن في الزمان وفي المكان ويتصدّر فيه الإنسان منازل ومقاماتٍ تفضح صيرورته بحرفي الصاد والسين مساراً وتحوّلاً، أكثر ممّا تمجدها في دغدغاتِ الإخبار الإمتاعي.
و يقوم منهجنا التأويليّ المتواضع على استنطاق منطوقات الرواية وملفوظاتِها داخل ثلاثِ دوائر:
- دائرة العلامة:
و فيها نبحث عن ممكنات وجود مجازية للملفوظات، وهي تحضر داخل العلامة بشقّينِ: واحدٌ صنعهُ المؤلّف وثانٍ يستنطقه القارئُ\المؤوّل في بحثه عن الدلالات، وهذه الأخيرة ليست قطْعية نهائية تحسم مُخرجاتِ العلامة بقدر ما هي تقيمُ في وضعٍ تأجيليّ، كما عبر عن ذلك جاك ديريدا.
فإذا كانت الدلالة الأولى تستمد وجاهتها من المعنى المباشر الذي ارتآه المؤلف، فإن الدلالة الثانية والثالثة وغيرها، منفتحة على الاحتمال، وتتناسل أشكال هذا الاحتمال المتعددة حسب تعدد عدد المؤوّلين.
- دائرة التقاطع:
أن كل نصّ هو حصيلة تقاطع بين ما نفهمه من النص في لحظته الحاضرة وبين جملة المعارف التي نحملها في تراثنا الإنساني والتي تساعدنا على فهم هذا النص، كموؤوّلين للعلامات في غير انقطاع أو قطيعة مع هذا التراث الإنساني، لأننا نحمله في وعينا وفي لاوعينا شئنا أم أبينا.
خذ أي تيمة في الرواية، خذ مثلا موضوعة المقاومة. فإن تمثّلها لدي القارئ لا تقف عند حدود المعنى الذي رسمه لها الروائي في نصّ (اولاد الكريان) المبادر إلى المعنى، وإنما تتداخل معه معارف المتلقي وتمثلاته الخاصة عن مفهوم المقاومة انطلاقا مما ترسّب في ذهنه عنه انطلاقا من زوايا استقباله للمفهوم الذي تتحكم فيه ثقافةٌ مختلفة ومغايرة. فالقارئ المغربي القادم من زمن السبعينات يختلف في تمثله لفعل المقاومة عن قارئ ينتمي للألفية الثانية... وقارئ الرواية القادم من دروب كوبا مثلا سيختلف تمثله للمفهوم عن قارئ قادم من سويسرا ... وهكذا، فإن المشترك المعرفي الإنساني يتحكّم في إنتاج المعنى وبالتالي سيتحكم في عمليات التأويل. مع الإشارة إلى أن عوامل أخرى لا يتسع المقام لحصرها تدخل في توجيه هذه الدائرة.
- دائرة الأسلاك الشائكة:
و تختلف عن الدائرتيْنِ قبلها بحكم ارتباطها بالاحتراز والوقاية أكثر من ارتباطها بالمنهج في صميمية تفعيله. ونقصد بذلك أننا نحتمي بها في عمليات التأويل حتى لا يتسيّب خارج القراءات المعقولة والموضوعية، وحتى لا يتحول فعل القراءة إلى فوضى يلقي فيها أيّ قارئٍ أيَّ تأويل.
و كأننا ونحن نمارس التأويل على الرواية نصنع لأنفسنا سياجا دائريا شائكاً يحذّرنا كلما شطّتْ بنا القراءة خارج مقتضيات السياق والحال والمقام وغيرها. ويمنعنا من السقوط المجاني في ركوب فوضى التأويل ولذة القراءة العابرة خارج منطق القرائن والأدلة.
تمهيد:
تتألف رواية (اولاد الكريان) من أربع وأربعين حكاية تتفاوت في الحجم. منها الشاملة ومنها المركزة، تفادياً لاستعمال مقولات الطول والقصر باعتبارهما مقياسا كمّيّاً لا يفي بأغراض التحليل والمقاربة والتأويل، وباعتبار هذا المعيار قد أصبح متجاوزا في مجال النقد.
