قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ"

قراءة أسلوبية – نفسية - رمزية في القصيدة الحُلُمية للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة.
ينتمي النص الشعري "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" للشاعر والناثر الفلسطيني خلدون عماد رحمة إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الشعر الحُلُمي" أو "الشعر النبوي الباطني"، إذ يتقاطع فيه الحلم مع اللاوعي، والرؤيا مع الانخطاف الوجودي. النص لا يُسلّم مفاتيحه بسهولة، بل يستدرج القارئ إلى طبقات من التأويل والتجربة الذاتية، عبر بنية لغوية غائمة، محمّلة بالرموز والدلالات النفسية العميقة.
فقد استطاع الشاعر أن يسحبنا من خلال منهجه الأسلوبي لينكد لنا أنّ الشعر كلغة للحضور والغائب معاً. فاتجه الشاعر من خلال لغة الظلال أن يفتتح نصّه بجملةٍ ذات توتر وجودي يقول:
"كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ".
هنا، نلحظ استعمال الأفعال بصيغة الماضي، والضمير "كنتَ" كاستدعاء لحالة انفصال بين الذات والوعي. إنها لغة تنتمي إلى حقل الحلم، حيث "الزمن" لا يُقاس، واليقظة ليست حدثاً زمنياً بل تجربة وجودية.
الأسلوب هنا يمزج بين الخبر والتجريد، بين التقريري والغنائي. فالجملة التالية:
"جسمكَ خفيف كالظلّ"
تحوّل الجسد إلى صورة متلاشية، غير محسوسة، تكاد تكون استعارية للروح ذاتها. بهذا، يتلاشى الجسد الواقعي ليحلّ محلّه الكيان الإدراكي الحالم.
إنّ كثافة المشهد وضبابية الإدراك ومن خلال الأسلوب الذي ينتهجه الشاعر يقوم على توليد التوتر بين الوصف الحسي والمجرد، كما في قوله:
"تعوم على محيطات فراغ كلّيّ".
العبارة تحقّق ازدواجاً دلالياً: البحر (رمز العمق) مقابل الفراغ (رمز العدم)، ما يولد مجازاً عن حالة التيه الكياني.
هنا أيضاً لا يمكننا إغفال المنهج النفسي – الحلم كصدى لللاوعي الجمعي والذاتي.
فقد كان الحلم بوصفه إعادة تمثيل . حيث يشي النص ببنية حلمية مكتملة – بدءاً من النوم، مروراً بالرؤى الغائمة، إلى مشهدية غامضة يكتنفها الضباب. إنّنا هنا أمام "بنية حلمية كلاسيكية" على غرار ما يتحدث عنه علماء النفس كونها رغبة لاواعية تبحث عن تأويل بصري- رمزي.
هنا تكون الأيادي لامرئية وهي في ذروات الغموض يقول: "كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة.".
هذه الأيادي تمثل القوَى اللاواعية التي ترفض الاستيقاظ الكامل، كأنّ الذات تحاول بلوغ الوعي، لكن هناك قوة خفية تدفعها إلى الارتكاس.
في ضوء مفاهيم علماء النفس الجمعي، حيث يمكن قراءة هذه "الأيادي" بوصفها "ظلّ الأنا"، القوى النفسية الكامنة التي تمنع تحقيق التوازن النفسي .
في محاولة استقصاء البنية الرمزية التي تبدأ من اللون إلى الفضاء إلى الصوت. نجد أنّ الفضاء الرمزي حاضر بقوة، يقول الشاعر خلدون رحمة: "لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن".
الفضاء هنا ليس توصيفاً مكانياً، بل تمثيلاً رمزياً للحالة الذهنية: العدم، أو ما بعد الوجود، أو ربما ما قبل الولادة الكيانية الثانية.
وهنا يتجلى اللون الأسود الكحلي وبياض الباطن يقول: "كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ... لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه".
هذه الصورة المركبة تشير إلى ازدواجية الرمزية:
الأسود: غموض، موت، لاوعي.
الكحلي: حدّ رمزي بين الظلمة والنور.
البياض في الباطن: أمل داخلي، نور خفي، إمكان الوعي.
إنها صورة مركّبة من الأضداد، تشير إلى تحوّل داخلي وشيك، حيث الظلام يحتوي بداخله نوراً يتململ.
أما الصوت المتكلّم من داخل العتمة فيتمظهر بقوله: "سمعته يهمس من داخله مُتململاً: حجاب العتمة يتآكل من حولي."
الصوت هنا ليس صوت كائن محدد، بل صوت النفس من داخلها، وربما "الذات العليا"، التي تحاول الخروج من شرنقة الجهل أو الغفلة أو التيه.
الحِكمة الوجودية تفرض نفسها بقوة من خلال (اللذة، اللوعة، المعنى)، يقول:
"متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة... إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى..."
الذات في النص لا تسعى وراء متعة معرفية فحسب، بل تخوض "لوعة" – واللوعة، في السياق الصوفي، مرادف للحب والاحتراق في المعنى. إنها تجربة وجودية-معرفية تُعيد تشكيل علاقة الذات بالعالم: ليست المعرفة هدفاً، بل نتيجة للتيه، للغموض، للبحث في العتمة عن ضوء المعنى.
نجد في هذا النص المتخم بالدهشة، استجواب حالة النسيان كخاتمة مفتوحة للنص.
"والنسيان." كلمة مفردة، في نهاية النص، كأنها تسدل الستار على كل شيء.
هل النسيان خلاص؟
هل هو آلية دفاع؟
أم هو حجاب آخر؟
هنا، يُمكننا العودة إلى المفهوم الفلسفي لهايدغر حول "نسيان الكينونة" – حيث الإنسان يعيش دون أن يعي معنى وجوده.
ربما الشاعر خلدون يشير هنا إلى أنّ الرؤيا مهما كانت عميقة، تنتهي غالباً بـ"نسيانها"، وأن الحياة تواصل انسيابها رغم كل محاولات الفهم.
خاتمة:
نص "كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ" هو نص تحويلي، يُدخل القارئ في بنية حلمية-فلسفية، تتشابك فيها الصور والرموز والمشاهد الحسية مع مستويات من اللاوعي الفردي والجمعي.
إنه نص لا يُفسَّر، بل يُعاش.
نصٌّ لا يبحث عن إجابة، بل يُذكّرك بالسؤال الأساسي: هل أنت نائم؟ وإن كنت مستيقظًا... هل تجهل ساعة يقظتك؟
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
...................
النص:.....
كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ، عيناكَ مُجهَدَتان وجسمكَ خفيف كالظلّ، لا تستطيع احتواﺀ ذاتك وأنت تعوم على محيطات فراغ كلّيّ، كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة .
لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن، كم كنتَ تحاولُ التحديق بكلّ ما أوتيتَ من كهرباﺀ الحواس والبصيرة لاكتشاف شيﺀ ما، لكنّ ضباباً كثيفاً تسلل إلى نومكَ وغطى المشاهد بحجابٍ سميك .
تكاثفَ الضبابُ أكثرَ، لكنكَ رأيت، رأيتَ شيئاً ما يحاول البزوغ من الخفاﺀ، لم تكُ قادراً على إدراكِ ماهيّته ومراميه، كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ، لمْ تخفْ منه، لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه، وسمعْتهُ يهمس من داخله مُتململًا: حجاب العتمة يتآكل من حولي .
متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة على أيّ حال، تدخِلكَ في لذّةٍ لا حدود لطاقة نشوتها، إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى والنسيان .