قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: التصوُّر النَّمَطي عن الإنسان القديم

(زاهي حوَّاس، وجو روجان: نموذجَين)

ليست براعة التصوير الفنِّي والتشكيل الشِّعري وليدة الحضارة العَرَبيَّة بعد الإسلام، لدَى العبَّاسيِّين أو الأندلسيِّين، فحسب، بل تجد نفثاتها المدهشة قبلئذٍ لدَى شعراء الجاهليَّة ومخضرميهم. هكذا قفز بنا (ذو القروح) إلى رمال العصر الجاهلي. قلت:

ـ مثل ماذا؟

ـ لا تستعجل على رزقك! سيأتيك بالأخبار من لم تزوِّد!

ـ هات!

ـ لقد تَصِل الصُّورة في الشِّعر القديم أحيانًا إلى تشكيل لوحاتٍ فنيَّة، لو عزوتها إلى المدرسة السُّرياليَّة، لما بدوت مبالغًا. خذ نموذجًا على هذا الذي نزعم من بيتٍ واحدٍ بسيط لـ(عمرو بن معدي كرب)(1)، يصوِّر فيه فَرَسه، قائلًا:

يَقُـولُ لَـهُ الفَوارِسُ إِذْ رَأَوهُ

نَرَى مَسَـدًا أُمِـرَّ عَلَى رِماحِ

فهو، في أربع كلمات «مَسَدٌ أُمِرَّ عَلَى رِماحِ» ينقل إليك صورة أبلغ من لوحة (الفِيَلة The Elephants)، التي رسمها الإسباني، رائد الفن السُّريالي، (سلفادور دالي Salvador Dali ، 1904- 1989)، عام 1948، إذ أراد- على ما يبدو- التعبير عن المفارقة بين خِلقَة الفِيْل الواقعيَّة وصورته المتخيَّلة. أو قل: بين كثافة الواقع وتسامي الخيال. وإنْ تمخَّضت لوحة دالي في النهاية عمَّا هو أقرب إلى عبثيَّة الدلالة مقارنةً بلوحة (عمرو بن معدي كرب)، الجامعة بين الواقعيَّة والسُّرياليَّة؛ حين يتحوَّل الفَرَس، ضمورًا وسُرعة عَدْو، إلى حَبْلٍ أُمِرَّ على رِماح.

ـ ما إنكار التفوُّق على الإنسان القديم إلَّا عادة مزمنة.

ـ تجلَّى من شواهدها مؤخَّرًا في ما جرى في تلك الحلقة التهريجيَّة التي ظهر فيها عالم الآثار المِصري (زاهي حوَّاس) في مواجهةٍ إعلاميَّةٍ، «بودكاست» كما تُسمَّى.

ـ أو (برود كاست) حسب رواية الفنان (حسن عسيري)!

ـ هذا أفضل تعريب! إذ يبدو أنَّ العَرَب قد عجزوا عن أن ينطقوا بمقابل لتلك التسمية «بودكاست»، وهم عمَّا دونها أعجز. ولو اقترح عليهم أحدٌ استعمال (مواجهة إعلاميَّة) بدل «بودكاست»، لما راق لهم هذا؛ حتى لا يزعلوا سيِّدهم اللُّغوي والحضاري!

ـ المهم؟

ـ كلُّه مهم! كانت تلك المواجهة غير المتكافئة مع المهرِّج الأميركي المعروف (جو روجان Joe Rogan)، ذات دلالات حضاريَّة. ولا تجنِّي في وصف جو بالمهرِّج، فهو كذلك بالفعل، شكلًا ومضمونًا، يذكِّرك بأبطال المصارعة الحُرَّة من المهرِّجين خلال القرن الماضي. لقد ظلَّ روجان هذا طوال الوقت مُصِرًّا على أن يسلِّم معه الآثاريُّ المِصْريُّ (زاهي حوَّاس) بخزعبلات غَرَبيَّة حديثة، حول بناء الأهرامات. مكرِّرًا أنَّ ثمَّة إيطاليَّين ما، لله دَرُّهما- ويكفي أنهما أوربيَّان ليُحكَم لهما بالعدالة والعِلميَّة، شاء من شاء وأبى من أبى- زَعَما أنَّ الأهرامات مبنيَّة على أعمدةٍ ضوئيَّة، بدعوَى أنها التُقِطت صُوَر لتلك الأعمدة الوهميَّة عبر الأقمار الاصطناعيَّة!