و قد سمّينا هذه الأجزاء أو الفصول حكاياتٍ لأن السارد أسند للقوى الفاعلة مهمة الحكي عن ذواتها وعن غيرها، في تشاكلٍ فنّي يؤرجح عمليات الحكي داخل زوايا نظر متعددة ومختلفة، تضع المتلقي في استشكال التلقي الجمالي الذكي الذي يربأُ بالرواية أن تُسلِم ذاتها في مجانية رخيصة لخطية الحكي الباهت.
الحكاياتُ في منظور قراءتنا هي دوائر إنسانية تتشعب أقدارها وقضاياها ومصائرها ومبدؤها ومنتهاها لتنسجم في بؤرة من البؤر الدلالية العميقة أو العقيمة، انسجامَ تسريد لا انسجام موضوع. فكلٌّ يجري في فلكه ولكنه يتاخم أفلاك غيره في غير ذوبان وفي غير امّحاء.
من هذه الدوائر ينبع معين ثرٌّ لأشكالِ الإنسان داخل الرواية. وهنا لا نتحدث عن الشخصيات أو الشخوص أو القوى الفاعلة. فهذه آليات تنتمي لفن التخطيب الروائي التي تفتح مغاليق البناء السردي للقارئ. أما همّنا فهو تتبع تشكّلات الإنسان في رواية (اولاد الكريان) داخل منظور وجود هذا الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، وفي علاقته بالقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وفي علاقته بالهوية أيضا... إننا نشتغل في هذا السياق على تجليات الإنسان في ضعفه الوجودي الموسوم بالتمزق والتشظي والتيه والضياع والحيرة، دون أن ننفي عن الرواية تغنّيها بإنسان الإرادة والقوة الكامنة في تشكّلات المقاومة، سواء لدى الرجل أم المرأة، مثلَ الحضور القوي للغريب ولمينة الحريزية استشهادا لا حصرا...
مقْوَلَةُ الإنسان*:
1 – الإنسان الضعيف: يمثّله في الرواية، العطار الطاهر والد البتول. وهو بدوره يمثل شريحة اجتماعية واسعة في واقع الرواية وفي واقعنا نحن. وأراني لا أجانب صواباً إذا أقحمتُ هذا النوع في خانةِ الهارب إلى ركن الاستسلام خشية أن يطاله شيءٌ من الأذى. وأراني أيضاً أجده في المقولة العربية العاجزة التي ترفع عقيرتها بشعار (كم حاجة قضيناها بتركها). والتّركُ هنا ليس موقفا مؤسسا على قناعة أو توطينٍ للذات بقدر ما هو سلوك غير مسؤول يركن للدعة والاسترخاء والهروب والاستسلام، في غير حضور وفي غير قرار...
الإنسان في هذه النمطية مصنوع من مادة الخوف المجاني. ( وكان خوفه من البوليس خرافيا. كان داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه، تخيفه كلمة سياسة وكلمة مقاومة. هاجسه الأول أن يأكل رغيفه دون عناء – الرواية ص 11).
و لا أدل على ذلك من أن السارد قد ضاق بهذه الشريحة ذرعا فقال مشمئزّا (داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه). بمعنى أن هناك حدّا مقبولا للخوف قد يلتمس فيه الشارد للمعني بالأمر بعض العذر، زيادةً وإيغالاً في تصوير هذه الشريحة تصويراً واخزا مُدينا وشاجبا.
لا يمثل الطاهر نفسه، في تضييقٍ لأفق الرواية وفي تعقيمٍ لانسرابها داخل نسغِ الكتابة الفنية الناقدة والمنتقدة، بقدر ما يمثّل شريحة اجتماعية سادت قديماً وتسود حاضراً وتعيش في الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود؟
تصور الرواية الإنسانَ في هذا المقامِ ضعيفا، وخائفا، وعاجزاً أيضا عن صناعة القرارات والحلول لذاته ولذويه. ولا أدلّ على ذلك من عجزالطاهر عن استيعاب مشكلة ابنته البتول لولا أن تدخّل الغريب وصنع بدله قرارا غيرياً ينقده وماءَ وجهه.
