قراءات نقدية

ربى رباعي: "الوشم" لعبد القادر الرباعي.. ذاكرة الجسد وسرد الهوية

يشكّل كتاب الوشم للدكتور عبد القادر الرباعي تجربة سردية مركّبة تتجاوز حدود السيرة الذاتية، لتغدو وثيقة فكرية وجمالية تقرأ تحولات الذات والجماعة في مرايا التاريخ والسياسة والثقافة. عبر كتابة تتداخل فيها الأزمنة واللغات والطبقات الدلالية، ينسج الرباعي نصًا مشبعًا بالرمزية، تبرز فيه ثيمة "الوشم" كعلامة محورية تتقاطع عندها تأملات الهوية، الذاكرة، الألم، والتمرد.

الوشم: أثر الجسد وندبة الذاكرة

الوشم في هذا النص ليس عنصرًا زخرفيًا، بل دلالة وجودية مشبعة بالرموز. إنه أثر دائم يحيل إلى الألم والذاكرة، شهادة على مرور الإنسان بالعالم، لا من خلال ما يقوله، بل بما يتركه على جسده من علامات. الجسد هنا يتحوّل إلى صفحة تُكتب عليها التجربة، أرشيف حيّ لتاريخ ذاتي وجماعي، تختزن فيه الندوب والصرخات المكبوتة.

يقول السارد: "كان الوشم يلسع جلدي كلما مررتُ بذاكرة الغياب." بهذا المعنى، يغدو الوشم استعارة للكتابة ذاتها، بلغة الجسد لا القلم. وهو ما يجعل الرباعي قريبًا من تأويلات ما بعد البنيوية، حيث يُقرأ الجسد كنصّ، والجلد كسطح تتراكم عليه العلامات الدالة على الصراع والتمرد والانتماء.

يمثل الوشم أيضًا فعل مقاومة في مواجهة القوالب الاجتماعية والثقافية، ورفضًا خفيًا للرقابة والانتماءات القسرية. فالراوي لا يوشم جلده للزينة، بل ليصرخ بصمت: "لم أسأل عن معنى الوشمة، كنت أحتاج فقط إلى أن أصرخ على جلدي."

كل وشمة، في هذا السياق، تحكي قصة، وتحمل هوية، في مواجهة الهوية الرسمية التي تصوغها السلطة. هكذا يتحول الجسد إلى هوية بديلة، حرّة، تختار ذاتها في مجتمع يفرض الانتماء ولا يقترحه.

الذاكرة كإيقاع سردي

لا تشتغل الذاكرة في الوشم بوصفها عملية تذكّر خطي، بل كمجال تشكيلي يعيد بناء العالم من خلال استحضار الماضي بطريقة شعورية ووجدانية متقطعة. فهي تظهر في النص على شكل ومضات، طيفية ومتحركة، تتقاطع مع الأمكنة: البيت القديم، الزقاق، القرية، والتي تتحول بدورها إلى شخصيات سردية فاعلة، حاملة لندوب التجربة الجمعية وملامح الصراع الداخلي.

الذاكرة هنا ليست فقط مادة للسرد، بل آلية تتحكم بإيقاع النص، وتفرض على القارئ وتيرة خاصة في التلقي والتأويل. وهذا ما يمنح "الوشم" طابعًا مفتوحًا على تعدد القراءات، حيث يتشارك القارئ في إنتاج المعنى، لا في استهلاكه.

بين التعدد الصوتي والتأمل النفسي

يتجاوز الرباعي في بنائه السردي الصوت الواحد، ليقدّم نصًا تعدديًا من حيث زوايا النظر والأصوات الداخلية. الراوي لا يتحدث فقط بلسان الذات، بل يستحضر الجماعة، الماضي، والطفولة، كما يدخل في حوار داخلي مع ذاته، ما يمنح النص عمقًا نفسيًا وفلسفيًا. فالتمزق بين الموروث والطموح الحديث يتجلّى في هذه التعددية الصوتية، التي تعكس صراعًا داخليًا وتجربة وجودية لا تخلو من الأسئلة الكبرى حول المعنى والانتماء.

هذا الغوص في الذات لا يفصلها عن الجماعة، بل يجعلها بوابة لفهم التجربة الجمعية. فالألم الشخصي – كما في الحديث عن "الندبة التي لا يراها أحد" – يُعاد تأويله كألم تاريخي، ثقافي، جماعي.

المكان والبعد الثقافي السياسي

يحتل المكان في "الوشم" موقعًا جوهريًا، ليس بوصفه إطارًا للأحداث، بل كذاكرة حيّة، تحفظ الصراعات، وتستبطن التحوّلات. فالقرية والمدرسة والحي الشعبي تتحوّل إلى مكونات وجودية في تشكيل الراوي. إنها ليست مجرد جغرافيا، بل تاريخ حيّ، وأرشيف سردي.

كما يُحمّل الرباعي نصه دلالات ثقافية وسياسية عميقة، دون أن يسقط في المباشرة. فكل إشارة للسلطة، للرقابة، أو للهوية المملاة، تنبثق من التجربة الفردية لا من الخطابة. وهكذا يغدو النص مساحة نقدية للتأمل في أوضاع الإنسان العربي، وعلاقته بجسده، بانتمائه، وبالسلطة التي تطال حتى جلده.

بنية رمزية متماسكة

من منظور بنيوي، يشكّل الوشم وحدة دلالية مركزية، تتفرع منها معظم ثيمات النص: المنفى، الحب، الاغتراب، السلطة، الجسد، الوطن. تكرار الوشم وإعادة صياغته في أشكال مختلفة يخلق تماسكًا رمزيًا يجعل من النص نسيجًا دلاليًا غنيًا.

أما على المستوى الرمزي، فإن الوشم يكتسب أبعادًا أسطورية. إنه علامة بين المقدّس والمدنّس، بين المحرّم والمباح. لا يُفصح عنه تمامًا، لكنه حاضر في خلفية كل سرد، كأنّه "تابو" لا يمكن التخلّص منه، ولا مواجهته بالكامل.

خاتمة

الوشم ليس مجرد عمل سردي، بل نص يتجاوز حدوده ليصبح وثيقة فكرية وجمالية ترصد تشكّل الذات في علاقتها بالجسد، بالذاكرة، بالهوية، وبالمجتمع. عبقرية عبد القادر الرباعي تتجلّى في تحويل التجربة الشخصية إلى خطاب رمزي واسع، يحفر في طبقات النفس والثقافة معًا. إنه نص يكتب الألم بلغة الجسد، والهوية بالحبر الحارق لذاكرة لا تهدأ.

وبهذا، يمكن القول إن الوشم ليس سيرة ذاتية فقط، بل مشروع سردي ومعرفي، يعيد مساءلة الذات العربية في لحظات انكسارها وتمردها، من خلال علامة بسيطة – لكنها دالة – على جلد الإنسان.

***

ربى رباعي - الاردن

في المثقف اليوم