ـ يا حلاوة!

ـ إلى غير هذا من الخيالات غير المثبتة عِلميًّا، ولا المعقولة، بأيَّة أقمار. بل يبلغ التهريج أحيانًا في هذا السياق الهزلي إلى الزعم أنَّ بُناة الأهرامات إنَّما هم كائنات فضائيَّة، جاءت فبنتها ثمَّ انصرفت، ربما لتبني أهرامات أخرى على كوكبٍ آخر.

ـ ثمَّ يقال إنَّ العقل الغربيَّ عقلٌ عِلمي!

ـ الخرافة هنا لا حياء فيها، ما دامت تحقِّق هدفًا!

ـ وهو؟

ـ هو أن يقال إنَّ الشرق، و(أفريقيا) بالذات، من المستحيل تصوُّر أنها كانت ذات حضارة قبل آلاف السنين بهذا الحجم؛ فإنما الحضارة غربيَّة حصرًا، منذ الأزل وإلى الأبد، رُفِعت الأقلام وجفَّت العقول!

ـ غير أنَّ الأعجب هنا جاء عن ضجَّة الإعلاميِّين العَرَب!

ـ هؤلاء دراويش يستثيرون الشَّفقة حقًّا! ربما يضجُّ دُيوكهم اليوم لسبب، وغدًا يضجُّون لسببٍ آخَر نقيض! وأعني الأسباب السياسيَّة أو الأيديولجيَّة. إذْ شَنُّوا هجومًا على عمِّهم (حوَّاس)، منكرين عليه أشدَّ الإنكار زهوه، واعتزازه بنفسه، فقد كان جديرًا أن يقبِّل يدي (جو روجان)، وحسبُه شرفًا أنه ظهر معه!

ـ لعلَّه كان يؤزُّهم إلى ذلك بالأحرى ما عبَّر عنه المثل الشعبي »الفرنجي برنجي»، المشخِّص لعُقَد الخواجة فينا.

ـ خليطٌ من العُقَد. فكان طبيعيًّا جِدًّا أن لا يقدِّموا للمتلقِّي فكرةً عِلميَّةً واحدة، مع أو ضد. سِوَى أنَّ (حوَّاسًا) حاسَ اللقاء، وكان يدخِّن بشراهة أثناء المواجهة، أو أنه ظهر متعجرفًا، وكان ينبغي أن يستغلَّ اللِّقاء ليقدِّم دعايةً إعلاميَّةً سياحيَّةً جذابة لـ(مِصْر)، لا تُعوَّض، ولو على حساب اقتناعاته، وليَغُر التاريخ والآثار والعِلم في ستِّين داهية، المهم نيل شهادة حُسن السيرة والسلوك من العم سام...!

ـ وهم في المقابل لم يلحظوا الطَّرَف الذي يدافعون عنه، بجسده المستحيل إلى سوادٍ قاتم، لكثرة الرسوم الموشومة عليه، أكثر من أيَّة جداريَّة هيروغليفيَّة مِصْريَّة.

ـ لا تنس أنه في لقائه بـ(حوَّاس) كان يغطِّي جسده، ربما لكيلا يبدو هو الآخَر تمثالًا مليئًا بالوشوم والكتابات التصويريَّة، الدالَّة على أنَّه أكثر بدائيَّة من تماثيل قدماء المِصريِّين.

ـ ولا شاهدوا فيه أيضًا فوقيَّته وتعاليه وعجرفته؛ لأنَّ »الفرنجي برنجي» دائمًا وأبدًا.

ـ هكذا هي جمهرة الناس، مع الأسف، يعجبها الآخَر، مهما فعل بها، وتزدري أبناء أوطانها، ملتمسةً لازدرائهم كلَّ سببٍ وحُجَّة. ومن شِيَم الناس أن يقفو غالبًا مع الباطل، حيثما كان، ومع الضَّلال، حيثما وُجِد، ومع المثير للعواطف والخيالات والأكاذيب، وإنْ رفع بها عقيرته مجنونٌ رسمي.

ـ شريطة أن يكون مجنونًا فرنجيًّا طبعًا.

ـ فيما يقفون للحقِّ والعقل والعِلم بالمرصاد، ولا سيما حين يصدر من أبناء البلد.