ليست مفرداتُ الضعف والخوف والعجز صفات ملتصقة بفردٍ نكرة في الرواية وفي المجتمع، إنها مقولات وجودية تكاد تطال الجميع بما فيهم البتول ووالدتها والتباع وولد اغضيفة وعلال وعبدالقادر ومسعود وغيرهم. وهي مقولاتٌ وجودية تأخذ أحجاما مختلفة باختلاف طبيعة الإنسان الموصوف في الرواية. وتتفاقم مفرداتها في شخص الطاهر الذي رسمته الرواية في صورتيْن: صورة الطاهرالممثّل للحالة العابرة وصورة الطاهر الكينونة. وهذه الكينونة تخرج من شرنقة المفرد إلى صيغة الجمع لتدين نمطية بشرية اختارت الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود عوض المواجهة، على حساب وجودها ووجود المقاومة والتاريخ، وإن كانت المقومة والتاريخ لا يحتاجان إلى مثل هذا الإنسان.
الخلاصة إذن، أن الرواية هنا لا تسجّل في مرآتية عقيمة ضعف الإنسان الذي تنتشله من خبايا الواقع وتلقي به في ردهات الخطاب الروائي. إنها تخييل ماكر يقبض على المعنى، ومنه معنى الضعف البشري، في أتون الإدانة والشجب الصامتيْن.
- اولاد الكريان، رواية لا تسجّل
- اولاد الكريان، رواية لا تمارس أدوار الفوتوغرافيا
- اولاد الكريان، رواية لا تنسخ الواقع بسلبية فنية عقيمة
- إنها رواية تعيد إنتاج الشكل الإنساني\البشري الضعيف في قالب تخييلي يتجاوز التوصيف والإخبار والحكي إلى إفعام الخطاب بأكثر من سؤال. وبالتالي فهي تفتح للمتلقي شهية المساءلة بعيداً جدّاً عن هدفية الإمتاع والمؤانسة.
2 – الإنسان \ الضحية:
ويتعلق الأمر باستخلاص صور الضحية من خلال البتول، الطفلة ذات الأربعة عشر ربيعاً أو خريفاً إن شئنا حقّ التعبير. وهي تمثّل الإنسان الهش الذي:
- تعرّض للاغتصاب
- ديسَ على إنسانيته
- اختزله المجتمع في بؤرة الجسد الجميل
- اختزله المجتمع في بؤرة اللذة فقط
- حرمه المجتمع من حقه في التعلم والتعليم
- رمى به المجتمع في صيرورة لا يريدها ولا تشبهه
- المجتمع يصنع قراراته بدله
- فرض عليه المجتمع وضعاً عائليا بإكراه
- حرمه من الإحساس بعاطفة الأمومة
- حرمه من ممارسة الأمومة
- جعله يعاني مأساة الفقد المبكر في فلذة كبده
- ...
والرواية في هذا المقام لم تقْسُ على الإنسان الضحية بقدر ما فضحت من خلاله شراسة الآخر وجبروته الجاهل وأنانيته المقيته ودونيته المرضية وعقمه الغريب في إنتاج أو تبني القيم الإنسانية.
تأويل الإنسان\ الضحية ليس بالأمر الهيّن في سياق رواية ذكورية بامتياز. إن كلّ ما قيل عن هذا النمط هو تحصيل حاصل، وهو تحويل تراكم الخطاب الروائي في متنه إلى متنٍ آخر يمارس عمليات التصنيف فقط. وهذا ليس مطلوباً في مقاربتنا التي تتغيّى تأويلاً أكبر وأكثر.
من هنا السؤال:
- هل كن في وعي السارد طرح مسألة الجندر؟
- هل يمارس السارد ضغطا حريريا على القارئ للالتفات والالتفاف حول ظاهرة الاغتصاب أو ظاهرة الحرمان من الحق في التعلم؟
- هل يكتفي السارد برصد الواقع المتعيّن في فترة الاستعمار والمقاومة ولوضع المرأة داخل هذا السياق الزمني والحضاري؟
- ألا تكفينا الدراسات الموثِّقة والموثَّقة النازحة من رفوف البحث العلمي لرصد واقع الأنثى بكل الدقة والعلمية الممكنتيْن ؟
- لماذا تأخذ البتول، وهي نموذج الإنسان\الضحية كل هذا الحجم السردي في الرواية؟
- لماذا تمحور الحديث عليها علما بأن الرواية وسمها صاحبها بالإسناد الذكوري (اولاد الكريان)؟
هذه أسئلة وأخرى تتناسل في هذا الاتجاه، تفيدنا أن المسألة لا تتعلق بتوصيفٍ يقدم للقارئ المعلومة عن مسألة الجندر في زمن الاستعمار والمقاومة، وإنما الأمر يتعلق بتخييل روائي يتجاوز الوثيقة والمرجعية العلمية. إنه تصور فنّيّ يروم السفر بذات المتكلم الواصف من رهان الألفية الثانية زمن تأليف الرواية (2024) إلى رهان البناء لعوالم تخييلية ممكنة تتقاطع فيها البتول الماضوية مع البتول الحاضرة وتطرح السؤال التالي: إلى أي حدّ استطاعت البتول اليوم الخروج من الأسر الثقافي؟...
و هكذا نستوعب الدرس جيّدا من السارد وهو يرمي في آذاننا وفي وجداننا أن الضحية أكبر من البتول... فالطاهر ضحية، والأم ضحية والتباع ضحية ومسعود وعلال وغيره ، ضحايا. والإنسان\الضحيةُ في الرواية ينقلب من حالة اجتماعية يمكن رصدها في دراسات علم الاجتماع، وفي غيره من العلوم، إلى حالة إبداعية تدين السياق التاريخي كله، وفيه تنبّه الرواية شرائح المتلقين إلى أبعد من وصف وتوصيف، ومن تخييل... تنبّههم إلى صيرورة استعمارية استغلت معطيات الجهل وافقر آنذاك، وحوّلتها بفعلٍ مبيّت وممنهج من استعمار مسلح إلى استعمار فكري يحلل الخلل في بنيات الإنسان والمجتمع بصورة مركبة أشد التركيب، ومستعصية أشد الاستعصاء على الفهم والاستيعاب والإحاطة والمعالجة.
تأتي الرواية لتفتح للقارئ منافذ أخرى لاستيعاب القضية من وجهة نظر أدبية تخييلية تكشف أوراق الاستعمار وتفضح صيرورته المبيّتة في الفتك بالهوية. وهي منافذ ونوافذ تجعل قراءة التاريخ ممكنة خارج قصدية الاعتبار وحده، كما دأبت الرؤية الخلدونية تفعل ذلك، إلى قصدياتٍ أخرى أكثر ارتباطا بالرؤيا بألف ممدودة ومنفتحة على ثقافة السؤال ثم الإدانة من داخل عوالم الأدب لا من داخل الوثيقة. والفرق بين العالمين لا يحتاج إلى شرح أو تفسير.
3 – الإنسان الشهواني: ندلف إلى هذا النمط من خلال ولد اغضيفة الذي رسمته الرواية جبارا في الحومة لا يُرفض له طلب، وتهابه الساكنة وتشتري رضاه بالأداء والعطايا...
لا تهمنا صورته في الرواية، وتهمنا تداعياتُ حضوره كحمولة إنسانية (بالمفهوم الوجودي لا بالمفهوم القيمي) قابلة لتفجير الكثير من التأويلات.
و هو لا يمثل ذاته فحسب، وإنما يمثل شريحة واسعة في الواقع وفي المتخيل الروائي، ارتضت أو ارتضى لها قدرها أو ارتضى لها السارد ألا تنخرط في الفعل الإيجابي (المقاومة مثلا). وانخرطت في مسالك رخيصة نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية لم يبحث فيها السارد ولا القارئ. فهي في حكم المعلوم الرتيب والمألوف. ولد اغضيفة وفي تغييب تامٍّ لاسم الأب، يشي بالوجود الهجين، ووضعية النشاز.
تتمثل شهوانية الإنسان في سياق الرواية داخل ثلاثِ محطات: اثنتان صارختان هما: محطة اغتصاب البتول، ثم محطة اغتصاب مسعود...وثالثة مسكوتٌ عنها هي اغتصاب التباع... وهو الفعل الذي ترسمه سياقات الرواية بنوع من التكتّم والمحافظة تزيد تكتمه ومحافظتَه بلاغة السارد.
الإنسان في هذا السياق الروائي الماكرمُفْرغٌ من أدنى حسى إنساني، وأتساءل إلى أي حد كان بإمكان المغتصب أن يقف عند حدّ ممكن ؟
هذا الفراغ الإنساني مفارقٌ في ذاته ومفارق في غيريته، بدليل أنه تحوّل إلى كائن تصنعه مادة النهم واللاشبع. قال (سأكون أنا البادي. ولن يمسّها غيري. هي لي أنا وحدي من الآن فصاعدا. هل من معترض – الرواية ص 6)
لاحظ معي أيها القارئ منطلق حديث المغتصب وكلامه. إنه التصور الرخيص الذي تبنيه ثقافة الشارع، وفيها يلغي الإنسانُ الإنسانَ ويشيّؤُهُ ويقصي إنسانيته إلى درجة تحويله إلى نكرة تشبه البضاعة (هي لي أنا وحدي) في سردٍ تصويريٍّ يبلغ بالمعنى أقصى حدود القسوة والوخز الدلالي.
و في اتجاهٍ آخر، ومعاكس، يتحول الإنسان إلى كائن مفترس يترصد الضعف أينما كان وينقضّ عليه ليمارس عليه علويته المرضية وقوته الوهمية وشهوانيته المقيتة.
قال الحاكي (ولأنه بضٌّ وجميل أثار شهية ولد اغضيفة، وشهية ولد اغضيفة أمر لا مناص من إرضائه – الرواية ص 19). هذه الشهوانية تيمةٌ تتعقّبها الرواية في محطات أخرى منها شهوانية عبدالقادر وشهوانية الفقيه سي عيسى و...
و أكاد أقول إنها شهوانيات عابرة في مساحة الرواية السردية، ولكنها مرضية مادامت تمارس شبقها على البراءة. تجد هذه الحالة المرضية تعبيرها الروائي المشحون بالقسوة والنهم في قول السارد (صرف الفقيه التلاميذ وأمر البتول بأن تستظهر أمامه حزبا كاملا. " سبّح باسم ربك الأعلى ". استظهرته دون تلكؤ فأبدى إعجابه بها، عانقها، ضمّها إليه بحنان خاص. قبّل وجنتيْها، ثمّ امتصّ شفتيْها الصغيرتيْن من فرحته بنجابة تلميذته. حكت البتول لوالدتها عن فرحة الفقيه بها ولم تخفِ عنها شيئا – الرواية ص 9).
أنظر معي للوصف كيف جمع بين إدانةِ الفعل وبين وخز الفعل، في تصوير فنيّ لا يغلّف الحكاية بزينة البلاغات بقدر ما يًبرّز الفعل في أقصى حالات الهبوط المرضي للإنسان المدّعي فقها أو على أقل تقدير حملاً لكتاب الله في صدره. وكأنني بالقارئ الآن يستدعيه السارد في هذا السياق كي يكون ثالث ثلاثة ليأخذ بعنق الفقية ويوسعه ضربا مبرحا.
4 – الإنسان\ الجسد: نقصد بذلك اشتغال الرواية على تيمة الجسد كخطيئة في سياقٍ محظور تملي ضوابطَه الملةُ والدين والعرف والاجتماع وكل المواضعات.
نرصد هذه التيمة داخل شخص مسعود الملقّب في الحكاية بالمزغوب في إطار لعبة دلالية مفارقة، كما شأن السارد في توليفات علامة اسم البتول في نقيض ما وقع لها.
يقدم السارد شخصية مسعود كائناً جميلا يشبه والدته. وقد قيل عنه إنه كان أجدر به أن يُخلق أنثى.
لا يمثل مسعود ذاته في خلاء العبارة وجفاف الإشارة بقدر ما يمثل شريحة اجتماعية، هي على قلّتها تعاني قديما وحديثا من وضعٍ اعتباريٍّ لا يرحمها، ولا يضعها الموضع المناسب لتمارس حقّها في الوجود السويّ دون مواربة أو خوف أو شعور بالنقص.
و السارد هنا يمارس فعل الحكي أولا لهذه الظاهرة، وثانيا يخبرنا أن الكتابة عن هذه الظاهرة لابد أن تخرج من أقبية التابوهات إلى الاستجابة الثقافية للمستجدات والظواهر الحادثة والحاملة لعلامات النشاز في المجتمع العربي والمغربي خاصة. وحتى لا يقولّني القارئ ما لم أقل فأنا لا أتبنّى خروج الظاهرة إلى العراء والإعلان في سياق الشرعية أو اللاشرعية، فهذا مقام لا أخوض فيه.
و كأن حساسية الموضوع التي شكّلت حرجاً لبعض الكتاب العرب وجدتْ هنا وفي رواية (اولاد الكريان) يراعاً جريئاً فسح لها المجال في جمالية سرديةٍ متميّزة، للتجلّي والتمظهر أو للهمس والصراخ، أو للكشف والبيان. وفي أقل تقدير ممكن فالرواية فسحت للظاهرة مساحة فنيةً للحضور من زاوية القيم، وأقصد بذلك قيمة الحرية.
إن إشكالية علاقة الجسد بمثله إشكالية تأخذ هنا بعدين: واحدٌ واقعي تلفّه طبقاتٌ من التّكتّم والغموض بحكم رقابة الدين والأعراف. وثانٍ تخييلي يمتطي صهوة الشكل الروائي، وينحت طريقه إلى القارئ في تؤدة ملحوظة نظرا لوطأة الموضوع على المتلقي العربي. (ثم اقترب واقترب أكثر. كان يحب عينيه. نظرته كانت تشله. شرع مسعود يداعب مكامن الإثارة في خليله ويضحك. والآخر يردد: كم أحبّ ضحكتك. – الرواية ص 23). إن المتخيّل الروائي في (اولاد الكريان) لا يهمه ما وقع للجسد في صحبة الجسد بقدر ما يهمه الصدق الفني في نقل الواقعة في اتّجاهٍ، سمِّهِ أنت اعتبارا، وأسميه أنا انتقادا، ويسميه ثالثٌ جراةً، ويسميه رابع إخلاصا لنسغ العلاقة بين الواقعي والمتخيل، ويسمّيهِ خامسٌ وسادسٌ وهلم تأويلا، في إطار تحدثنا عنه في المقدمة المنهجية القاضية بترك الدلالة في وضعٍ تأجيلي إنصافاً لكل التأويلات الممكنة.
و تأويلنا للظاهرة لا يشط بعيدا ونحن نقول إن الرواية لا تدين الفعل فحسب، بل وأيضاً وأساساً، تمارس قراءتها للظاهرة داخل نسق نفسي لا ننتبه إليه إلا لماما، هو أن الشعور بالوسامة الذكورية لا ينبغي لأن يكون مدعاةً للخوف والقلق والاستلاب في الهوية الذكورية. وأركز على قراءة الرواية للجانب النفسي لأن مسار الحكي أفشى ما في قلب مسعود الذي تحوّل من كائن مستسلم إلى كائن مشتعل بروح الانتقام وعامر بالغضب.
و الأمر في آخره يكون إدانة لا لسلوك فردي وإنما هو إدانة لظاهرة جمعية موجودة في الواقع، وتدخل الرواية المجال لتقول في المسألة شيئا ممكنا تخييلياً وفنيا...
لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نكتفي بهذه الأنماط في تشكل الإنسان داخل الرواية، علما أن المسار طويل ومتشعب، لأن الرواية تتناسل فيها الأشكال وتتداخل وتتشعب. نذكر منها الإنسان التقليدي في شخص والدة البتول وخناثة اللتين تمثلان شريحة المرأة\الشبح التي لا تمارس دورها إلا في العلاقات الاجتماعية التقليدية العادية. ولا تحضر في الرواية كأصوات متميزة وكعلامات لا تنتج الدلالة إلا داخل مقولة القبول والاستسلام للسائد.
ومنها تشكل الإنسان السلبي والانتهازي الذي يركب الأحداث ليرتقي في السلم الاجتماعي، ونذكر هنا شخصية التباع الذي يمثل هذه الدلالة في حضورٍ روائيٍّ تباينت فيه مواقع التباع من حضور سلبي امتطى فيه المقاومة لاحتلال منصب إداري، إلى حضور إيجابي تمثل خاصة في إنقاد البتول من وضعية الانتظار، ولو بشكل عابر ومؤقت قبل أن يكتشف عجزه البيولوجي الفاتك بوجوده فتكاً صمتت عنه الحكاية، وتركته مفتوحاً في أفق تحريك تأويلات ممكنة...
- خاتمة:
لم نأل جهدا في البحث عن تشكلات الإنسان القوي في رواية (اولاد الكريان) انسجاما مع عنوان المقاربة وأخلاصا لنسغها في البحث المتواضع عن صور لهذا الإنسان في انحداره البشري. علماً أن مبدأ القوة واردٌ بشكل ملفتٍ في الرواية، وأكاد أجزم بأن المؤلّف تبنى رهان القوة في رسم معالم الإنسان داخل منظومة المقاومة عبر شخوص وقوى فاعلة لامس السارد من خلالها كثيرا من القضايا، مثل شخصية الغريب وشخصية رفائيل ومينة الحريزية وغيرهم ممّن حضروا في المتخيل الروائي حضورا ممتدّاً غيّروا من خلاله مسارات الأحداث.
و ارتأينا أن نركز على سمات الضعف لا لترجيحٍ أو مفاضلة بقدر ما الأمر قد تعلّق أساساً باختيار لزاوية نظر ونحن نروم مقاربة رواية في حجم (اولاد الكريان) وهي تتحدّانا بقدرتها الفنية على صناعة التخييل السردي داخل نسق إبداعي رمى يكل الثقل على الذاكرة والتاريخ والإنسان. وفي هذا النزوع رسمت الرواية لوحاتٍ قويّةً لغةً وحكياً وبناءً لإنسان الهامش في منطقة بيضاوية موسومة باسمٍ قدحي في الوجدان الشعبي المغربي الذي ألبسَ مفردة الكريان صبغةَ النقصان والدونية، فيما الأمر عكسٌ ونقيضٌ تمام العكس والنقيض... ذلك أن الكريان مقولةٌ مكانية مشبعةٌ بالزمان والإنسان والثقافة، وهي مقولة حمّالة أوجهٍ كثيرة، ترفل فيها دلالاتُ الثراء الفكري والثقافي والسياسي والشعبي وغيره من أشكال الثراء المعنوي. ولقد أشارت الرواية إلى ذلك في منعطفات متعددة من الحكي نذكر منها على سبيل التمثيل كلّاً من مقولة المقاومة، ومقولة التحول النسقي والوجودي في عقليات الشخوص ومصائرها مثل تحول علال وعبدالقادر من حالات التسكع والتيه إلى كينونة الإبداع والتصالح مع الذات والواقع: علال يتحول إلى مسرحي وعبدالقادر إلى ملاكم وولد اغضيفة إلى كائن ورع ومتصالح...
إن ذكاء السارد كمُنَ في الإشارات البسيطة والتفاصيل الأبسط حيث تقيم الدهشة الروائية الإبداعية، ومثال ذلك إضاءاته المتعلقة بتفاصيل الشموع وقناديل الزيت التي كان يستضيئُ بها أهل الكريان إبّان الاستعمار، وهي الأدوات نفسُها التي استضاء بها في زمن الاستقلال، في إشارة واخزة من السارد إلى أن دار لقمان بقيت على حالها، إدانةً لعمليات التغيير النازحة من قرار الاستقلال والتي لم تطل هذا الفضاء الذي يُشار إليه في كثير من السياقات أنه حيٌّ كان وراء استقلال أمّةٍ بكاملها.
***
بقلم نورالدين حنيف
......................
* المَقْوَلَةُ نشاط ذهني يفيد في تصنيف الأشياء والظواهر انطلاقا من اعتبارالمقولة استراتيجية معرفية أساسية في إدراك المفاهيم