قراءات نقدية
هاتف بشبوش: حميد الحريزي.. مُخترِعُ الروايةِ القصيرةِ جداً
تعرضت الرواية القصيرة جدا الى الكثير من الجدل، والذي أعطاها هذا النوع من التجنيس لأول مرة على مستوى العالم العربي هو الروائي (حميد الحريزي) وهي لا تنتمي الى الرواية القصيرة ولا الى الرواية المعتادة حيث الدراما والتراجيديا أو الكوميديا وما تتطلبه هذه الروايات من حبكة سينمية على كافة المستويات. ولذلك سوف يأخذ هذا النوع من التجنيس الروائي القصير جدا مديات طويلة حتى تستقر وتشتهر أكثر مما عليه الآن، كذلك لو أخذنا بنظر الإعتبار الى ان الرواية بشكلٍ عام وكجنس أدبي أتخذت الف سنة حتى إستقرت وانتشرت بما نعرفه اليوم وايضا الموسيقى أخذت وقتا طويلا حتى إستقرت في الذائقة السمعية. أما الرواية التي إعتاد عليها القاريء والتي تأخذ العديد من الصفحات وأحيانا تصل الى أجزاء ومجلدات مثلما الرواية الشهيرة (الدون الهاديء) للروسي (ميخائيل شولوخوف) والتي تألفت من أربعة أجزاء وكل جزء منها شمل أكثر من خمسمئة صفحة وأما الجزء الرابع وصل الى سبعمائة صفحة من القطع الكبير ومن طباعة ونشر دار المدى. وهذه الرواية وحدها يجب عليك التفكير كيف تستطيع حملها بكل أجزائها بينما الرواية القصيرة جدا هي عبارة عن كتيبٍ ضئيل للغاية تحمله مثلما تحمل تلفونك المحمول وهذا يعني تستطيع قرائتها في أي مكان وتنهيها على وجه السرعة مع الإستفادة من معانيها وفحواها. لكننا بصدد ما يراه القارئ والمتلقي بخصوص هذا التجنيس الروائي وكيف سيقتنع القارئ؟. ولذلك علينا أن نترك الأمر للنقد والنقاد والمثقف النخبوي ويتوجب علينا أن نعرف أنّ النقد إتخذ مراحلاً عديدة ومدارس كثيرة حتى وصل الى التجريب الذي منح حميد الحريزي أن ينطلق وفق مفهوم التجريب القانوني والمعمول به أدبيا ليكتشف لنا هذا النوع من التجنيس الروائي والذي تجلّى واضحا في رواياته القصيرة جدا ومنها رواية المقايضة، أرض الزعفران، المجهول، القداحة الحمراء، وغيرها. وأعتقد سوف تتعرض الرواية القصيرة جدا الى الدحض والنقض والموافقة أيضا بذات الوقت لأن أي مبدع سواء إن كان حميد أو غيره سيتعرض للنقد وعلى كافة أنواعه لأن النقد أول مابدأ شفهيا: على سبيل المثال حين يقرأ شخصا شعرا معينا سوف نقول فورا (الله) أو جميل وغيرها من معاني الإعجاب ثم تطور وجاء سقراط وبعده إفلاطون وغيرهم، وحتى القرآن الكريم إستخدم النقد ضد الشعراء وفق الآية (الشعراء يتبعهم الغاوون) ثم تطور النقد على يد القاهر الجرجاني (إن عبتَ الناس عابوك وإن تركتَ الناس تركوك). في ذلك الوقت لم يكن للنقد إصول وقوانين حتى جاء القرن التاسع عشر وأصبح للنقد إصولا ومعاييرا وجاءت المدارس العديدة ومنها الرمزية والرومانسية وغيرها وجاءت المصطلحات النقدية على سبيل المثال السيميوطيقي بالنسبة للناطقين باللغة الفرنسية والسيميولوجي للناطقين بالإنكلوسكسون والسيميائي لشعوب الشرق، ثم جاءت المدارس العديدة منها الأسلوبية والالسنية والسوريالية والبنيوية والتكعيبية حتى وصلنا الى الحداثة بعد الحرب العالمية ثم مابعد الحداثة ثم التجريب الذي وصلنا بعد أربعين عام من ظهوره في الغرب. التجريب الذي من خلاله ظهر النص المفتوح الذي اكتشفه إمبرتوإيكو 1958 وهذا النص اُطلق عليه الكثير من المصطلحات، فلماذا نبخل على حميد الحريزي أن يطلق على هذا النوع الجديد بالرواية القصيرة جدا؟ والتي بدورها ستأخذ مدارها الطويل حتى نستطيع أن نقول أنها السائدة والرائدة لآن البعض منهم قد يعزيها الى إسلوب الحكاية أو أدب الحكائين والمنابر وأنا شخصياً لا أميل الى ذلك. بل، أعطيها هذا التجنيس الذي جاء به حميد، على الرغم من أنها لاتهتم بالوصف الخارجي والوصف الداخلي المتعلَق بالمشهد السردي، يعني الخارجي على سبيل المثال كيف هي السماء وكيف هي الطرقات والأشجار والجداول وغيرها. أما الداخلي هو الشعور النفسي لشخوص الرواية وحركاتهم وتقاسيم وجوههم وغيرها. كل ذلك تختزلها الرواية القصيرة جدا لتعطينا خالص الكلام بإسلوب ٍسلسٍ لين وناعم ومثير ومشوّق.
