قراءات نقدية

طارق الحلفي: قراءة في قصيدة "برج بابل" للشاعر جمال مصطفى (5)

حقل من الاغواء تشعله البروق

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (31ـ 40).. "حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم الخامس: "حقل من الاغواء تشعله البروق..." (5)

***

حجرة النور ونداء الفجر

31

هيَ حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ

.................

مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ

ثُمَّ استعانَ بِمُقْرِىءٍ مِن مصْرَ يَصدحُ:

(إذا الشمسُ كُوِّرَتْ)

هي حجْرةٌ لِلْمُصطفى

يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

يقدم لنا هذا المقطع الشعري فضاءً روحياً يتجلى فيه النور النبوي في صورة حجرة المصطفى، حيث تتحول الجدران إلى ألسنة ناطقة، وتُسمَع الآيات وكأنها رؤى مرئية:

"فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ"

إن هذا التركيب الشعري يحطم الحدود التقليدية بين السمع والبصر، بين الوحي والنظر، وكأن الشاعر يرسم مشهداً تتوحد فيه الحواس لتشهد النبوة في أبهى صورها.

جماليات الخط والتاريخ الروحي

يستحضر النص فن الخط العربي، حيث يختار المهندس الكوفيَّ خطاً، وهذا الاختيار ليس عبثياً، فـ الخط الكوفي كان من أقدم الخطوط التي كتبت بها المصاحف، مما يجعله رمزاً للأصالة والجمال المقدس. ويزيد هذا المعنى حضوراً حين يذكر ابن مقلة، الخطاط العباسي العظيم، الذي يُنسب إليه تأسيس قواعد الخط العربي.

"مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ"

وكأن بناء البرج لا يكتمل إلا بإدخال البعد الروحي المتمثل في الكتابة القرآنية، لتصبح الحجرة نقطة التقاء بين المعمار والجمال والروحانية.

الصوت الذي يبعث الحياة

يتردد في هذا المقطع صدى التلاوة القرآنية، التي تصدح بصوت مقرئ مصري (وفي ظني انه يقصد عبد الباسط عبد الصمد)، في اختيار يذكرنا بتاريخ تجويد القرآن وإتقان أدائه، مما يعكس امتداد الإسلام جغرافياً عبر العصور. ويختار الشاعر الآية العميقة ذات البعد الكوني والقيامي:

"إذا الشمس كورت"

وهنا تتداخل صورة الوحي مع نهاية العالم، وكأن المكان نفسه محاط بعظمة النبوة وأسرار القيامة.

الديك… رمز اليقظة الروحية

يختم المقطع بمشهد مهيب:

"يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

فالديك ليس مجرد طائر، بل رمز للصحو والاستيقاظ الروحي، وهو في التراث الإسلامي يؤذن حين يرى الملائكة. وكأن البرج الذي يحمل حجرة المصطفى قد تحول إلى منارة نورانية توقظ الأرواح من سباتها، وتدعوها إلى الفجر، إلى النور، إلى الحق.

رؤية فلسفية وإبداع أدبي

هنا نلاحظ مزجًا بين القداسة والجمال الفني، حيث تتجسد النبوة في الخط، والصوت، والنور، واليقظة.. إن الإيقاع اللغوي، والتكرار المدروس للجملة "هي حجرةٌ للمصطفى" يمنح النص قوة التأكيد والتجذر، ليصبح هذا المكان رمزاً للإشراق الروحي الذي لا يزول.

إنه نص يعبر عن خلود الرسالة، وسحر الحروف، وسرّ النور، وصوت الحقيقة الذي لا ينقطع.

ثنائية الحرب والحب

(32)

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ

يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ

...............

يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين العقل والقلب

الشاعر يجسد هنا ثنائية وجودية أزلية: الصراع بين العقل والقلب. يستعير الشاعر صورة معمارية لحجرتين متجاورتين بلا جدار عازل، في إحالة رمزية إلى ازدواجية الإنسان الداخلية، حيث لا فاصل بين المنطق والعاطفة، بل تعايش محتدم بين الفكر والشعور:

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ"

التوتر الأبدي: حرب لا تنتهي

يصور النص العلاقة بين العقل والقلب على أنها عداء محتوم، إذ إن كلاً منهما يسعى لفرض منطقه على الآخر، فهما في "يوم حرب"، حيث الصراع الداخلي للإنسان لا يهدأ، وكل قرار يخضع لمعارك مستمرة بين الحكمة والعاطفة، بين الرؤية العقلانية والاندفاع الشعوري:

"يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ"

الوئام الموسيقي: يوم الحب

لكن رغم الحرب، تأتي اللحظة التي يلتقيان فيها في تناغم شعري بديع، حيث يتحول الصراع إلى انسجام موسيقي أشبه بقوسٍ يعزف على خصر الكمان، مشهد يحمل في طياته جمالاً ورقة، حيث يتحول التنافر إلى لحن، والتناقض إلى تكامل، وكأن الإنسان لا يكتمل إلا عندما تتوحد العاطفة بالحكمة في سيمفونية وجودية عميقة:

"يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين التصادم والتكامل

يؤكد الشاعر أن الإنسان لا يكون إلا بهذا الصراع والتآلف، فالعقل والقلب ليسا مجرد قوتين متناقضتين، بل هما جناحا التجربة البشرية، حين يتصارعان نعيش التوتر، وحين يتناغمان نصل إلى حالة الحب والتناغم الكوني. في هذه الصورة البديعة، يقيم الشاعر جدلية داخلية متحركة بين الصدام والوئام.. بين الحرب والموسيقى.. بين الحدة واللحن، مما يجعل هذا المقطع نموذجاً فلسفياً في قالب شعري بديع.

فضاء الحكاية

(33)

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ

في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

سينما شهرزاد: والتحرر من سطوة شهريار

الشاعر يقدم هنا رؤية مدهشة لمفهوم السينما كفضاء سردي أسطوري، حيث تتحول الشاشة إلى حجرة شهرزاد، رمز الحكاية والفن والسرد. لكن هذه الحجرة ليست مكاناً عادياً، بل هي محجٌّ لأهل بابل، الذين يأتون إليها كما لو كانوا يعودون إلى ذاكرة السرد الأولى، حيث الكلمة كانت الخلاص، والحكاية كانت النجاة:

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ"

الحكاية كبديل عن السلطة

لكن اللافت هو العبارة المكتوبة على باب الأبنوس لهذه الحجرة، حيث يُمنع شهريار، رمز الاستبداد، من الدخول:

"في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

في هذا المشهد الرمزي، تعود شهرزاد إلى امتلاك صوتها وحكاياتها بعيداً عن سلطة شهريار، كما لو أن السينما - كامتداد لفن الحكاية - أصبحت أرضاً لا تسود فيها القوة، بل يسود فيها الخيال والكلمة والفن.

السينما كمنفى جمالي وسردي

إن جعل السينما مكافئاً حداثياً لحجرة شهرزاد يفتح تأويلات عديدة: فهي مكان للهرب من الواقع القاسي، كما كانت حكايات شهرزاد مهرباً من الموت، وهي أيضاً ساحة لإعادة إنتاج العالم بعيداً عن سطوة السلطة. تبدو العبارة المانعة لدخول شهريار تمرّداً ناعماً لكنه جذري، حيث تتحرر الحكاية أخيراً من مقصلة الحكم والرقابة، وتصبح السينما عالم الحرية المطلق، حيث تسرد شهرزاد قصتها دون خوف من فجر جديد قد يحكم عليها بالفناء.

الانفتاح على الأبدية

(34)

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ

نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا

إنَّ المجرّةَ

حُجرةُ البرجِ التي مِن دون سَقْفْ

في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

المجرة: حجرة البرج

يقدّم جمال مصطفى صورة كوسمولوجية مذهلة، حيث تتحوّل المجرة إلى حجرة داخل البرج، في انزياح شعري يجعل اللامحدود متجسداً في المعمار، والمطلق محصوراً في فضاء محسوس:

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ"

المجرة كفيض كوني بين الأرض والسماء

في استعارة بديعة، يصبح النهر السماوي نهراً من لبن، في إشارة تجمع بين الطهر والنقاء والخصوبة، حيث تسكب الميازيب كواكب على الفرات، فتتلاشى الحدود بين العلوي والسفلي، بين السماء والأرض، في رؤية صوفية تجعل الكون وحدة متدفقة من النور والسيلان المستمر:

"نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا"

