قراءات نقدية
عبد الستار نورعلي: يحيى السماويّ وقصيدة "حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون"
في قصيدته (حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون) بقافيتيها، إذ كتبها على مقاطع من شعر التفعيلة، ومن قافيتين مختلفتين، القاف في أكثرها، والنون في المقطعين الأخيرين، وهما خاتمة القصة الشعرية (المفاجأة)، بعد الحبكة الفنية شعرية الأداء بعيداً عن حبكة القصة السردية الحكائية الروائية، يروي لنا شاعرنا الكبير يحيى السماوي حكايةَ العودة إلى نُزُل بانكستاون حيث كان نازلاً في مدينة سدني، بعد رحلةِ يوم طويل، ولقاء حميم مع أصدقائه.
هذه الحكاية (القصة) هي مزيجٌ من الرواية منْ خلال (السرد، ومثلث البداية والوسط والنهاية القصصية المنهجية)، ووصفه لطريق عودته الى مقامه في الفندق، وما عاشه من لحظات من الأحاسيس والمشاعر التي انتابته، والاشتياق الى سومر (العراق) وأحبابه هناك، واصفاً ايضاً مشاهداته لمدينة سدني.
لم تنسَ مشاعرُهُ، ولا وحيُه، ذكرَ الإلهة السومرية الأم (اينانا) التي توحّدَتْ مع الشاعر – لكثرة ما أوحت له من قصائد، وتناصات شعرية – توحّدت معه في كينونةٍ واحدةً، ليصبحا كياناً متوحِّداً، ملتحماً لا انفصام بينهما، وروحاً واحدةً، في جسد وقلب الشاعر، وكأنّه بالمرور عليها لاشعورياً، وإنّما بوحاً عفوياً طبيعياً سلساً، يرمز بذلك الى الأم والحبيبة و(الأرض/سومر) عموماً، لكون إينانا رمزاً للخصب، والحبِّ بمعناه الشمولي، ومنه حبُّ الوطن.
كلُّ هذا وهو يتوجّه صوب النُزُل، بمعنى أنّ الوحيّ هبط من عمق وادي عبقر ليلقي رحالَه في أحاسيس السماويّ الكامنة، والتي كانت على حافة الانتظار لتتفجر في سيلٍ شعريٍّ، إذ هبطَ المُفجِّرُ (شيطان شعره عشقائيل)، فكانت القصيدة بقافيتين، توحدهما اللحظة الحسية المُلهِمَة، مقسمةً على ما بثته من شحنة حكائية مسرودة شعرياً.
وكما أسلفتُ فإنَّ عنصر القصِّ السرديّ، هو أحد عناصر إرهاصات وخصائص الشاعرية في جوانب من قصائد شاعرنا الكبير، والذي يحتاج إلى التأمل والبحث الاستقرائي التحليلي.
السرد في القصيدة ليس السردَ بمفهومه الفنيّ القصصيّ المنهجي، وإنما بفنيته وبنيته الشعرية والشاعرية. فهو عند السماويّ ليس حكايةَ أحداثٍ وشخصياتٍ وأماكن وزمن معيّن، وصراع وحبكة وتشابك، وإنّما رواية شعرية تكتبها الأحاسيس والمشاعر التي اضطربت، وتلاطمت وتصارعت في نفسه وقلبه ووجدانه، فتشابكتْ وتواشجتْ والتحمت في صراع داخليٍّ بعيدٍ عن التنافر والانفصام، بل تلاقت وتلاقحت لتولد هذه القصيدة الباهرة التي رافقت شاعرنا لحظةً بلحظة، وهو يتوجه صوب مكان إقامته؛ لأنّها منْ مسارات وشعابِ مشاعرهِ وعواطفه، ومعاناته ومعايشته التي اجتاحته في لحظةٍ ذاتِ شعرٍ جيّاش فيّاضٍ، يملأ كأسَ المتلقي بلذيذ المدام، ومثير الكلام، فاخذت بتلابيب الولادة الشعرية نحو لحظة غياب صوفية عشقية، تتسامى على المكان والزمان، لترتقي مدارجَ الهيام بسكرةِ الكلام، يحكي لنا إلهامُه من خلالها بما اعتراه من مشاعر، ووجد، وحرارة، وسيل شعريٍّ يتدفق دون عوائق، ولا مطبات حسية، ليسردَ، ويصفَ ببانوراما فنيّة بلاغيةٍ، ولغةٍ مُترَفة، رقيقة الحاشيةِ، جميلةِ الإيقاعِ، برّاقةِ التصوير، عُرفَ بها الشاعر. بانوراما على شاشةٍ عريضةِ، ولوحةٍ ملوّنة بالوجدان، والبلاغة المُصاغةِ بمقدرة راقية التصوير والخَلقِ الفنيّ، تعرضُ ما مرَّ به، وكيف أضاع طريق النُزُل وهو في غمرة القصيدة، التي أمسكت بتلابيب أحاسيسه، فعايش هواجسها وإرهاصاتها ومخاضها، ليأتينا على جواد قصيدة جامحة، لا تنتظر الميدان لتتسابقَ، لأنّها هي السباقُ والمضمارُ نحو هدفها ونهاية رحلتها الشعرية (المفاجأة)، إذ وجد عنوان النزل في جيبه مع المفاتيح، مثلما هي (القصيدة) العِقدُ الفريدُ في جيدِ مملكة الشعر الخالدة.