أنا اقول: من خلال التجريب ومافعله حميد لنتركه لتأويل المستقطب أو المتلقي وهو الذي يملاْ الفراغات الناقصة وابداء الرأي والنصح. ثم هناك العديد من الروائيين العالميين كتبوا بما يشبه هذا النوع من التجنيس ومنها (الجندي الجريح) لغابرييل غارسيا ماركيز، هذه التي هزت المشاعر الإنسانية وقتها ولازالت. الكاتب الدنماركي (هانس اندرسن) ايضا كتب هذا النوع ومن ضمنها الروايات القصيرة جدا لكن وقتها لاأحد يستطيع أن يجتهد مثلما إجتهد حميد وأطلق هذا المسمى الجديد لأعماله الرشيقة الخالية من السمنة والكروش المتدليّة فيستحق أن نقف عنده ونعتبره إنجاز واكتشاف جديد يصلح حتى في البرامج التلفزيونية كأضواء، او قفشات، أو حلقات خماسية أو ثلاثية مثلما نراها اليوم لدى الدراما السورية القصيرة جدا والتي تعرض مثل هكذا روايات قصيرة جدا ومنها خماسية الحب الحرام، أو علاقات محرمة وغيرها العديد على هذه الشاكلة. لكن الإمكانيات العراقية ضحلة جدا للاسف في هذا المجال لأنّ السينما والمسرح مغيبان في هذه الفترة حيث سلطة الكهنوت فكيف بإبداع كهذا الذي نتحدث عنه لدى حميد الحريزي.
لنستعرض بعض الروايات القصيرة جدا لحميد الحريزي وبشكل مختصر: رواية (أرض الزعفران) خمسة فصول عن امراة تسمى (ضويّة) أم الكرامات وخرافاتها وما أكثرهنّ اليوم لآن الخرافة مازالت مزدهرة حتى اليوم على الرغم من فضحها من كبار الكتاب ومنهم ابو العلاء المعري في رسالة الغفران. هذه المرأة ضوية يتناولها حميد بإسلوب ممتع من خلال زبد الكلام وخيره ماقل ودل، هذه المرأة تستغفل هي وزوجها الورع المزيّف جميع من في القرية التي تسكنها بحجة أنها تمتلك الكرامة في الشفاء وقراءة الكف وغيرها حتى تصبح من أثرى الأثرياء كما حال سياسونا اليوم وحيلهم في كسب المال. وفي الأخير وفي صباح ذات يوم ما من أحد يرى ضويّة، أي أنها أخذت الجمل بما حمل وتركت القرية بناسها الذين يضربون الأخماس بالأسداس دون علمٍ ولا دراية ولاتمحيص بسبب تصديقهم الأعمى للخرافة والقديسين المزيفين.
ثم (رواية القداحة الحمراء) التي تحكي عن النضال اليساري للشيوعيين والأكراد في الأهوار وفي تلك الحقبة حيث كان يحكم الطاغية بجبروته وقسوته. فتوضّح لنا هذه الرواية مامدى التضحية للمناضلين ومسيرتهم التي بقيت في الذاكرة العراقية.
وبعدها رواية (المقايضة) التي تحكي عن أرض يسكنها من يملكون الذيول في مؤخراتهم تعبيراً عن شيء يراد به التنكيل أو لغرض زرع الإستغراب في نفوس الناس. وهذه كانت في جنوب العراق تطلق على الطائفة الثانية فيقال عنهم من أنهم لديهم ذيول ويختلفون عن سائر البشر وعن الطائفة الآخرى، وهذه تقال لا لشيء سوى للتنكيل والحط من شأن الآخرين. وفي يوم حقيقي ذهب أحد الأشقياء الى المؤذن صباحا في مدينة السماوة وهو من الطائفة الأخرى التي تحتلف عن طائفة الشقي، وخلع سروال المؤذن ليرى ذيله وما من ذيل هناك. أما قصة حميد فهي إقتربت من تلك القصة القصيرة (بلد العميان) للكاتب هربرت جورج ويلز الانكليزي 1904 والتي أخذت شهرتها كقصة قصيرة بحيث يصبح العميان يرون كل العالم وكانه عبارة عن بلدهم فقط. ثم ياتي شخصا مبصرا ويرى هذه البلدة المصابة بمرض العمى فلقبوه بالأعور حتى يصبح ملكا في بلد العميان لان هناك قصور في الرؤيا الحقيقية فحتما سيتبعها قصور في التصور والمخيال والمعرفة. أو مثل تلك المدينة التي كان كل شعبها مجانين فيتطلب من الحاكم ان يكون مجنونا كي يستقر في حكمه على المجانين فيتوجب عليه أن يكون مثلهم والأّ سوف يُخلع من حكمه. فرواية الذيول لحميد الحريزي هي ساخرة ومثيرة للغاية ومختصرة إختصارا شديدا تستحق أن نطلق عليها بالرواية القصيرة جدا.