الزمن المعلق: الليل كمسرح أزلي

لكن المقطع يبلغ ذروته الفلسفية عند الحديث عن الزمن، حيث المجرة لا تكتفي بأن تكون سقفاً مفتوحاً، بل إنها تعطل الزمن، تعلّقه، وتعومه مثل قوارب. هنا، الليل ليس مجرد لحظة زمنية، بل هو مسرح أزلي تتجمد فيه الحركة ويتحول إلى ديمومة طافية على سطح الوجود:

"في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

إنها رؤية كونية ساحرة، حيث لا يصبح البرج معلماً معمارياً، بل نقطة التقاء بين الزمن والأبدية، بين الأرض والنجوم، وبين النهر والمجرة، وكأن الوجود برمته يتحوّل إلى حالة من التداخل المتناغم بين العلوي والسفلي، المادي والروحي، الزمني والسرمدي.

القصيدةُ برجٌ يحلّق بين الماء والسماء

(35)

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ

وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ

إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

العلاقة بين الشعر والكون

يضيء هذا المقطع على العلاقة العميقة بين الشعر والكون، حيث تصبح القصيدة كائناً حيّاً، وبُرجاً معلّقاً بين الماء والسماء، بين الثابت والمتحرّك، بين الحسيّ والمجرد.

البجع: الشعر كتحليق عائم على الماء

يفتتح النص بصور شاعرية آسرة، حيث يبدو البجع جاثماً على ماء القصيدة، في إشارة إلى الرشاقة والانسياب دون غرق، والتحليق دون انفصال عن الواقع. فالبجع لا يغوص كلياً في الماء، ولا يحلق عالياً كالنسر، بل يبقى في تماس دائم بين السطحين، كما يفعل الشعر في توازنه بين الواقع والخيال:

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ"

الهلال والترنح بين الثبات واللااستقرار

تتجسد الحركة المستقرة في صورة القبة التي تترنح كقرط بفعل الهلال، لكنها لا تطير ولا تحط، في استدعاء للتوتر الشعري الدائم بين السكون والانطلاق، وبين الامتلاك والفقدان. إنها حالة الشاعر وهو يتأرجح بين المعنى والصورة، بين الواقع والمجاز:

"وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ"

القصيدةُ بُرجٌ له ملكةٌ تأمره

لكن الذروة تأتي في تشبيه القصيدة بـبرج الجوزاء، وهو برج فلكي يشير إلى الثنائية والازدواجية والتقلبات، مما يعكس طبيعة الشعر كفضاء يتحرك بين الأضداد والتناقضات. وفي نهاية المقطع، يبرز بُعد السلطة في الشعر، حيث أن للبرج ملكةً تأمر، فيأتمر الأمير، في إشارة إلى أن الشعر يحكم حتى من هم في السلطة، وأن الإبداع هو الذي يسيّر العالم، لا العكس:

"إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

القصيدة ككائن كونيّ

يقدّم الشاعر رؤية مدهشة للشعر كقوة تحلق ولا تحط.. تترنح دون أن تسقط.. وتفرض إرادتها حتى على الأمراء، وكأن الشعر لا يُكتب فقط، بل يحكم ويتحكم.. يعيش ويتحرك..  يطير ويطفو، دون أن يكون قابلاً للتقييد أو التحديد.

تأمّل الفلاسفة في المعادلة الكونية

(36)

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ

مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة

يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرجُ الأزرق

يستحضر هذا المقطع مشهداً تأملياً مهيباً، حيث يتحوّل البرج إلى حجرة كونية زرقاء، فضاء فلسفياً تتلاقى فيه العقول العظيمة، في إشارة إلى المعرفة التي تسعى إلى كشف أسرار الوجود.

اللون الأزرق: الأفق اللامحدود للعقل

افتتاح المقطع بوصف الحجرة بـ "الكونيّة الزرقاء" يمنحها بعداً سماوياً، فاللون الأزرق يرمز إلى الأفق اللامحدود/ المنفتح، إلى العقل المتحرر من القيود، إلى الصفاء والتأمل الفلسفي. إنّه اللون الذي يحفّز الروح على التطلع نحو ما وراء المحسوس، حيث تكمن الحقيقة المخبوءة خلف ظواهر الأشياء:

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ"

منضدة التفاضل والتكامل: العقل الرياضي في البحث عن الحقيقة

يرتكز هذا المجلس الفلسفي على "منضدة التفاضل والتكامل"، وهي ليست مجرد أداة رياضية، بل رمز لمنهج البحث العقلي الذي يسعى إلى تحليل الوجود تفصيلاً (التفاضل) وتجميعه في رؤية كلية شاملة (التكامل). هكذا تصبح هذه المنضدة مركز الكون الفكري، حيث تجتمع الرياضيات والفلسفة في كشف أسرار الوجود:

"أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ"

إخوان الصفاء: اجتماع العقلاء في برج الحكمة

يُحيل النص إلى إخوان الصَّفاء وخلّان الوفاء، تلك الجماعة الفلسفية الباطنية التي سعت إلى التوفيق بين الفلسفة والدين.. بين العقل والروح. اجتماعهم حول المنضدة يُحاكي مجالسهم الفكرية حيث ناقشوا أسرار الطبيعة، النفس، الإلهيات، والهندسة الكونية:

"مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة"

السعي وراء الحقيقة المطلقة

الغاية النهائية لهذا المجلس الفلسفي ليست مجرد التفكير، بل كشف جوهر الأشياء وضميرها، والغوص فيما وراء الظاهر، ورفع سقف الإدراك إلى مستويات أعمق. فالمعرفة هنا ليست نهائية، بل رحلة مستمرة إلى الأبعاد الخفية للوجود:

"يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرج كرمز للمعرفة المتسامية

يمثّل الشاعر قمة البرج لا بوصفها مكاناً فيزيائياً، بل باعتبارها قمة في الفكر والتجريد، حيث يتحوّل البرج إلى مركز إشعاع فلسفي، ومرصدٍ عقلي يكشف المستور ويفكك ألغاز الوجود. إنه مشهد للعقل حين يرتقي فوق الماديات، في سعيه نحو السقف المفتوح للكون، حيث لا حدود للمعرفة والتأمل.

الفنّ أرشيفُ الجمال العابر

(37)

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ

البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ:

مِن لَوحةِ (البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ)

ثُمَّ لوحةِ (لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ) ثُمَّ ثُمَّ إلى الكبيرةِ:

(راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ)

البُرْجُ قِبْلَةُ كُلِّ مُرْهَفْ

كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

البرجُ متحفُ الأبدية:

يتجلّى البرج في هذا المقطع بوصفه متحفاً حياً، فضاءً تتجمّع فيه روائع الفنّ والقصيدة والموسيقى، قبلةً لكلّ مرهف الحسّ، وملاذاً للمبدعين والمُتأملين. إنّه ذاكرة جمالية، تحفظ اللحظات العابرة وتصوغها في لوحاتٍ خالدة.

رَسْميدو: الكتابة كمدخلٍ إلى الجمال المطلق

يبدأ المقطع بالإشارة إلى "بابِ (رَسْميدو)"، وهو مفتتحٌ غامض ذو دلالاتٍ رمزية، إذ يمكن تأويله بوصفه مدخلاً إلى عالم اللوحة والكتابة، حيث تندمج الصورة بالكلمة، والريشة بالقلم، ليشكّلا معاً سجلاً فنياً خالدًا:

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ"

الباب هنا ليس مجرد مدخلٍ مادي، بل هو رمزٌ للفنّ كعالمٍ منفتحٍ على الخيال والمعرفة، وكأنّ الدخول إليه عبورٌ إلى فضاءٍ من الإدراك الجمالي، حيث يتلاشى الفاصل بين الواقع والحلم.

البرج بوصفه متحفًا: الحاضن الأبدي للإبداع

تتحوّل بنية البرج من معمارٍ حجريّ إلى متحفٍ مفتوحٍ على الأزمنة، يضمّ كنوز الجمال والفنّ. ويظهر ذلك جلياً في وصفه بأنه "بهجةُ داخليهِ"، فهو ليس مكاناً صامتاً، بل فضاءً حياً يحتضن التجربة الجمالية بكلّ أبعادها:

"البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ"

يُصبح البرج بذلك أرشيفاً للمخيلة البشرية، مستودعاً للدهشة، وذاكرةً للحضارة، فهو يحفظ الفنّ ليس بوصفه ماضياً مجرّداً، بل بوصفه نبضاً مستمراً في كلّ آتٍ جديد.

سرديّة اللوحات: الفنّ بين الشعر والمطلق والموسيقى

يمضي النص في استعراض ثلاث لوحاتٍ أساسيةٍ تُلخّص جوهر البرج الفنيّ:

1.  "البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ"

*هنا تتماهى العمارة بالشعر، وكأنّ البرج لم يُشيَّد بالحجر، بل بالكلمة والإيقاع والوزن، في إشارةٍ إلى دور اللغة في بناء التصورات الكبرى.

