قراءات نقدية
عبد الـمُجيب رحمون: مأزق رواية الحداثة

الشيء الذي لم تستوعبه بعد؛ الفلسفة النسوية، ومنظمات دعوات تحرير المرأة هو أن علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، حيث يسعى الرجل إلى امتلاك المرأة واحتوائها، في حين تطمح المرأةُ إلى رجل يحترم قدراتها العقلية، وتقلبات مزاجها، ويقدر أنوثتها، ويستوعب أسرارها. وفي السعي إلى بعضهما البعض، يكمن جوهر العلاقة القائمة على المودة أولا ثم الحب ثانيا.
لكننا نطالع في إحدى الأعمال السردية الحديثة؛ تجازواً لهذه العلاقة، وبوثقتها في خانة الماديات، والمقصود بها تحويل قيمة الجسد من دوره الثقافي السيميولوجي، وبعده القيمي والوظيفي إلى دور إيروتيكي. هذا ما عبرت عنه رواية الملهمات ل"فاتحة مرشيد"؛ بل تعدى الأمر إلى استلاب المرأة في علاقتها بالرجل، والمجتمع بشكل عام، حيث أرادت الكاتبة تبرير منطلقات خيانة الزوجة بخيانة مماثلة لزوجها، وفي الكثير من المشاهد ربطت الإلهام عند شخصية "الكاتب إدريس" بتعداد نزواته الجنسية، والمفاخرة بفحولته، لكنها لم تستحضر قيمة الجنس عند الزوجين، إنه توافق وتطبيع مع علاقات عابرة من منطلقات الحرية الفردية، لذلك نقول بأن الفكر النسوي في الإبداع الروائي يجعل موضوع الجسد والمرأة مبأراً، ومحوراً للبناء السردي؛ كأن الشروط المعرفية للنص لا تكتمل إلا بإفراد هذا الموضوع، لذلك كل صفحات الرواية كنت أسأل نفسي ماذا تريد أن تقول الساردة الحقيقية، انطلاقا من مستويات السرد؟، ماهي غايتها؟ ما هو أفقها السردي والمعرفي؟ لا نختلف في كون الأدب صورة للمجتمع المتناقض، وتعبير عن الحياة في تقلباتها، لكن ينبغي معالجة إشكال الهيمنة الذكورية، أو علاقة الرجل بالمرأة في ظل واقعية سردية تحتكم إلى التشريع والقانون والدين والأعراف السردية في الكتابة. إن الجسد معطى بيولجي ونفسي واجتماعي، ومن ثمة نطرح سؤالا آخر لماذا لا تهتم النسوية بظلم هذا الجسد؟؛ بانتهاكه، وتداعياته التي تنتج نساء يعانين في صمت، حيث تحفل المجتمعات العربية بمثل هذا الانتهاكات، وجدير بالأدب أن يلتفت إليها ليؤكد دوره المعرفي.
في إطار هذا القلق الفكري الذي صاحب القراءة، يتضح أن الكاتبة استحضرت بقوة مفهوم " النص آلة كسولة" يقول "أمبرتو إيكو": «النص إن هو إلا نسيج فضاءات بيضاء، وفرجات ينبغي ملؤها، ومن يبثه يتكهن بأنها فرجات سوف تملأ، فيتركها بيضاء [....] وهو أن النص يمثل آلية كسولة تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص». (القارئ في الحكاية ص: 63). يبدو أن الرواية ابتغت إلى هذا المعنى سبيلا عبر تقنية تداخل، وتكاثر الحكايات التي يسميها "سعيد جبار" ب "التوالد السردي" في كتابه الذي يحمل نفس الإسم، حيث تعمل الساردة على الحكي بالاستذكار من خلال الاعترافات والرسائل، اعتراف الزوجة بخيانتها، أمام زوج فاقد للوعي، بعد حاثة سير غرامية؛ إنه انتقام للمشاعر باللاشعور؛ حيث يتوارى الحقد والكراهية والتحامل على خيانة الزوج التي لا تبررها منظومة الأخلاق كذلك. «بينما أمينة تحكي لعمر قصتها مع كامل التفاصيل، وتجد لذة شبه سادية في سرد أحاسيسها، لمحت شبه حركة من سبابته اليمنى» ( الرواية، ص: 125). إن التوالد السردي أسلوب ذكي وفريد في الكتابة الروائية، يفسح مجال الإبداع والخيال للكاتب، ويمنحه فرصة التعبير بانسيابية وحرية بدون قيود التلقي التي تقبع في ذهنه، من بينها سؤال: من هو القارئ وما هي قدرته وكفاءته السردية؟ إن هذا الانتقال بين الأحداث بمشاهد سردية تميز الفن السنيمائي، جاء لتعميق النَّفَس السردي، وإطالته؛ حيث تتوالد وتتعانق الأفكار، إنه حيلة، وحلية فنية؛ الأولى تقلص زمن السرد وتكثفه، والثانية لعبة سردية تشويقية تنقل القارئ من حالة إلى أخرى.
تصور الرواية نمطا من الرجل الشهواني الذي يفاخر بذكورته وفحولته في اتصال بمفهوم الإبداع والكتابة «وعندما شرحت لها أنني أكتب بعد ممارسة الحب، بكت في البداية كطفلة مدللة». ( الرواية ص: 100) لقد نقلت الرواية مفهوم الإلهام من الروح والعقل إلى الجنس، وهنا سقطت رؤية الساردة في المستوى الطيني الذي بلورته "سعاد الناصر" في كتابها "البوح السردي"، حيث يتم تشيئ جسد المرأة، إنها رؤية ذات احتمالات متعددة للمبدعين والنساء، ولمفهوم الإلهام. لقد ارتبط الإلهام قديماً بشيطان يلهم الشعراء بلاغة الكلمة، وقوة التصوير، كما ارتبط عند علماء النفس بالصفاء الذهني، وعند الأطباء بممارسة الرياضة. إن الإلهام فيما يبدو طاقة حسية لاشعورية، وفي نفس الوقت، هو شعلة من نور تقذف في الذهن فتتشكل الأفكار وتتراص فيما بينها، لكن عند "إدريس الكاتب" بطل الرواية انتقل الإلهام من الحسي إلى المحسوس، الأمر يبدو معقداً، وغير واضح ، فهل تريد الساردة أن تجعل من العلاقة الحميمية محفزاً للإلهام من خلال ارتفاع منسوب الأدرنالين، حيث يرتفع مؤشر السعادة، المرتبط بهدوء الأعصاب، وصفاء الذهن؟ هل تلمح إلى كون المرأة/ الحدث الرئيس حافزاً سردياً بتعبير بوريس "توماشفسكي"، أو قوة فاعلة بتعبير "غريماس"، مهما يكن، فالرواية تنزع نحو تجريد المرأة من هويتها، من روحها، حسب الرؤية التي انطلقنا منها منذ بداية التحليل ؛ رؤية تستمد مرجعياتها من النقد النسوي ذاته، ومن المنهج الأنثروبولوجي الذي يجعل من علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، في احترام تام لسلطتها العقلية، وتدبيرها للشؤون التربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والسياسية.
***
د. عبد الـمُجيب رحمون