ـ والأدهى لديهم حين يُنكِر ابنُ البلد مقولات »الفرنجي البرنجي»، وأنها محض هراء.

ـ أمَّا حينما يتجرَّأ على القول: إنَّ غير »الفرنجي البرنجي» كان لديه ذات يوم مثل ما لدَى »الفرنجي البرنجي» أو أفضل منه، ربما منذ القِدم، فهو هنا قد كفر، وفجر، وتمرَّد على ثقافة القطيع، ولا بدَّ، إذن، أن يقام عليه حَدُّ الرِّدة عَلَنًا، وإنْ معنويًّا. وعندئذٍ سيُرمَى بالجهل، والتخلُّف، وأنه قد بات فضيحةً بجلاجل أمام الغرب المتقدِّم، كيف لا، وقد شوَّه صورتنا الحَمَليَّة الوادعة في حضرة السيِّد الأبيض؟ الذي كان يجب دائمًا أن نحظى بشرف التأمين على ما يبخِّرنا به من أضاليل، عمدًا أو جهلًا!

ـ أمَّا (جو روجان)، فمهرِّجٌ يمينيٌّ متطرِّفٌ معروف، وهُمُ كُثْر!

ـ وفوق هذا لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالآثار، ولم يقرأ عن الموضوع، حتى لمجرَّد التحضير للمقابلة، كأيِّ إعلاميٍّ يحترم عمله. بل إنه كان لا يعرف اسم الضيف نفسه؛ فإذا هو يدعوه (زاوي)، بدل (زاهي)!

ـ ما موقعه من الإعراب، إذن؟

ـ موقعه من الإعراب: (مفعول لأجلهم)؛ محمَّلًا بما حُمِّل به من أوزار القوم، ليلقيها كيفما اتفق. إنَّما جاء لإيصال أصوات هلوسيَّة تنتاب منذ سنوات صديقه الحميم الصحفي الاجتماعي الإنجليزي Graham Bruce Hancock، الذي له خلافاته القديمة والحادَّة مع (زاهي حوَّاس). وما هذا اللقاء الأخير إلَّا حلقة لمحاولة تصفية الحسابات، بصورةٍ غير مباشرة، عبر وسيطٍ صديق، وهو روجان.

ـ كلُّ من تابع الضجَّة الإعلاميَّة، بالإنجليزيَّة أو بالعَرَبيَّة، ومهما اختلف مع (حوَّاس)، لن يجد كلمةً واحدةً عقلانيَّةً في الموضوع المثار ضِدَّه.

ـ هما تياران، يا صديقي، عَرَبيٌّ وأجنبيٌّ، عَرَبيٌّ له خطابٌ متشنِّجٌ مسيَّس، مؤدلَج، تراه يَرْدَح بمناسبةٍ وبغير مناسبة، يمنةً ويَسْرة. وتيارٌ غربي، غنيٌّ عن التعريف، في نظرته العنصريَّة ومواقفه من المختلف في هويَّته أو حضارته أو لونه. وأمَّا جَلْد الذات العَرَبيَّة من العَرَبيِّ احتفاءً بكلِّ ما هو غربي، وإجلالًا لكلِّ ما هو أميركي، فليس بجديدٍ ولا بغريبٍ على ولاء العُربان للرُّوم. وولاء العُربان للرُّوم عريقٌ جِدًّا، منذ ما قبل الإسلام. حاول الإسلام اقتلاع جذوره، لكنه عاد أقوى من ذي قبل. ولذلك، لن تجد إلَّا كلامًا مجَّانيًّا، من مثل، إنَّ هذا الخواجة أكبر صاحب «بودكاست» في العالم، وعنده عشرون مليون متابع، وقال: إن ذلك كان أسوأ لقاء...

ـ يا للهول!.. «يا شماتة أبلة أمريكا فينا»! ما علاقة «أكبر...»، و«قال...» بالحقيقة والتاريخ والآثار أصلًا؟!

ـ وما أكثر الناس، ولو حرصت، إلَّا من عيِّنة هؤلاء!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1995)، شِعر عمرو بن معدي كرب الزُّبَيدي، تحقيق: مطاع طرابيشي، (دمشق: مجمع اللُّغة العَرَبيَّة)، 77/ 8.

في المثقف اليوم