2.  "لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ"

* اللون اللازوردي رمزٌ للامتداد الكونيّ، للصفاء الأزلي، للحلم المفتوح على اللانهاية، وهو يحوّل البرج إلى فضاءٍ من التوق اللامحدود، حيث يسكن الجمال في أبديةٍ لا تَنقضي.

3.  "راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ"

*  تبلغ التجربة الجمالية ذروتها مع الرّقص كفعلٍ من أفعال التجلّي، حيث يصبح الجسد موسيقى متحرّكة، والحركة وسيلةً للتحليق نحو السموّ. هنا، يتحوّل البرج إلى ساحةٍ صوفية، حيث الفنّ هو الصلاة العليا، والإيقاعُ هو المعراجُ نحو المطلق.

الفنّ بين التوثيق والانفلات

رغم أنّ البرج يُوصَف بأنه "قبلةُ كُلِّ مُرْهَفْ"، أي أنّه المكان الذي يحفظ الجمال ويوثّقه، إلا أنّ النصّ يُدرك المفارقة الكبرى:

"كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

هنا يكمن التناقض العميق في جوهر الفنّ: فهو يسعى إلى توثيق الجمال، لكن الجمال بطبيعته عصيٌّ على التوثيق، متجدّدٌ، متدفّقٌ، لا يُمكن احتواؤه في سجلٍّ ثابت. يطرح النصّ سؤالاً فلسفياً: هل يمكن للزمن أن يحفظ الفنّ، أم أنّ الفنّ بطبيعته هاربٌ إلى ما بعد الزمن؟

البرج كأرشيفٍ حيّ للإبداع

في هذا المقطع، يتحوّل البرج من صرحٍ معماريّ إلى متحفٍ سماويّ، حيث تتراكم لوحات الخيال البشريّ، وحيث تتجاور القصيدة واللون والإيقاع في وحدةٍ إبداعيةٍ متسامية. لكنّه أيضاً يُذكّرنا بأنّ الفنّ، مهما سعى إلى التوثيق، يظلّ في جوهره تجربةً متجددة، لا تُختَزل في إطارٍ، ولا تُؤرشف في سجلٍّ، بل تحلّق دائماً إلى سقوفٍ جديدة.

التلوينُ بين الإيقاعِ والخلاص

(38)

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى

فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا

وهْوَ ليْسْ

في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

حجرةُ التمكين:

في هذا المقطع، تتجلّى حجرة التمكين بوصفها فضاءً للتحوّل، حيث يتشابك الإيقاعُ باللون، والذنبُ بالخلاص، والمجازُ بالحقيقة، في جدليةٍ تجمع بين اللذة والتطهّر، وبين الانغماس والانعتاق.

التلوين والطوبى: الفنّ كتحوّل روحيّ

يبدأ النصّ بالإشارة إلى فعل "التلوين"، وهو ليس مجرد استخدامٍ للألوان، بل هو رمزٌ للتحوّل والتعدّدية، لعدم الثبات في هيئةٍ واحدة، ولقدرة الإنسان على إعادة تشكيل ذاته ورؤاه. ويُقرَن هذا التلوينُ بـ „الطوبى"، التي تُحيل إلى النعيم والتجلّي الروحيّ، وكأنّ التنوّع في الفنّ والتعبير هو طريقٌ إلى بلوغ النعمة والخلاص:

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى"

إنّ "التمكين" هنا ليس مجرد سيطرة أو هيمنة، بل هو بلوغٌ لذُرى الإبداع والتحرّر، حيث يصبح الفنّ وسيلةً للعلوّ لا للقيد، وحيث تتماهى اللذة الروحية باللذة الحسية في فضاءٍ لا يعترف بالحدود التقليدية.

الإيقاع والذنب: جدلية الجمال والخطيئة

في السطر التالي، يقدّم النص مفارقةً عميقة:

"فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا وهْوَ ليْسْ"

هنا، يُصبح الإيقاعُ مُبهماً، متأرجحاً بين الطهر والخطيئة. يُوحي هذا بأنّ الجمال، حين يصل إلى ذروته، يُصبح ملتبساً، ويُثير في النفس تساؤلاتٍ وجودية حول حدوده وقيمته. ربما يكون الفنّ في نظر البعض تجاوزاً محرّماً، لكنه في جوهره ليس ذنباً، بل تجربة تحررية تتجاوز الأحكام التقليدية.

ليلى والمجاز: لقاء العشق والتمكين

يُختم المقطع بصورةٍ تمزج بين الأسطورة والعشق، بين المجاز والحقيقة:

"في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

ليلى وقيس، رمز الحبّ العذريّ، يُعيدان تشكيل المفهوم التقليدي للعشق. لكنّ الشاعر يضيف مخاطبةً للمجاز: "يا مجاز"، في إشارةٍ إلى أنّ الحبّ هنا ليس مجرّد قصة تقليدية، بل هو صورةٌ رمزيةٌ لتحوّلٍ أعمق، حيث تلتقي الروح بالجسد.. والخيال بالحقيقة، في فضاءٍ متحرّر من القيود.

التمكين كفعلٍ من أفعال الجمال

في هذا المقطع، تتبدّى حجرة التمكين كمكانٍ للتجربة الجمالية والروحية المتكاملة، حيث يمتزج الفنّ بالعشق، ويصبح الإيقاع طريقاً للخلاص، ويكون التلوين انعكاساً لتعدّدية التجربة الإنسانية. هنا، يذوب الحُكم الأخلاقيّ في بهجة الإبداع، ويصبح المجاز هو الحقيقة الوحيدة الممكنة، في عالمٍ لا يعترف بالحدود بين المقدّس والدنيويّ، بين العشق والانعتاق.

الحانةُ بين الكفرِ والخلود

(39)

سَيّدةٌ، فاتِنةٌ، لَمْ تَزَلْ

في البُرْجِ سَهْرانَهْ

تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو

لَمْ تَكُ سَكْرانَهْ

حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

سيدوري:

في هذا المقطع، تبرز شخصية "السيدة الفاتنة" التي لم تزل "في البرج سهرانةً"، حاضرةٌ كطيفٍ من التمرّد والجمال..  وهي ليست سوى سيدوري، صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، تلك المرأة التي وقفت بين البطل الباحث عن الخلود، وبين الحقيقة الفانية للحياة. إنّها رمز الحكمة واللذة، التي تتخذ من الحانة فضاءً للحوار مع القدر والوجود.

الشاعر يجعل من حضورها كائناً متجاوزاً للحدود، لا تُعرِّفها المعايير السائدة، بل تتشكّل من نقيضاتها، بين الإيمان والكفر.. بين المعبد والحانة.. بين الجسد والروح.

اما سهرها، فهو هنا ليس مجرد امتدادٍ للّيل، بل هو حالة وعيٍ مختلف، حيث يصبح الزمن ثقيلاً، والوجود أكثر كثافة انها ليست مجرد امرأة، بل هي رمزٌ للخروج عن المألوف، للسؤال الذي لا يهدأ، للفتنة التي لا تُفسَّر.

بين الكفر والبحث عن المعنى

يقول الشاعر:

"تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو لم تَكُ سَكْرانَهْ"

هنا، لا يكون الكفر رفضًا مطلقًا، بل هو تشكيكٌ في النظام القائم، انه تمرّدٌ على كل سلطة تُقيّد الروح والفكر.. انه تساؤل وجوديّ عن دور الآلهة والمصير.. سيدوري، في ملحمة جلجامش، كانت تُجسّد الفلسفة العملية، فهي التي دعت البطل إلى تقبّل لذّة الحياة عوضًا عن مطاردة الوهم. وهذا النصّ يُعيد إنتاج رؤيتها، ولكن ضمن برج بابل، حيث يُعاد تعريف الوجود في كلّ حجرةٍ من حجراته.

حجرةٌ بين المقدّس والدنيويّ

يُقدّم الشاعر مفارقةً أخرى:

"حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

إنّ الحانة، هنا، ليست مكانًا للانحلال، ولا معبدًا للتقوى، بل مساحةٌ بينيّة، حيث يُمكن للإنسان أن يكون حرًّا، متأمّلًا، مشكّكًا ومتحرّرًا من التصنيفات الجاهزة. سيدوري لا تُغري بالفساد، بل تدعو إلى عيش اللحظة، والتمتّع بالحياة دون أوهامٍ كاذبة.

بهذه المفارقة، يهدم الشاعر الثنائية الأخلاقية التقليدية، التي تحصر المرأة بين قداسة المعبد ودنس المبغى. حجرتها/ الحانة، فضاءٌ للذة الواعية، مكانٌ يحتفي بالوجود دون أن يخضع لسلطته. الحانة، بطابعها غير الرسمي، غير المقدّس وغير المدنّس، تصبح رمزاً للحرية، حيث يجتمع الناس لا طاعةً ولا معصية، بل بحثاً عن لحظة وجودٍ خالصة.

سيدوري كصوت الحكمة الضائعة

النصُّ يُعيد بناء سيدوري لا كامرأة عادية، بل هي كيانٌ رمزيّ.. كشخصيّةٍ تتحدّى المفاهيم المطلقة، وما وجودها في البرج الا لجعلها جزءاً من بانوراما المعرفة والتمرّد والجمال.. حيث يُعاد تشكيل كل المفاهيم المألوفة، وان تكون الحانة فضاءً للمتعة والتأمل معًا.. وللرفض والقبول سوية.. حيث تُطرَح الأسئلة ولا تُقدَّم إجابات نهائية. فهي فاتنةٌ وسهرانةٌ ولا تسكرُ، لكنّها تُزعزع اليقين، وتُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمطلق.

عبيدٌ ومهندسٌ وآلهةٌ مترددة

(40)

البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟

تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ

البرْجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

برج المعجزة:

يُقدّم هذا المقطع البرجَ بوصفه نتاجاً لعظمة الإنسان المُستَضعَف، العبيد الذين شيّدوه، لكنه في الوقت نفسه، يُثير تساؤلاً وجودياً: هل سترضى الآلهة بهذا الصرح؟ هنا، يتحول البرج إلى رمزٍ للصراع الأزلي بين الإرادة البشرية والسلطة الإلهية، بين الفعل المجرّد والتبرير الدينيّ، بين العمل القسريّ والتبرير الأيديولوجيّ.

معجزة العبيد: صرح العرق والدم

"البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟"

المفارقة هنا قاسية، فالبرج ليس معجزةَ المهندسين أو الملوك، بل معجزةَ العبيد الذين حملوا الحجارة بأجسادهم، وأسالوا العرق والدم لبنائه. لكنه مع ذلك، يواجه سؤالاً وجودياً: هل يرضى الماوراء بصنيع الأرض؟ كأنّه إنجازٌ فائقٌ للطبيعة، يستدعي عقابًا، أو على الأقل، مساءلةً ميتافيزيقية.

المهندس كمُشرعنٍ للمعجزة

"تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ"

هنا، يظهر المهندس كوسيطٍ بين الآلهة والبشر، ككاهنٍ جديدٍ يُعطي البناء بعده المقدّس. فالقوة البشرية وحدها ليست كافية، لا بدّ من تأويل، من صياغةٍ لاهوتية تجعل العمل مشروعاً. المهندس ليس مجرد صانع، بل هو المفسِّر، المؤوِّل، المروِّضُ لغضب الآلهة.

المعبد: الخاتمة الأيديولوجية للمُنجَز

"البرجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

التكرار هنا ليس اعتباطياً، بل هو تثبيتٌ للمعنى، تحويلٌ للبرج من مجرد بناءٍ ماديّ إلى فضاءٍ مقدّس. ما بُنيَ بالكدح والقهر، يُعطى طابعاً روحياً، يتحوّل إلى معبد، إلى سلطةٍ جديدة تُكرِّسُها العقيدة. في هذا، يفتح الشاعر باب التأويل: هل هذا خضوعٌ للآلهة، أم تحايلٌ عليها؟ هل هو مَعبدٌ طوعيٌّ أم مَعبدٌ مفروضٌ بسلطة المهندس؟

البرج، بين العبيد والآلهة

يقدّم المقطع صورةً رمزية للسلطة والتبرير، حيث يصبح الجهد البشري العظيم محتاجاً لختمٍ دينيّ، لخداعٍ أو لإقناع، كي لا يكون مجرد تمرّد. بين العبيد والآلهة، بين العرق والمقدّس، يُعاد تشكيل التاريخ، حيث يتم تدوير الألم ليصبح حجراً في معبدٍ يباركه الجميع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

......................

* رابط القصيدة //

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

* رابط القسم الثالث//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

* رابط القسم الرابع//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014

**

طارق الحلفي

في المثقف اليوم