لقد أثار فينا الشاعر الكبير الفضولَ القرائيَّ، وشدّنا الى هذه الرحلة صوب نهايتها، بحبلٍ من الجمالِ والسحرِ، وفوق عربةِ لذة الاهتزاز الحسيّ والرعشة الشعورية، ليوصلنا سالمين غانمين، فائزين بلوحةٍ تشكيلية مدهشة مرسومةٍ بالكلمات والمشاعر، ملوَّنةٍ بريشةِ الخَلْق الشعري. فالحكاية والأحداث والشخصيات والمكان فيها هي جَمْعُ الأحاسيس والهواجس والمخيال الثرِّ التى هزَّت الشاعر، بل هي الشاعرُ نفسُه في ذروة مخاضِ القصيدة، وبقضِّه وقضيضِه.
***
عبد الستار نورعلي
..........................
حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون
الصبحُ في سيدني طويلٌ
كانتظارِ قصيدةٍ عذراءَ
تأبى أنْ تطِلَّ على
الورَقْ
*
ومساءُ سيدني روضةٌ ضوئيةٌ
أزهارُها غسَقٌ
بحبلِ الضوءِ شُدَّ الى الشفقْ
*
وأنا الغريبُ السومريُّ
مُفتِّشًا عني أحَدِّقُ في الوجوهِ
لعلَّ وجها سومريَّا
يستضيءُ السندبادُ بهِ
يمدُّ إليهِ صوتًا من لِسانِ الضادِ
يُنجي السندبادَ الضائعَ الحيرانَ من شبحِ
الغرَقْ
*
الوقتُ مصلوبٌ
وشمسُ الإنتظارِ بلا ألقْ
*
سأعودُ قال السومريُّ المُسرِفُ / المُتَزَهِّدُ
الطفلُ / الفتى
الشيخُ المُخَضَّبُ بالتبتُّلُ
والمُضَرَّجُ بالنَزَقْ
*
سأعودُ قالَ الى متاهةِ غرفتي
فلربَّما
ستطِلُّ من تحتِ الجفونِ المُغمضاتِ
إلهةُ الأمطارِ " إينانا "
لِتُطفئَ غابةَ النيرانِ في جسدي المُفخَّخِ بالشبَقْ
*
وتؤمُّ بيْ فوقَ السريرِ
صلاةَ " حلاّجٍ " بماءِ لظى تهيُّمِهِ
احترَقْ
*
وتصبُّ ليْ كأسًا من القبلاتِ ..
تُطعِمني رغيفًا من طحينِ أُنوثةٍ
فهيَ الوديعةُ كالحامةِ والرقيقةُ كالفراشةِ
أو أرقْ
*
مُتعكِّزًا ظلّي مشيتُ ..
عبرتُ جسرًا ..
جزتُ ساحاتٍ وأرصفةً
أضَعتُ الدربَ .. أينَ أنا ؟
سأرجعُ قلتُ في نفسي
ولكني نسيتُ اسْمَ الذي أودعتُ فيهِ حقيبتي
ودواءَ وحشِ السُّكّرِيِّ
وشاحنَ التلفونِ ..
أثقَلني الرَّهَقْ
*
قدمايَ مُتعبتانِ
تشتكيانِ وخزَ تنمُّلٍ
والدربُ نحوَ الفندقِ استعصى عليَّ
فمنْ يُعيدُ الى مراعي القوسِ
ظبيَ السهمِ غافلَ مُقلةَ الراعي المُكبَّلِ بالمتاهةِ
فانطلقْ
*
نحو البعيدةِ
بُعدَ قلبي عن يديَّ
وقربَ شمسٍ والنجومِ
عن الحَدَقْ
*
وَعَدَتْ بثوبٍ من حريرِ العشبِ
يسترُ عُريَ صحرائي
وتغسلُ مُقلتيَّ من الأرقْ
*
وتهشُّ عن غزلانِ رأسي في مفازةِ غربتي
ذئبَ القلقْ
*
فأنا اصطباحي في المساءِ ..
وفي الصباحِ المُغتَبَقْ
*
لأعودَ طفلاً ضاحكَ الأحداقِ
دُميتُهُ الغسَقْ
...............
مُستهزئا من سوءِ ذاكرةٍ
يُقهقِهُ في قرارتِهِ الغريبُ السومريُّ
فقد تذكَّرَ
أنَّ في مفتاحِ غرفتِهِ الذي في جيبِهِ
عنوانَ فندقِهِ وخارطةَ الطريقِ الى المكانْ
*
مُتَعَثِّرًا بِظلالِ خطوتِهِ
يسيرُ السومريُّ الانَ نحو سريرِهِ
في نُزْلِ " بانكستاونْ "
***
يحيى السماوي
21/3/2023