قراءات نقدية

علي فضيل العربي: فرس أمرئ القيس في ميزان الفيزياء

بيت من الشعر الجاهلي، كلّما قرأته أدهشني، لما فيه من الدقة والغرابة والبراعة، والحكمة، وقوة الملاحظة والإدراك الفلسفي (المدرسة الجشتالتية الألمانيّة)، وجودة التعبير، والتوظيف اللغوي الموحي بشرف اللفظ والمعنى معا.

مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ، مَعًا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَيْلُ مِنْ عَلِ

كلّما قرأت هذا البيت من معلّقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في وصف فرسه سرعة فرسه، تبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل كان امرؤ القيس على اطّلاع بقوانين علم الفيزياء؟ كيف استطاع امرؤ القيس المزج بين اللغة والبلاغة والعلم؟ كيف استطاع أن المزج بيان العاطفة والعقل في سياق بلاغي واحد؟ إلى أيّ مدى كان الشاعر يمتلك القدرة على دقة الملاحظة وبراعة التصوير في بيئته الصحراويّة؟ ربّما لو عاد امرؤ القيس بجسده وروحه وسألناه هذا السؤال: هل كنت - أيّها الملك الكندي الضليل - على اطّلاع على قانون السرعة في الفيزياء، في وصفك لسرعة فرسك وتشبيهه بالصخر الضخم المكوّر (جلمود) المندفع من علٍ؟ لله درّك أيها الشاعر الفحل، لقد وقفت واستوقفتَ، وبكيت واستبكيت وذكّرت واستذكرت ونزلت واستنزلت واشتقت إلى الحبيب والديار. للّه درّك، من شاعر عاشق للحبيب، وفيّ له. ربّما، سيفاجئنا بحقيقة لم نكن على علم بها. ربّما قال لنا بنبرة يقينيّة: وما تظنّون هذا الذي تسمّونه في قاموسكم العلمي (الفيزياء)؟ إنّ الشاعر لا يختلف عن المشتغل بها. فإذا كان للفيزيائيّ مخبر علميّ، فيه يلاحظ ويفترض ويجرّب ويستنتج ويستدلّ ويستقريء بعقله المجرّد من الظنون، لا تعدمه العاطفة، ليخلص للنظريّة، فإن للشاعر مخبره هو الطبيعة والخبرة والملاحظة والتجربة الشعريّة ليخلص أيضا للصورة البيانيّة وقد نضجت وأينعت وأشرقت في أبهى زيّها البلاغي، وقد امتزجت في مائها العاطفة بالعقل. فسيّان بين الشاعر والفيزيائي.

لقد كنّى عن السرعة الفائقة لفرسه، بصورة جلمود صخر مندفع من أعلى. والجلمود هو صخر ضخم، متكوّر أو حصيرة كبيرة من الصخر في علم الجيولوجيا، يقاس عادة بحجم حبيبات التربة أو هو حبيبات كبيرة جدا من الصخر لا يمكن تحريكها بسهولة. وقد سبقه بيت آخر في وصف فرسه:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

لم يشبّه امرؤ القيس فرسه بـ (حجر صغير مثلا) يتدحرج من علوّ، لأنّه كان يعلم أنّ القانون الفيزيائي، أو نظرية الفيزياء، تقول أنّ سرعة الجسم الساقط من أعلى تتناسب مع كتلته. فكلّما كانت كتلة الجسم الساقط ضخمة، كانت السرعة أكثر. (العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته). كلّما زاد الوزن زادت السرعة وقلّ الوقت). فالكتلة النسبية – زيادة الكتلة بزيادة سرعة الجسم). وإذا كان البلاغيّون يصنّفون هذا الأسلوب في خانة الكناية عن السرعة الفائقة [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)] والتشبيه (كجلمود صخر)، فإن الشاعر قد مزج بين علم البلاغة وعلم الفيزياء. فأسلوب التشبيه ظاهر في البيت (المشبّه (الفرس) والمشبه به (جلمود صخر) وأدة التشبيه (الكاف) ووجه الشبه (السرعة الفائقة). أمّا الكناية فقد وردت في قوله: [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)]. نلاحظ أنّ لفظة(معا) هي التي أعطت للبيت عنصر الكناية. أما نظيرتها في علم الفيزياء فهي كالتالي: [الكتلة (جلمود صخر، هيكل + حطّه السيل من عل، الكرّ والفرّ والإقبال والإدبار (معا) وقيد الأوابد = كناية عن السرعة الفائقة للفرس.

لقد برع الشعراء العرب في العصر الجاهلي في وصف مظاهر الطبيعة المتحركة والجامدة، وصف الفيافي والأطلال والليل والكواكب والنجوم والمعارك وغيرها من ألوان الحياة اليومية.

ما يلفت النظر في هذا البيت القيسي (نسبة إلى امريء القيس)، هو دقّة اختيار الألفاط الدالة على الزمن، أي لحظة حدوث الفعل. (مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر، معا)

فالفعل (كرّ)، ثلاثي لازم متعدٍّ بحرف، كررت، أكرّ، يكرّ، مصدر كرور، واسم المفعول مكرور. والكرّ على العدو هجوم وحمل عليه للقضاء عليه، ومن معانيه المتداولة قولنا: على كرّ الدهور، أيّ على مرّ الأيام. ومعنى مكرّ، الخيول التي تكون خفيفة الحركة وقادرة على التحرّر، كما نقول فرس، فرس مكرّ، أيّ يتميّز بالسرعة والسهولة في الحركة والتحرّر والانقضاض على العدو. ومن معاني الكر عند أهلنا بالعراق، أنّه مكيال يساوي اثنا عشر وسقا، أيّ سبع مائة وعشرون صاعا، والصاع عند الحنفيّة 2340 كغ، وعند الجمهور 1468.8كغ.

أمّا الاسم (مفرّ) فمشتق من الفعل الثلاثي فرّ (فرر). ومنه الفرار من خطر داهم أو الانسحاب. وعلاقة (الكرّ والفرّ) بالخيل يفسّر استخدام الخيل لنظام الكرّ والفرّ. وقد وصفه والتر كانون (1) في 1915 م بقوله: (الحيوانات تتفاعل للخطر بطريقة استنفاذ عام للجهاز العصبي، ممّا يجعل الحيوان مستعدّا للقتال أو الهروب.). ونظريّة الكرّ والفرّ قائمة على عقيدة تكتيكية لاستخدام الهجمات المفاجئة القصيرة، والانسحاب قبل تمكّن العدو من الردّ بقوّة والمناورة باستمرار، وهدفها إضعاف العدو ببطء. وقد تمّ التعرّف على هذه الاستجابة، فيما بعد، (بأنّها المرحلة الأولى لحالة التعوّد العامة التي تنظّم استجابات الإجهاد في الحيوانات الفقرية وبعض الكائنات الأخرى). وقد عرف عرب الجاهلية تكتيك " الكرّ والفرّ " بلا نظام أو قاعدة أو هدف. فقد كان القتال يبدأ بالمبارزة بين أبطال القبيلتين المتخاصمتين وحسمت الكثير من الحروب بين العديد من القبائل. وقد استخدم النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة أسلوب الكر (الهجوم) والفر (الانسحاب)، وهو أسلوب قتالي يعتمد على المفاجأة والمناورة لتشتيت العدو وإضعافه، تم توجيه ضربة قاضية له.

واسم الفاعل (مقبل) من الفعل الثلاثي قبل ومزيده، وهو وصف شخص أو شيء قادم أو متّجه نحو مكان أو شخص، ويمكن أن يعني أيضا شخصا يهتم بشيء أو يتوجّه إليه.

الفعل أقبل، القادم، المتقدّم، المُقدِم على الشيء بنفسه. (مدبر) مشتق من الفعل الثلاثي (دبر) الذي له معان متعدّدة في لغة الضاد منها على سبيل المثال: دبر الأمر، جعله خلفه والمدبر، هو العبد التي تُعلَق حريته على حياة سيّده، كأن يقال له: أنت حر دبر حياتي، أيّ بعد حياتي، ولذا سُمِيَّ مدبرا.

وهي أفعال تدل على المطابقة في معناها، أيّ المعنى وعكسه كما هو شائع في علم البلاغة والمحسّنات البلاغية. لكن، هنا، ليس الشاعر بصدد البديع والتحسين والتنميق اللفطي، بل هو في معرض رسم خط زمانيّ معيّن، وتدفق إحساس عارم بنوعيّة اللحظة المعاشة. وهو إحساس نابع من زخم المعركة الدائرة رحاها. إنّ توظيف لفظة (معا) هو الذي أعطى لمعنى السرعة دلالتها ما فوق المنطق والعقل. فإنّ الشعاع في مساره لا يمكنه (علميا) أن يأخذ مسار الانطلاق والعودة في آن واحد، وفي اللحظة نفسها، حتى ولو اصطدم وانكسر بحاجز غير نافذ.

يقول الناقد التونسي توفيق قريرة (2)، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة، في مقالة له بالقدس العربي بعنوان: " مقبل مدبر معا " (3)، نُشرت بتاريخ 23 ديسمبر 2024:

" لفظة (معا) التي جاءت لبيان كيفية الإقبال والإدبار هي التي أربكت المعنى المعتاد "

و يقول أيضا:

" ليس من المقبول وليس من (المعقول) أن ترى شخصا مقبلا ومدبرا في الآن نفسه "

ثم يضيف:

(أنا حين أرى ولا أتكلّم أدرك وحدي المشهد، ولكنّي حين أصفه باللغة أبنيه لي ولغيري. الرؤية والإبصار شيء أحاديّ لا يتقاسم، ولكنّه حين يُبنى باللغة يصبح موضوع تشارك)

و قد أضاف عجز البيت (جلمود صخر حطّه السيل من علٍ) معنى أكثر عمقا ووضوحا وقوّة لحركة الفرس على وجه المشابهة. فتشبيهه بـ (جلمود) وهو صخر ضخم متكوّر أو حبيبات كبيرة جدا من الصخور في علم الجيولوجيا، أكّد قوةّ الإبصار والملاحظة ودقّة التعبير عند الشاعر في صدر البيت...

براعة امرؤ القيس في رسم هذه اللوحة الفيزيائيّة في قالب بلاغي مدهش، تدلّ على أنّ الشعر العربي في العصر الجاهلي، وكذلك في العصرين الأموي والعباسي، قد بلغ ذروة التعبير عن أعماق النفس، بل قد سبق التحليل النفسي في القرن المنصرم. فرويد وغيره. ولولا توظيف كلمة (معا)، ما أخذ هذا البيت هذا الزخم كلّه، ولكانت سرعة فرس امريء القيس عادية لا تختلف عن سرعة الأفراس الأخرى، سواء انتصرت أو انهزمت.

الذكاء النابع من التجربة الشعريّة والملاحظة العميقة للأشياء والتعبير الدقيق وبراعة توظيف الألفاظ وحملها على سياقها البلاغي، كلّ هذه الأوصاف والقدرات، تدلّ على أسبقيّة الشاعر العربي قبل الإسلام (العصر الجاهلي). والسؤال الذي بقي عالقا، وبات يؤرّقني: هل كان الشاعر امرؤ القيس مطّلعا على القانون الفيزيائي: (السرعة تتناسب مع الكتلة)؟.

وإذا كان الجسم الساقط خاضع أو تتحكم فيه أو تؤثر فيه الجاذبيّة الأرضية، فإن فرس امريء القيس، له جاذبيّة من نوع آخر.

لم يكن الشاعر امرؤ القيس بعيدا عن منطق الفيزياء، وهو يصف فرسه بجلمود (صخر ضخم متكوّر) ساقط سقوطا حرا من علٍ أيّ من ذروة قمّة عاليّة، ليمثّل للمتلقي مشهد السرعة الفائقة لفرسه في عمليّة الكرّ والفرّ، والإقبال والإدبار (معا). ولم يكن مشهد (الفرّ) و(الإدبار)، سوى عمليّة التفاف على العدو، وتزوّد بقوّة (الإقبال) و(الكرّ) على العدوّ.

و لمّا كان إبداع الشاعر وعبقريته اللغوية والبيانيّة مبنيّة على الخبرة والتجربة والملاحظة والإبصار والبصيرة والفرضيات، كذلك العالم الفيزيائي يأخذ مادته الفيزيائيّة من الطبيعة المرئيّة واللامرئيّة، من المشاهدة (الإبصار)، والغوص في الماورائيّات (الميتافيزيقا)، بالأدوات نفسها. هناك، ماهو مشترك ما بين الشاعر وعالم الفيزياء، بين الشاعر المشتغل بالخيال الأدبي والفيزيائي المشتغل بالخيال العلمي. ولم يكن الشعر خال من اللمحة العلميّة، ولا كان العلم خال من الخيال.

لقد برع الشعراء العرب في وصف الخيل والتغنّي بها في حضرة السلم، وفي أتون المعارك والغزوات، كوصف أبي الطيب المتنبي لها في معركة الحدث الخالدة:

أتوك يجرّون الحديد كأنّما *** سروا بجياد ما لهنّ قوائم

و قوله أيضا مفتخرا بنفسه في بلاط سيف الدولة:

فالخيل والليل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ووصف حسّان بن ثابت لخيول الصحابة، في ملحمة فتح مكّة:

عدمنا خيلنا إن لم تروها *** تثير النقع موعدها كداء.

****

بقلم: أ. علي فضيل العربي / روائيّ وناقد / الجزائر

...................

هامش:

(1) - والتر كانون (1871 - 1945 م) – فيزيولوجي أمريكي. اشتهر في كتابه التغيّرات الجسدية في الألم والجوع والخوف والغضب (1929) لمتلازمة الاستجابات الفسيولوجية للكائن الحي الذي يواجه موقفا يثير الخوف أو الألم أو الغضب.

(2)- توفيق قريرة، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية

(3) - مقال بالقدس العربي - 23 ديسمبر 2024 م.

 

في المثقف اليوم