أيضا هناك رواية قصيرة جدا عنوانها (المجهول) وهي تحكي عن السجين العراقي لمدة عشرين عاما ويخرج في الانتفاضة ليرى سقوط صدام، وهكذا تدور الأحداث عن الإستغراب والدهشة وتغيير ملامح الطرقات لدى هذا السجين الذي ينتهي به الأمر دون الإستفادة من عمره وناسه وأهله وحياته بينما هو المناضل العتيد ويبقى الساقطون يلهون في الأرض فسادا ولا زالوا. وغيرها من الروايات القصيرة جدا التي سردها حميد بإسلوبه الماتع الغير ممل بل كان في أقصى إجتهاده لكي يعطي للمتلقي مفاهيمه التي يريد أن يقولها على شكل ٍرشيق ومنسرحٍ ودسمٍ في المعاني.
في الأخير أقول: أن فن التجريب لهذا النوع من الروي القصير جدا له طاقاته الهائلة في الإبداع لآنه يدخلنا في مديات التأويل على أكثر من مفصل ومفصل علاوة على التكثيف والعصارة واختزال الوصف في مجمل الروايات الاّ أن حميد ربما اشتغل على القاريء وانا قلت: هو الذي يملك التصويت الكامل إتجاه هذا النوع. القاريء هو من يعطي ويضيف ويؤول ويشرح وهذه هي العلامة البارزة في فن التجريب. يعني لو ان الروائي اختزل موضوعة الضوء في غرفة ما وفي النهار فأن القاريء عليه أن يعرف آن فتح الضوء في الليل وفي الغرفة ذاتها يختلف عنه في النهار، وفتح ستائر المنزل في النهار على الفضاء الخارجي يختلف عنه عند فتحها في الليل. وهذه يُعمل بها في أغلب الأفلام السينمائية وحسب مهمة المخرج ومعرفته بالرواية والسيناريو.
ويبقى هذا التجنيس الذي جاء به حميد ينتظر الزمن فجميع الفنون كما قلت أعلاه أخذت وقتا طويلا. وكل اكتشاف جديد سوف ياخذ مداه حتى يكون لامعا ساطعا في المدى الواسع. يعني على سبيل المثال فن السينما أول مابدأ قبل 700 عام في اوربا وهو يتمثل في كيفية تلك اللعبة للآطفال وكيف كنا نضع رؤوسنا داخل علبة صفيح مع تغطية رؤوسنا بملاءة خفيفة ومن ثم ننظر من ثقب صغير لنرى الأشخاص يتحركون على هيئة خيال أو ظل وكاننا في صالة سينما مصغرة. ثم تطورت السينما من صامتة (شارلي شابلن) الى صوتية وأصبحت بشكلها المثير للجدل وأبعادها الثلاثية وكيفية تسليط الضوء وتناغم حركة الشفاه مع الصورة. القصد من ذلك كل الفنون أخذت المديات الطويلة في الإنتشار ماعدا السيناريو فهو الوحيد الذي إنتشر بسرعة مذهلة حيث تجاوز الخمسين سنة فقط ووصل الى ماهو عليه الآن. واليوم أغلى أجر يتقاضاه هو السيناريست في بلدان الغرب وليس في بلداننا التي لاتقدّر هذا العمل البارع. فذات يوم قال المخرج الشهير (الفريد هتشكوك) حين يكتمل السيناريو هذا يعني لقد إكتمل الفلم. ومن هذا المنطلق يمكننا القول: أن حميد الحريزي إشتغل بصيغة السيناريو بإعتباره ملخصاً ومضغوطا للعمل الروائي الطويل وهذه مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق وإنما تتطلب الذكاء والجهد والمعرفة الرصينة مثلما ذت يوم كان الممثل الراحل والشيوعي الشهير (كيرك دوغلاص) أراد كاتبا لسيناريو فيلم (سبارتكوس) وبالفعل بحث كثيرا حتى وجد السيناريست اليساري والشيوعي أيضا (دالتون ترامبو) وبفضل هذا الرجل السيناريست أصبح فلم سبارتكوس الذي تناول قضية العبيد في الإمبراطورية الرومانية هو الأجمل في القرن العشرين على الإطلاق.
وفي الأخير أقول ياترى: كم من الزمن سيتخذ هذا المنجز الجديد أوالرواية القصيرة جدا من إكتشاف البارع الروائي حميد الحريزي؟. وإذا هناك من يعترض على الإختراع الجديد فلابد من القول لشد الأزر لحميد الحريزي وفقا لماقاله (جان ككتو):
مايلومكَ الناس عليه
إعمل به ِ
فهذا هوأنت
***
هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي