قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: في ماهية النقد وحدود الموضوعية

حين تصير الحساسية مِلاكَ الحُكم الجمالي
ليس النقد الأدبي علماً يُدار بمسطرة المنهج، ولا هو صنعة محايدة تُفرز الجمال كما تفرز الفيزياء الكتلة أو تزن الرياضيات المعادلات. بل هو، في جوهره، فنٌّ يقيس بالفؤاد، ويحكم بالذوق، ويتكئ على الحساسية بوصفها مرآة النفس وقدرتها على استقبال الإشعاعات الخفية التي لا يلتقطها العقل وحده. من هنا، يغدو الادّعاء بأن النقد الأدبي موضوعيّاً كالهندسة أو الكيمياء، خيانة لطبيعته الوجدانية، وتجريداً له من جوهره الحيّ.
لذا نبحث هنا عن الحساسية لا المنهج. وهو مفتاح الدخول إلى عوالم الأدب.
إنّ كلّ أثر أدبي، إذا ما جرّدناه من أثره فينا، من رعشته في أوتار وجداننا، غدا نصّاً ميتاً، حبراً على ورق. فليس النص الأدبي ما يُكتب، بل ما يُوقظ، ما يُلامس، ما يهزّ القارئ في منطقة لا يصلها سوى الفن. في هذا المستوى، يغدو النقد الأدبي استجابةً قبل أن يكون تحليلاً، ارتجافةً شعورية قبل أن يكون مقاربة تقنية.
لأنّ الحساسية تلك القدرة الغامضة على التنبّه لما يتوارى خلف الحروف، لما لا يُقال، لما يُوشك أن يُلمَح، هي جوهر ما به يحكم الناقد الجمالي على العمل، وهي وحدها القادرة على إدراك "النفَس" في النص، ذلك النسغ الخفي الذي يُضفي عليه الحياة. ولهذا، فإن الناقد، وإن تمرّس بالمناهج، يبقى طفلاً أمام الجمال إذا فقد الحساسية، وإذا جفّت فيه عروق الذائقة.
كون الذائقة كقوة استبطان وانحياز نبيل. فالذائقة ليست مزاجاً عابراً ولا محض تفضيل شخصي، بل هي حصيلة تراكم، وخلاصة ترقٍّ في القدرة على التلقي. إنها ذلك "الميزان الداخلي" الذي به تُوزن الأشياء لا بحسب ما تظهر عليه، بل بحسب ما تختزنه من عمق، من صدق، من توهّج. والذائقة الرفيعة هي الحساسية حين تنضج، حين تصبح قادرة على اقتناص المدهش في الخفي، وعلى تمييز النفيس من بين ركام المتشابه.
من هنا، لا يُعرض الأدب على الذائقة لأنّها تحكم تعسّفاً، بل لأنها تختزن خبرة الروح، وتمثّل ذروة التطوّر في التلقّي. وما قيمة أي عمل أدبي، إن لم يكن له أن يتسلل إلى الذائقة، أن يهزّها، أن يترك فيها أُثراً كأثر الحلم حين يوقظ ما كان نائماً في أعماق النفس؟
النقد بين نزعة التفسير ورهبة التذوّق. لقد سعى بعض النقّاد إلى صبّ الأدب في قوالب صارمة من التحليل المنهجي، فأخضعوا النصوص لأبجديات بنيوية، أو قرأوها بعدسة تاريخية، أو سلطوا عليها مناهج تفكيكية، ظانين أن الفهم وحده يكفي، وأن التحليل قادر على الكشف. بيد أن النص الأدبي، في جوهره، لا يُفهم فحسب، بل يُحَسّ، ويُعاش، ويُكابد. وكم من تفسير أطفأ وهج القصيدة، وكم من تحليل حوّل الرواية إلى معادلة باردة!
إنّ النقد حين يغدو تفسيراً محضاً، يتحوّل إلى خطاب ثانٍ يبتعد عن روح النص، وربما يخونه. أما حين يكون تذوّقاً، استبطاناً، إنصاتاً للذبذبات الدقيقة في نسيج اللغة، فإنه يُنصف الأدب، ويعيد له مقامه بوصفه كياناً حيّاُ لا مجرد موضوع للتحليل.
من هنا كانت الذات كمرآة للمعنى، لا نقد بلا انفعال. فكلّ نقد، في نهاية المطاف، هو شهادة ذاتية. لا بمعنى العشوائية أو المزاجية، بل بمعنى أن الناقد، وهو يتفاعل مع النص، يكشف عن نفسه بقدر ما يكشف عن النص. ولئن كان كلّ علم يسعى إلى الموضوعية عبر نزع أثر الذات، فإن النقد الأدبي يبلغ ذروته حين تحضر الذات، لا بوصفها حاجزاً، بل بوصفها وسيطاً.
إنّ الذات القارئة هي التي تمنح للنص حياته الثانية. وهي في لحظة نقد تصير صدىً لما فيه من نبض. ومن هنا، فإن الاختلاف بين النقّاد ليس دليلًا على ضعف النقد، بل على قوته: إذ تتعدّد القراءات بتعدّد الحساسيات، وتتلوّن الأحكام بتنوّع الذوائق.
لذا فالشهرة لا تبرّر القيمة، والحكم للذوق لا للصيت. فكم من عمل أدبيّ شاعت شهرته، لكنه فارغ كقنينة لامعة؟ وكم من نصّ مهمل ظلّ صامتاً حتى تبنّته ذائقة أصيلة فبعثته إلى الحياة؟ إنّ المعيار في الأدب ليس الصدى، بل الصدق. وما من شيء أصدق من ذوق ناضج، حرّ، لا تشتريه الجوائز، ولا تُغويه الموضة.
ولذا، يظلّ العرض على الذوق هو المعيار الأصيل. ما قبله فهو خليق بالبقاء، ولو كُتب في ظلمة العزلة، وما رفضه فمصيره الذبول، حتى وإن تُوِّج بتصفيق المجامع وشُهر في المعارض. فإنّ الذائقة الحقّة لا تُخدع، لأنها لا تتعامل مع المظهر، بل مع الجوهر.
وهنا تبدو الحساسية بوصفها فنّاً للحكم وسرّاً في الرؤية.
النقد الأدبي، في مآله الأصفى، ليس علماً يُصنّف النصوص وفق معايير ثابتة، بل فنّاً ينصت إلى نغمة خفيّة في عمق الكلمة، ويكشف عن المعنى حيث لا يراه سواه. هو فنّ الإصغاء للحياة وهي تنبض في اللغة، وفنّ الحكم لا بالمنطق الصارم، بل بالذوق المُصفّى، والوجدان المفتوح، والروح المُدرّبة على الانفعال الصادق.
إن الحساسية الجمالية، بما هي اشتعال داخليّ واستجابة متوهّجة، تظلّ مناط القيمة في النقد. ومن لا يمتلكها، فليتأدب بالصمت أمام النصوص التي لا تُكاشف إلا من استوفى شرط الذائقة، ومن أعدّ ذاته لأن تكون وعاءً لرعشة الجمال، لا مختبراً لإطفائها.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين