قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: قراءة في رواية "المسرات"
"إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً"! المسرات، ص10
هذه الرواية مقسمة إلى اربعه فصول، لكن الانطباع السريع أنها تتكون من جزأين، الأول مكتوب بلغة سارد خارج عن الشخصيات والثاني على لسان البطل، الراوي توفيق.
تبدو "المسرات والأوجاع" من صفحتها الأولى أنها رواية ذات مغزى فني عميق يمكن أن يكون قريبا أو متجسدا بالمقولات الفلسفية، التي أوردها العراقي فؤاد التكرلي في نهايتها.
إنها في حقيقة الأمر رواية واقعية فلسفية عن حياة بشر عاديين وإنسان من مستوى خاص ولكنها مشبعة أيضاً بالمفاهيم ألأليغورية المجازية والرمزية ذات العمق الفلسفي والخيال والدفقات المضمونية في "دربونة الشوادي"، حيث تكوّنت عائلة القردة من نسل الجد الحطاب المعروف "بجسده القصير المتين وبخلقته الغريبة، فهو أقرب إلى القرد منه إلى الإنسان" أنظر: فؤاد التكرلي. المسرات والأوجاع. دار المدى للثقافة والنشر، ص5
تتأسّس هذه الفكرة المجازية عن عبد المولى منذ بداية الرواية في مضمونها وبنيتها كما سنرى لاحقا، فوصف الكاتب له كونه مختلفا عن الآخرين من حيث الأصل والتكوين له دلالته لا بدّ من التوقف عندها، فهذا المسخ " لم يعلم أحد من أي مكان قدم إلى تلك المنطقة الحدودية المفتوحة.. غير أنه كان يتكلم بلكنة أقرب إلى لكنة الهنود.. وتضاربت الآراء مع الإشاعات عن سبب قبول هذه الفتاة ابنة النجار، التي لا علاقة لها بالجمال، بقاطع الخشب القادم من المجهول والذي لا علاقة له هو الآخر بالشكل البشري. قيل إنه والدها، اراد التخلص من هذه المصيبة، وقيل إنها ثروة عبد المولى.. وقيل إنها رأت فيه شيئاً أضاع صوابها فوافقت." المسرات والأوجاع، ص 6
نجد في هذه الرواية صوراً ذات معانٍ أليغوريةٍ تم التعامل معها وتصويرها ومعالجتها في مشغل عمل الكاتب بطريقة "تكرلية" تختلط فيها الأوراق والصور والمفاهيم بحيث تتحمل قراءات متعددة ومتنوعة ومختلفة في آن واحد وتعطي الفرص لمختلف التأويلات والتفاسير.
ولهذا فقد يكون من غير المجدي البحث عن حياة الكاتب وتجاربه الشخصية ودورها في بلورة الأحداث الروائية أو تأويل واحد للبنية والمضمون الروائيين إذ إن ما نقرأه هنا ليس تصويرا للواقع فحسب، بل إعادة تصويره وخلقه والأصعب من هذا وذاك اقتحام الحياة وإعادة فلسفة ظواهرها بدءاً من الأكل والشرب مرورا بالجنس، هذه القوة العمياء وانتهاءً بالامتلاك أو أن تكون إنسانا أو لا تكون.
ولكنه قد يكون من المفيد للباحث الاستعانة بخلفية التكرلي الثقافية والروحية وغيرها من الأمور، التي جعلته يهتم بهذا الجانب دون غيره من جوانب العمل الفني وبخاصة الرمز والجنس.
فالقارئ في حقيقة الأمر وكما سيتبين لاحقا ليس أمام مجموعة من البشر، أراد الكاتب أن يشبههم بالقردة في الخلقة والتكوين فحسب، بل في اسلوب الحياة والعيش وكما لو أنه يدعونا للنقاش حول السؤال الأزلي عن مغزى الحياة.
يتكرر وصف أشكال أفراد عائلة عبد المولى ".. كمجموعة من ممثلي السيرك" ص10 لدرجة أن زوجة سور الدين، بن عبدالمولى أصيبت بالذعر لسماع " نقيق" أطفالهم. ص11
يبدو أنهم يحملون رمزا (أليغورياً) غير عادي وليسَ جديداً في عالم التكرلي، الذي سبق له وأن قدّم لنا في روايته "الرجع البعيد" منيره، واحدة من أجمل المخلوقات الرمزية الروائية العربية.
حتى المكان: دربونة الشواذي "درب القردة" يبدو أنه موظف لتكريس هذه الفكرة الأليغورية المطلقة مع هؤلاء الناس المشكوك في أنسنتهم وإنسانيتهم كما سنرى فيما بعد.
تتكرس هذه الموضوعة باضطراد مع تصاعد بافَث (حماسة) السرد الروائي وظهور أبطالها وتفاقم الأحداث وتناقضاتها، حيث تصبح ولادة توفيق منحى أليغوريا جديدا يضيف للشكل المضموني الروائي دفقا تشويقيا في بداية السرد حيث يولد الطفل الجميل الإنسان الطبيعي توفيق ".. في الساعة الخامسة من فجر يوم الأحد الخامس عشر من حزيران 1932
أعتقد أنه من الضروري البحث في التاريخ الشخصي والخاص والعام عن هذا اليوم في العراق للعثور على ما يمكن إضافته لفهم الصورة الفنية ولتفسيرها ضمن السياق الأليغوري.
.. كان توفيق طفلا نادرا في جماله، فشعره الأسود الناعم منثور على جبينه، وعيناه واسعتان وتقاطيعه مرسومة بإتقان على صفحة وجهه الصافي البياض" ص17 و"توفيق يزداد وسامة وعنادا ومشاكسة"18 لدرجة أن عمتهم صاحبة الدار تغدق عليهم بسببه المال والهدايا والأكل. توفيق بادرة خير في شكله وحضوره، إلا أن الصورة تتغير كما سنرى فالعالم كله يشن عليه حروباً غير معلنة.
تحمل المقارنات من حيث الشكل والخلقة بين توفيق من جهة وأخيه القبيح عبدالباري وأقربائه الآخرين من ناحية أخرى، تحمل نفس المعنى والمغزى ف"ما أن بلغ توفيق الثانية عشرة من عمره حتى تساوى في الطول مع شقيقه عبد الباري الذي يكبره، كما نعلم بسبع سنوات والذي تجاوز سن المراهقة دون تغيير في هيئته التي لا تسر. ولم يذق توفيق من الحرمان ما ذاقه أغلب العراقيين باستمرار الحرب العالمية الثانية.." ص21، بينما نجده على عكس أخيه ".. طويلاً نحيفا.. بمظهر جذاب يملأ العين،..". ص22
وفي مكان آخر يتساءل توفيق نفسه ".. من أين جاء كل أولئك البشر ذوي الخلقة الملتوية" بينما يصفه الكاتب ب " الوضاء لم يكن يحمل شارة "الدربونة" على وجهه.. هذا الذي قرأ جده على رأسه القرآن". ص27
التأكيد على اشكال آل عبد المولى يتكرر في أكثر من مكان من الرواية وبإشارات واضحة لا غموض فيها، أنظر مثلا ص132
ولهذا فليس صدفة أن يذكر سانين قبل غيره من الأبطال الروائيين الذين تأثر بهم توفيق، فنحن إذن أمام إنسان من مستوى خاص في الواقع والفضاء الروائي، إنسان منصرف نحو الحاجات الروحية كالجنس والكتب. ص28
يدخل ضمن هذا السياق الأليغوري العديد من التفصيلات السردية بما فيها انتقال سور الدين "البعيد عن الفطنة" ص16، والد عبدالباري القرد وتوفيق من خانقين إلى بغداد عام 1931 واهتمام الأم بعبد الباري القبيح أكثر من أخيه الجميل وسرقتها ماله. أنظر ص263 وإتلاف رسائل آديل، محبوبة توفيق، من قبل المعتوهة كميله المهووسة بالامتلاك، "رسائلي؟ لماذا؟ ماذا عملت لهم؟ ص267، ورجل الأمن الأعرج، الأمي العادي وهوسه في الوصول إلى كرسي الحكم والسلطة ولكن ليس بدون متاعب "كرسي مدير العام بالوكالة انكسر تحته مرة أخرى" ص315 وصعود المحامي المسخ المقطوع الجذور ممتاز، الذي يستعير لقب اللامي والاعتداء على توفيق في خانقين ص283-284 وتصرفه في فاتحة آل قصابي ص381، إضافة إلى نهاية الرواية المتجسدة بعلاقة فتحيه وجنينها من غسان، الشخصية الموازية لتوفيق، والتي تذهب ضحية الحرب تاركة ورائها خمسين ألف دينارا.
لكنها ليست رواية أليغورية كلاسيكية وعظية تعليمية ترمز فيها الشخصيات إلى الخير والشر، تتصارع فيما بينها وتكون النهاية سعيدة حسب مفهوم الكاتب للسعادة من وجهة نظره.
سنرى فيما بعد أن هذه المسحة الأليغورية غير مقتصرةٍ على الوصف الخارجي للأبطال ودرجة شبههم بالقردة فحسب، بل شملت مقومات الرواية الأخرى مثل الزمان والمكان وعلاقاتهما الهرونوتوبية ( الزمكانية) ونشاطات السياسة والحب والجنس والامتلاك. نلاحظ مثلا أن تكاثر آل عبد المولى يبدأ "بعد تأسيس الدولة العراقية الجديدة". المسرات والأوجاع. ص 11
لا شيء عند فؤاد التكرلي بدون مغزى، ويخطىء أي ناقد يتناوله بدون التعمق في مغزى كل حرف وصورة ونبرة، ومن هذا المنطلق يجب الاعتماد على التأويل الباطني وليس الظاهري لكل حدث وظاهرة وممارسةٍ.
تتضح هذه الفكرة الأليغورية في بنية الرواية أيضا من حيث اعتمادها على طريقتين سرديتين رئيستين: الأولى تقليدية والآخرى على لسان الراوي، أو السارد العليم، البطل اللغز توفيق وكتاباته ومذكراته، إضافة إلى الأساليب الثانوية الأخرى.
إذ إننا أمام سرد تقليدي، يقوم به الكاتب متنقلا بكاميرته لوصف تاريخ تطور عائلة عبد المولى وابنائه وأحفاده في خانقين حتى انتقال ابنه سور الدين إلى بغداد وولادة توفيق الرمز المجازي الكبير في هذه الرواية.
إن المتلقين لهذا النوع من الروايات يتعاطفون ويتفاعلون مع شخصية معانية، مدمرة، ضحية ومسحوقة مثل توفيق رغم مغامراته الجنسية، التي قد تبدو لبعضهم مجرد لهو وعبث، يتعاطفون معها بسبب صدقها ومرارة حياتها وقدرة الكاتب على استخدام لغة معبرة خاصة بها ذات إيقاع داخلي ونبرات شاعرية وحسية مرهفة.
ويُفاجيء المتلقي المتفاعل اثناء قرائته الصفحات الأخيرة لهذا العمل الفني ببقاء توفيق على حاله من الفقر والإفلاس حتى قبل نهاية الرواية بثلاث صفحات. قد يرفض المتلقي في مثل هذه الحالة نهايةً تعيسةً، يُشرّد فيها بطلٌ وُلدَ جميلا رائعا متعلما ذكيا ويبقى فقيرا وحيدا بلا مال ولا بنين، لا زوجة ولا ذرية ولا أهل. وهذا أمر مناقض تماما للتفسيرات الأليغورية الكلاسيكية الرمزية القديمة التي تفترض نهايةً سعيدةً لقوى الخير التي يمثلها هنا توفيق وغسان ونهايةً أخرى بائسةً لقوى الجشع والشر والخانعين مثل أم توفيق وثريا وآل القصابي والمحامي المتسلط المسخ ممتاز اللامي، الذي يلقى حتفه مع عشيقته نتيجة لصاروخ إيراني يسقط عليهما في خانقين فيضيع كل شيء.
هذه هي النظرة الكلاسيكية التعليمية لمثل هذه الطباع، لكننا أمام نص تختلط فيه الأوراق أو الطرق بحيث تبدو لي "المسرات والأوجاع" رواية معاصرة بمسحة كلاسيكية ليس في كيفية تناول الرمز فحسب، بل في طريقة السرد في الفصل الأول وفي الحدود الحسّاسة الفاصلة بين لغة الكاتب في كل العمل الفني من جهة، ولغة السارد بضمير الغائب ولغة الراوي بضمير أنا.
ومع ذلك حدثت هذه النهاية السعيدة عمليا، ولكن بطريقة معاصرة ضمن وحدة سردية مفاجئة فيها الكثير من الفنية والتشويق ومقبولة ومتوقعة بالنسبة للمتلقي المتفاعل مع العالم الداخلي للنص، مفاجأة، ينهي فيها الرواية خير نهاية "أدخلت، مع ذلك، المفتاح الصغير في قفل الحقيبة الخضراء وأدرته كما يجب ثم رفعت الغطاء. كان الفجر، متسعا، أخاذا بألوانه الحمراء والزرقاء والصفراء، يتفتح ببطء على رقعة السماء المنبسطة باسترخاء أمام شارع أبو نواس، وكنت أسير على مهل، واضعا يديّ في جيبي معطفي، استنشق بعمق نسائم بقايا الليل الباردة..شاعراً كأن أعماقي تغتسل مثلما تفعل السماء..لم أتحمل البقاء بعد تلك الليلة البيضاء، فخرجت أتمشى وأحقق هذه المسيرة العجائبية على ساحل النهر، مستقبلا يومي الجديد". المسرات، ص460
يذكرني هذا الوصف الشاعري بطريقة وصف بطل رواية الرجع البعيد، الذي عقد العزم على العودة لحبيبته وزوجته منيره رغم إطلاق الرصاص بين المتصارعين على السلطة، فيصاب برصاصةٍ، لكنه مع ذلك في نهاية المطاف يستر شرف زوجته التي اغتصبت قبل عقد قرانهما، ذات الصفة النورانية والمقدسة بقدر قدسية وطنه العراق. لكن سلوك مدحت هنا أقرب إلى الواقعيةً وليس ألأليغورياً أسطورياً خالصاً، كما هو الحال لدى وليم فوكنر عند تصويره بطل" الصخب والعنف" (كوينتن) الذي يدّعي أنه هو من فضّ بكارة اخته ليستر سلالتهم والجنوب الأميركي كلّه، ولهذا لم يثق والده به! بينما يثق القارىء بسلوك مدحت كونه نابعاً من شخصيته المدينية المتفوقة رغم المعاناة النفسية الكبيرة والعميقة التي مرّ بها والعراق في شباط 1963.
ولهذا ليس صدفةً أن الروائي فؤاد التكرلي يذكر رواية «سانين» للروائي الروسي ميخائيل أرتزيباشيف، الذي يعتمد على فلسفة الألماني العدمي ماكس ستيرنر 1806-1856 الأقرب إلى الوجودية وفكرة الحرية الفردية ورفض التقاليد المحافظة، والذي انتقده إنجلز شعراً!
ولهذا نلاحظ أن توفيق (المسرات) أكثر تحررا من مدحت (الرجع البعيد).
ولو افترضنا مثلاً أن توفيق "المسرات والأوجاع" لقي نفس مصير مدحت "الرجع البعيد" لاعتبرنا النهاية غير موفقة أو على الأقل غير متناسبة مع السياق العام وبافَث (شغف وحماسة) السرد كله وحماسته أو لفقد حديثنا عن طابع الشخصيات الأليغوري أساسه العلمي.
يقول توفيق "تذكرت غسان وما عمله معي. لم يكن إنسانا عاديا بالمرة، وها أنذا أتأكد من ذلك بعد رحيله الأبدّي. كان، بحياء لا يصدق، يخترق ببصيرته الحجب ويدرك نوع البشر الذين يعايشهم. ورغم كل شكّي، فإن معدنه الإنساني كان قد صُهر، كما يبدو، بتجربة عظمى صفَّت، بشكل ما، روحه وقلبه وفكره. أكان إذن على علم بكل شيء.. بكل النوايا؟.. وكيف يتأتى لبشر أن يعرف مالم يخلق بعد أو يصير؟.. نضد من الدنانير في لفافات محاطة بشرائط ومصفوفة بإتقان، ملكت، قبلئذ الوقت لتعدادها فكانت خمسين ألف دينار". ص461-462 أريد أن أقرر ما يجب أن أعمله بشأن هذه الثروة، ثروته، بشأن تلك الفتاة، فتاته، بشأن جنينها..بشأنها وشأني". ص463
يمكن للباحث ان يلاحظ بجلاء اللغة المفعمة بنبرات داخلية تتسم بالشاعرية والسمو والتفاؤل ومحاطة بالرهبة من اتخاذ القرار رغم أن الفجر ملون بألوان رائعة، ذات أبعاد رمزية.
ويمكن ملاحظة طريقة وصف الطبيعة والعالم الداخلي للبطل والجو النفسي والمشي ببطأ بدلا من حالات التسكع والتشرد والشعور بالجوع ومرارة العيش، التي لاحظناها عليه قبل استلامه هدية غسان النقدية، مما يؤكد رأينا حول الجانب الأليغوري في هذه الرواية ولكنها بالتأكيد ليست تقليدية كما هي في العصور القديمة والوسطى.
ويقول توفيق مختتما الرواية "أحسست بمواجهة الشمس والسماء ودنياي، بخفة روحي تزداد، وخطر لي بأني في نهار رائع كهذا قد أستطيع أن أفهم بعمق وان أنفذ إلى الخفايا التي استغلقت عليّ ليلة أمس. ولعلي، إذ أنشد بإخلاص مثال الخير والجمال، أكون أكثر قدرة على الاختيار الصحيح وأكثر صلابة في السير نحو هدفي.
فما دمت متأكدا بأني وغسان عشنا زمننا، الذي أتيح لنا بالصدفة، متحدين نفسا وعاطفة ورؤى، فلا بدَ إذن أن أتوصل إلى إدراك ما يُفترض أنه تمنى على أن أعمله، له ولها ولي. لا بد". المسرات والأوجاع، ص 464
أخيرا فإن هناك إشارات أليغورية عديدة موزعة على مختلف مساحات الفضاء الروائي في الحبكة والبنية والوصف الخارجي والداخلي ووصف الطبيعة وتطور الشخصيات وغيرها من السرديات التي مارست حضورها في هذه الرواية، والتي يمكن ويجب درجها ضمن هذا المفهوم.
يمكن للباحث التوقف عند الطابع الأليغوري لمختلف الشخصيات بما فيها أسماءهم، مثل رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله وكرسيه والمحامي المسخ ممتاز اللامي وآديل وأنوار وتوفيق وغسان وعبد الباري وكل القردة. ويمكن مقارنة هذه الظواهر التي ذكرناها بكل اعمال التكرلي الأخرى، القصصية الأولى مثل "موعد النار وهمس مبهم والقنديل المنطفىء والوجه الآخر" وغيرها و"الرجع البعيد" و"خاتم الرمل" وأعمال روائية لكتّاب آخرين.
وفي الحقيقة أن هذا الموضوع يستحق دراسة كاملة، يمكن لها أن تعتمد على معالجة قراءات الكاتب وتجاربه الشخصية لا سيما وأنه عمل في القضاء العراقي مما سمح له الاطلاع على جوانب حياتية لم يكن يمكن لزملائه الآخرين من الكتاب العراقيين أن يطلعوا عليه.
زمان الرواية
يبدأ الفضاء الروائي بظهور عبد المولي منذ بداية القرن العشرين حتى الحرب الأخيرة بين العراق وإيران "كانت دربونة الشواذي في بداية القرن العشرين قد امتدت وأخذت ابعادها..قبيل الحرب العالمية الاولى 1914-1918 بقي من الأبناء اثنان لم يتزوجا..". ص7-8
وفي ص 11 يشير السارد إلى أن العائلة تكبر بعد تأسيس الدولة العراقية كما ذكرنا سابقا ص11 وأن نور الدين ينتقل إلى بغداد على مشارف العقد الثالث. ص15
ويلاحظ القارئ أن الكاتب يحاول أن يربط الأحداث الشخصية بالتواريخ الكبيرة المهمة والأحداث التي تهز الأمة والعالم مثل الحرب العالمية الأولى والثانية وتقسيم فلسطين ومعاهدة بورتسموث 1948 والثورات أو الانقلابات العسكرية في 14 تموز 1958 و8 شباط 1963 و14 رمضان 1963 ونكسة حزيران مهتما بتبعات 1968 وما بعدها، التي تتجسد بممارسات رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله بشكل تصاعدي حتى اندلاع الحرب مع إيران عام 1980 كنتيجة لحالات الجشع والامتلاك والسيطرة متمثلة بممارسات عائلتي عبد المولى وآل قصابي وكميله وممتاز اللامي وخنوع جاسم الرمضاني وإسحق توفيق.
يقول السارد: ".. قرار ابنته الرزين ببيع دارهم في خانقين. كان ذلك غبَّ مقتل الملك غازي الأول وقبيل الحرب العالمية الثانية سنة 1939.. ” ص19 ويقول في مكان آخر من الرواية "ومرت أحداث تقسيم فلسطين والمظاهرات الشعبية ضد معاهدة "بورتسموث" أواخر 1947 وبداية 1948 دون أن تمس العائلة بسوء فعبد الباري ووالده منكبان في العمل وتوفيق بدا لوالدته أكثر إدراكا من تعريض نفسه لمخاطر مجانية إلا أن الحقيقة هي أن هذا الأخير لم يكن بهذه الرزانة التي توسم بها فقد خرج مع الطلاب الخارجين في المظاهرات إلى الشارع عدة مرات وهتف مع الهاتفين وشاهد الجواهري يلقي قصيدته محمولا على الأعناق". ص22
يحدث انتقال عائلة آل قصابي ضمن احداث 1948 ص23 ويصف كلية الحقوق عام 1952 ومظاهرات 1952 ص30-31 و"في سنة 1956، حين كان العالم يشتعل في قناة السويس والمؤامرات تحاك في الشرق الأوسط على كل الأصعدة اتخذ توفيق وأصدقاؤه وكلهم موظفون محترمون لا يتدخلون في السياسة قرار... للعب البوكر في أحد النوادي". ص47
كما يبدو من النبرة التي يحكي لنا بها السارد حكاياته بأن الرزانة أبعد من السياسة في هذا البلد الذي كما يبدو لا يعرف أحد حقوقه ولا يميزها عن حقوق الآخرين كما سنرى ولهذا فإن أبطال التكرلي على الأغلب لا يتدخلون في السياسة ولا أحداثها، لأنهم برأيي غير قادرين على صنعها بأنفسهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. لم يتعاطَ مدحت بطل الرجع البعيد السياسة ولا توفيق لكنهما يتميزان بالصدق والأصالة وبالمستويين الخاص والعام ونوع من السمو الاخلاقي.
أعتقد أن هذا الأمر يستحق عناية ودراسة خاصتين من قبل الباحث المهتم بعالم التكرلي وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى تكوينه الفكري والنفسي ورؤيته للعالم وموضوع نسبية التفاؤل والتشاؤم وغيرهما من المفاهيم. أبطال الروائي لا يقدمون على أعمال سياسية كانت أو عاطفية بدون شروطهم الخاصة بهم لفهم الأشياء العميقه بغض النظر عن إيجابيتها أو سلبيتها. في الحقيقة أن موضوع التفاؤل بشروط يجب أخذه على منتهى الجدية ومناقشته على أساس فلسفي وعقلاني لا عاطفي.
والزمن يصبح بتطور العمران والجشع والامتلاك مشحونا عنده في "المسرات والأوجاع" بتَبِعاتِ السياسة المدمرة وتصعيداتها وليس بأحداثها اليومية والمحلية ونشاطات أحزابها، كأن يأتي هذا الأعرج الأمي ليصبح رجل أمن ثم مديرا ينهي ويأمر ويساهم في إيقاف دورة العمل والإجراءات الإدارية وتعطيل الحياة، بل شلّها.
وما تكدس الرسائل إلا رمز استباحة المجتمع له ومصادرة آرائه، إلا أن التكرلي كعادته يفضل ان يصورها بطريقة غير مباشرة بعيدة عن نشاط الأحزاب والحزبيين والمظاهرات السياسية. أنظر ص 129، 139، 149، وأنظر حول فصل توفيق من عمله: ص185
كان من الواضح أن تبعات هذه السياسة في هذا الزمن العراقي المعاصر، الذي يتحرك فيه الفضاء الروائي تأخذ بالاتساع لتشمل الحياة الاجتماعية والسقوط الأخلاقي لتصل إلى نتيجة مدمرة تأخذ معها غسان، ذلك الرمز الضارب في الأعماق ليس بالنسبة لتوفيق فحسب، بل لكل الصرح الروائي كعمل فني.
وكان أيضا من الطبيعي أن يتفاعل المتلقي مع الكاتب بأن هذا السرد أو بالأحرى التسلسل التاريخي سيؤول إلى حدث كبير مثل الحرب "آلة الهرس الجماعي" كما يسميها التكرلي، حدث المحنة الكبرى، لا يمكن أن يمر عليه مرور الكرام بدون أن يرتبط بمصائر البشر وحياتهم فكان أن وظفه لخدمة بنية الرواية ونهايتها التي أعطت دفقا زمنيا جديدا لبداية جديدة، يولد فيها ابن غسان وفتحية وقد يحدث هذا في رعاية توفيق! ص 414
بنية الرواية:
عند نضج البطل توفيق تتغير بنية الرواية ويترسخ كشف الواقع مختلطا مع الأليغوريا والرمز ويصبح إنسانا لغزا، يربط العالم كله حوله وليس الأبطال الآخرين فحسب، بل أحداث الرواية كلها.
يصبح توفيق السارد مركز شد هام في بنية الرواية، تزداد أهميته بإضطراد وبشكل حماسي يشكل ما يدعى بالبافَث الفني. هذا البافَث أو الحماسة تتصاعد باستمرار صعود نجمه و"أُفوله" حسب مفاهيم القردة "الفولجار" المبتذله، ومع تحركاته وصولاته وجولاته الجنسية وتشرده في احياء بغداد القديمة والحديثة مستمتعا رغم التشرد بالمعنويات الروحية على الضد من انشغالات الرعاع الحياتية الضيقة الأفق.
ويلعب الكرونوتوب دورا كبيرا في تشكيل الفضاء الروائي وشد معماره من خلال التشرد والتجوال ووصف الأمكنة وربط الأحداث والشخصيات الأخرى بالبطل وببعضها بعض.
كما أشرنا سابقاً، يلتزم الكاتب في الفصل الأول بالسرد التقليدي، الذي يكاد أن يكون الجزء الأول من الرواية حيث تسود موضوعية الوصف باستثناء حالات سردية معينة تتسرب فيها تلميحات فكرية أو تصريحات تعبر عن وجهات نظر الكاتب الأكثر تعقيدا في مثل هذا العمل كما سنرى في أجزاء الرواية الأخرى.
الجزء الثاني من الرواية هو الأكثر تعقيدا لكونه يمد القارئ بقوة دفع خيالية بسبب دفق الأفكار والمفاجآت وتسارع الأحداث بيان غير ساذج أو بسيط لواقع ظاهره معقول أو يقوم على القيم والأخلاق بينما باطنه ليس كذلك.
من هنا تأتي أهمية شخصية توفيق في بنية الرواية فتصبح راوية الأحداث لكونها حيويةً ضاربةً جذورها في عمق أعماق الأرض والحياة والكون، بل كل الكون وشموليته من خلال انفتاحه على عالم الفكر عن طريق تحليله الروايات العالمية.
لا شيء في هذه الرواية، بل في كل أعمال التكرلي، يدخل ضمن ما اعتدنا على تسميته بالتلقائية والعفوية وغيرها من سمات الرواية الواقعية وفي مرحلتها وتجاربها الأولى بخاصة لأنه ينقح أعماله ويغربلها ويراجعها كثيرا ويعيد النظر فيها ويؤخّر نشرها، وهذا يعني أنه يطيل من أمد بقائها في مشغله، ما يجعله يدرس كل شيء دراسةً عميقةً ويحسب لكل أمرٍ حسابه.
تعتمد الرواية في بنيتها على محاور مضمونيه يتمركز أغلبها حول توفيق بخاصة عندما يصبح هو السارد العليم بضمير أنا، مثل محور توفيق وآديل وكميله وأنوار وفتحيه، الذي يتطور بدخول غسان عند نضجه ثم يتوسع فيشمل ممثلي سكنة حي العامل أهل فتحيه وغيرهم ثم يزداد اتساعا ليشمل الجميع تقريبا بمن فيهم جاسم الرمضاني، الباحث عن الانتماء.
فؤاد التكرلي صبور للغاية في تقديم الأحداث وبنائها ضمن سياق سردي متواصل، ويجيد اخفاء الصغيرة والكبيرة والبوح بها في الوقت المناسب دون أن يلمح أو يصرح بها قبل أن يحين موعدها. هكذا كان الحال مع ممانعة زوجته كميله السفر إلى باريس ثم يتضح أنها كانت على علم بعلاقته بآديل وأنها حرقت رسالة الأخيرة له. ص96
ويمهد الكاتب في الفصل الأول لبنية روائية ولغة جديدتين وشخصية ذات مستوى خاص، لدرجة أنه ينهي الفصل الأول في نبرة يختلط فيها نَفَسُ توفيق متحدثا بلغة نحن. ص104
ويلاحظ القارىء أن بنية الرواية تتجه بسبب حماستها الخاصة نحو بنية المذكرات حيث يتجسد فيها الهرونوتوب، وكان من الواضح أن توفيق هو الذي سيأخذ على عاتقه هذه المهمة المتميزة بالوجد والمعاناة بسبب أهميته فيها (بنية الرواية)، لدرجة نستطيع القول إنها كلها تقوم على شخصيته الحاضرة أصلاً قبل ولادتها. وهذا أمر يحتاج في المستقبل إلى دراسة بإسهاب لبيان العلاقة بين العالم الروائي كله بتوفيق قبل ولادته من خلال المقارنة بين اللغة في الفصل الأول والأسطر الأخيرة منه من جهة وفي الفصلين الأول والرابع على لسان توفيق.
تمارس وحدات سردية في بنية الرواية استقلاليتها لكنها ليست منقطعة الصلات بسياق الرواية العام وبنائها، مثل قصة انتحار الدكتور عبد الجواد محمود. ص109
يتقن التكرلي تطوير حدثه من خلال سرد، يعرف متى يقتصد فيه بالمفردات، عن طريق "تسريب" المعلومات على شكل أقساط أو دفعات تعمل بشكل غير صريح على تزويد الرواية رغم طولها بدفقات تشويقية تشد القارئ فيفاجئ مثلا بأن كميلة حرقت رسالة حبيبته آديل منذ عدة سنوات، وأن توفيق يتعرض فيما بعد للاعتداء من قبل مجهولين في خانقين فيقول له الناس عنهم "يوما ما ستعرف..". ص250-251
حادث تعرض توفيق إلى اعتداء له أهمية كبيرة في بنية الرواية من حيث كونه بداية المواجهة نحو ذروة نهاية الحبكة وبداية ذات مستوى خاص، فيقول توفيق عنهم "سأفضحهم.." ص257
وإن هذا الحادث لم يكن عاديا أيضا في البنية الأليغورية، فهو أكثر من مجرد اعتداء شخصي، بل تقف وراءه قوة منظمة ذات سلطة طاغية. إذن فهي حلقة مهمة في بنية الرواية لا تختلف عن فصل توفيق من عمله، إذ إن الحدث الروائي أخذ بعد ذلك مجرى آخر من كل النواحي الكرونوتوبية.
يمكن أن نذكر في هذا السياق ان توفيقا هو الذي أصبح يتابع الأحداث مصورا إياها بكامرته وأن بنية الرواية أخذت تعتمد على الخروج إلى الفضاء وتعدد الأمكنة او دخولها في عالم الكتابة والروايات والمذكرات وكأنه ينظر إلى الأحداث بمنظار آخر ومن طرف آخر. ص281
كل شيء عند التكرلي موظف لوحدة السرد وبناء العمل الفني كله، والتلميح والتصريح من ناحية أخرى مثل قصيدة شعر ذات إيقاع صاعد مستمر وحركة داخلية تصعد الأحداث بشكل متناسب مع حماسة الأفكار، فإن الوحدة السردية، التي تصور ظهور ممتاز اللامي ومسلحيه لإجبار زوجته على العيش معه (ص 314 ) تشكل مفصلا هاما من مفاصل حبكة الرواية الصاعدة. وهي إضافة إلى ذلك توضح فكرة ما آلت إليه بنية المجتمع من دمار، بحيث يصبح فيه ممثل السلطة رجلا على أقربائه لا رجلا لهم فهل هي أليغوريا الحاكم المستبد الذي استقوى على رعيته وسامَهم الأمرّين؟
تمارس في مضمون هذه الرواية عدة قصص، لنسمها مفاجئات أثرت في بنيتها وجعلتها أكثر تماسكا من حيث ارتباطها بالقوة الداخلية المحركة للأحداث، من ذلك نذكر مفاجأة الكشف عن ممتاز اللامي باعتباره مخطِّطاً للاعتداء على توفيق، الذي أعطى زخما كبيرا لبنية الرواية والحبكة السردية بحيث تضرب ضربتها في إدهاش القارىء وخلق دفعة قوية في المضمون كله.
وعبرت أيضا عن قدرة التكرلي الرائعة في التلوين بعدة ألوان. هذه الفعلة الخسيسة لممتاز اللامي تقول للقارىء إنه لا زال هناك الكثير من الأحداث وإن مسار البنية لن يكون بسيطا او عادياً، وإن هؤلاء الناس ليسوا بسطاء وإنهم قادرون على أفعال جسام، في مجتمع آيل إلى السقوط الأخلاقي. ص246 ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أهمية ظهور آديل من جديد واختفائها وكأن الكاتب يقدم زخما جديدا لبنية الرواية من خلال التنقلات والمذكرات. ص265
تخدم المفاجأة السردية غرضين: الأول تشويقي، يشد بنية الرواية، والثاني فني بما تحمله من معانٍ ذات صلة بالمغزى الفني العام "البشر يا أستاذ توفيق تتملكهم نزعات الشر دون أي سبب معقول.. حتى السيد كاسب بذاته يخشى من المحامي ممتاز ويتجنب تدبيراته.. لا تنتظر من أحد يحترم شرف غيره..إنها سلسلة خفية سوداء من رغبات الاشتهاء لزوجات الآخرين..". ص272
مفاجأة ظهور غسان هي ايضاً ليست عاديةً، وتحمل نفس الأهمية في البنية والقصد الفني وإلا فماذا سيكون ترتيب الحبكة لو كان مفلسا أو لو لم يظهر نهائيا ولم يتعرف إلى فتحية ولم تحمل منه جنينها؟
ظهور غسان أعطى أيضاً دفقا قويا للغاية لبنية الرواية إذ بظهوره تمت أحداث ممهدة لبداية النهاية ومناقشات كثيرة وجميلة عن القصة والفلسفة وتحركاته بين الأهل والجبهة وحي العامل. ص286، 326
هناك مفاجآت أخرى مثل معرفة العائلة بملاحقة توفيق لأنوار بحيث يخبره أخوه" ألا تكف؟" قبل نهاية الرواية ص420 ومفاجأة إعطاء جاسم الرمضاني وصية عميد أسرة آل قصابي لثريا الجشعة بدون مماطلة حنقا عليهم، إلا أن الكاتب لا يترك هذا الأمر بدون متابعة فيسلط عليه الضوء ويأخذ حيزا تشويقيا مهما في البنية. ص384 وص388
مفاجأة الالتقاء بين توفيق وجاسم الرمضاني في مقهي بغدادية لها أهميه اكبر في البنية والمضمون من حيث كونها تعطيها زخما جديدا قبل النهاية وتقدم للكاتب فرصة إعادة النظر بكل ما جرى ولكن ليس للاهتمام بالأمور الجانبية بل بما هو أعمق وأعم وأشمل مثل المال والجشع وآل قصابي والخير والانتماء والشر. ص407 لاحظ أن توفيقا ينتهز الفرصة في هذا اللقاء بمقارنته بمسخ كافكا "أهو ممسوخ حقاً". ص 409
أما مفاجأتي موت غسان في جبهة الحرب، أنظر: ص445 وتركه الصندوق المليء بالدنانير لتوفيق، أنظر: ص 459 فهي الأكثر إيذانا بنهاية البنية الروائيه والكشف عن آخر حبكة لآخر محور: توفيق -فتحيه وجنينها -غسّان،
اللغة:
"إن الكلمة شيء خطير لا يجب العبث به" أحد أبطال مسرحية "الصخرة والطوف" لفؤاد التكرلي. ص 14
يقول فؤاد التكرلي في مقدمته لكتابه المسرحي "الصخرة والطوفان" "سحرني منذ البدء كلام البشر، أعني التعبير بواسطة الكلام، ثم أسرني أن أكتب الحوار بين شخصيات في مكان ما: ان يتبادلوا الكلام والأفكار وأن يشيد من ذلك بناء أو أن يخط مسار.. " أنظر: فؤاد التكرلي. الصخرة والطوفان. مختارات فصول. القاهره، 1989 ص 5
والتكرلي في حقيقة الأمر ايضا لا يعبث بالكلمات في كل أعماله ويعرف كيف يجيد استخدامها في مكانها المناسب، فلغته تتميز بالحساسية والموسيقى الداخلية والتناغم والبوليفونيا والشفافية والعمق والدقة والمتانة والقدرة على خلق التركيبات أو التشكيلات اللغوية المتعددة والمتنوعة وتجاوز اللغة التقليدية. يتميز الكاتب هنا أيضا بقدرته على استخدام اللغة العربية الصريحة في فلسفة الأشياء والإفصاح عن العالم الداخلي لأبطاله وفلسفة االظواهر وإعادة خلقها بطريقة فنية رغم الشروح والتأويلات والتبريرات كما حدث في روايته الثانية "خاتم الرمل" لكنه لم يقع فريسة آفة الإنشاء والتقريرية والمباشرة. تتكرر في رواية "المسرات والأوجاع" مفردات مثل التقزز، السحق، الدوس، إنسان مُداس، مهان مكدوم الروح، الموسيقى، الأحلام، التطهير، افعال حيوانية بطرق إنسانية، اقتناء الأشياء، مشمئز، زاهد، كاره أنظر صفحات: 157، 167، 170، 182، 221، 281، 282 ، 283، 422، 424 وهي مفردات يجب التوقف عندها و متابعة تطورها في السرد كله منذ بدايته حتى نهايته، لأننا أمام رواية عميقة تتناول الإنسان من الداخل، ليست عادية بل نفسية وفلسفية.
استخدم التكرلي في هذه الرواية لغة متينة مختصرة مكثفة وموظفة لمفرداتها بالكامل و في بعض الحالات وحسب الضرورة، التي يصور فيها نفسية البطل. استخدم عدة افعال مع فاعل ضمير مستتر تقديره هو أو انت، مثل "واستجابَ وتساهل وتغاضى وتعامل وتراضى واسترخى، من أجل أن تكون الحياة ممكنةً.. ”. ص 203
وفي مكان آخر من الرواية يقول الراوي عن آديل:" يتحدثان ويتناجيان ويبكيان أحيانا ويتبادلان الحب المستعر ويتساءلان..". ص268
ويقول عن فتحية بعد وفاة غسان وهي حامل منه: "كانت سعيدة وشقية وقلقة بشدة ومنهوبة العواطف ومشتتة وخائفة..". ص379
ويصف القصابي بعد موته وفي فاتحته: "كان في الجو عنصر لإضحاك لا يثير الضحك، فهذا الإنسان، عميد آل قصابي المزعوم، توفي بعد أن جاوز الثمانين من العمر واستوفى كل حقوقه واستولى على حقوق الآخرين أحيانا، وسرق ما استطاع سرقته و تزوج وأنجب وغشَّ وزنى وشرب الخمرة وكذب وظلم إخوته وتظاهر بما ليس لديه..ثم عاد إلى التراب الذي جاء منه..". ص 381
ولو تكررت مثل هذه الجمل بكثرة لأصبحت مملة ولكنها كانت كما أشرت مناسبةً لحالة الأبطال.
فؤاد التكرلي ينصت جيدا للغة الأرواح والعوالم الداخلية للإنسان وأحاسيسه ومعاناته الروحية والفلسفية وليس المادية فحسب، ولكن رغم سقوط الفكر والأيديولوجيات والأخلاق في العالم، الذي شهدناه ولا زلنا نشهد فصوله في هذا العقد، الذي تشترك فيه أطراف وقوى وبشر وقردة عديدة لتجويع شعوب بأكملها تحت مختلف الذرائع، رغم هذا كلّه فإن هناك لغزا يكمن في سبب عدم حدوث الانهيار الكامل وسقوط البشرية ونهاية العالم.
ينهي الكاتب الفصل الأول بلغة ضمير نحن على عكس الفصل كله الذي بدأ وشارف على الانتهاء بلغة سارد خارجي على لسان ضمير الغائب وهو هنا الكاتب أو صورته، ينهيه قائلاً "هذه الصفحات، السابقة والتالية، هي من أجل محاولة اكتشاف أخطائنا الشخصية التي اقترفناها فكبلتنا، وتلك الأخطاء التي لم نقترفها فزادت من تكبيلنا". ص104
كأنه بذلك يلتحم مع صوت توفيق في مذكراته، التي تبدأ في الفصل الثاني. أنظر: ص 105
في العملية السردية الأولى يشعر المتلقي بأن شخصا آخر غير الكاتب يقدم القص بطريقة تقليدية مباشرة فيها التلميح والتصريح متجنبا الحوارات والحوارات الداخلية وكأن راويا آخر يقوم بذلك أو على الأقل يعينه في تخفيف النبرة أو تشديدها. إلا أن لغة هذا الراوي او صورة الكاتب، الغائب في الفصل الأول، تقترب بالتدريج من لغة توفيق وعالمه، حيث يظهر ذلك من خلال الاهتمام بظواهر معينة أو الانحياز لها وفي نبرة الحديث عنها.
يبدأ الفصل الثاني بمذكرات توفيق وينهيه بإغلاق دفتر المذكرات ممهدا للغة روائية جديدة بعبارات جميلة تشير إلى استقرار الروح رغم كثرة المتاعب التي ستواجهه، أنظر: ص 200، بينما يأخذ الكاتب زمام المبادرة في الفصل الثالث ليطل توفيق بوجهه على القارىء في الفصل الرابع ليختتم الرواية بمعاناته.
الكتابة هنا نوع من التطهير أو ما يسمى بالكاثارسيس كما هو الحال مع قراءة الروايات ومناقشة أفكارها وتحليلها، فهي بالنسبة لتوفيق فعل حقيقي ونشاط روحي. "أن نضع مرآة الذات هي الكتابة. ما يهم حقا أن تكون الكتابة صادقةً ومصنوعةً بمهارة ودقة لكي تعكس الأمور كما هي، بدون تشويه" ص107، ويقول أيضا "أعدتُ قراءة ما كتبتُ.. ليس صحيحا أننا نقول كلّ شيء. هنالك خفايا لا نصل إليها، وعلاقات أكثر خفاءً تفوتنا على الدوام.. "إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً" المسرات، ص108، أليست هذه هي هموم الروائي في مجال اللغة الفنية.
موضوعات الرواية وشخصياتها:
يورد الكاتب في نهاية الرواية مقولة سيوران، الكاتب الروماني" إني أستولي على الشيء وأحسب نفسي سيداً له، والواقع أني عبد له.. "ص467 ومقولة أخرى لباسكال "الإنسان قصبة، بل هو أضعف قصبة في الطبيعة، إلا أنه قصبة مفكرة.." ص465 وغيرها.
فهذه الرواية كما اشرنا لا تتناول واقع المجتمع بدون فلسفة الحياة، فهي بالتالي حول مغزى الحياة والصراع بين الخير والشر والجشع والسيطرة.
تتناول هذه الرواية تاريخ العراق منذ بداية القرن حتى الحرب العراقية الإيرانية، حيث نتابع تطور بغداد ثقافيا من خلال قراءات توفيق وعمرانيا بانتقال عائلتي القصابي وعبد المولى إلى مناطق بغداد الجديدة وفترة الستينات، التي شهدت ظهور طبقة المقاولين الجدد.
"المسرات والأوجاع" مقارنة جميلة ولكنها مضنية بين حياة البشر العاديين والقردة والأقزام والمقزمين والمذلين والمهانين وغشهم وتلاعبهم بمصائر البشر وهي مقاربه ومعارضه ومقارنة لحياة القردة بأشكالهم وطبائعهم وتصرفاتهم وأحاسيسهم الداخلية، هذا إن كانت لهم مشاعر بالأساس وحياة نوع آخر من الناس مثل توفيق وآديل وغسان وأبو الأدب.
هنا يمكن، بل يجب مقارنة شخصية عبدالباري وزوجته ثريا الجشعة وأبيها عميد أسرة آل قصابي الذي لم يكن أكثر من إنسان عادي فيتحول بسبب الحرب العالمية الثانية إلى رجل غني، ومن قبلهما أم عبد الباري، التي بخلت على توفيق بحبها وحنانها وسرقته ماله.
هنا يمكن مقارنة أبو فتحية الفراش المهاجر من الريف إلى بغداد ليتلذذ بأن يكون مذلاً مهاناً بحجة الإضطرار والفقر والجوع والعمل، وليضطر فيما بعد لبيع ابنته الوحيدة إلى رجل غني أكثر منه تخلفاً، وسليمان فتح الله، رجل الأمن الذي لا يجد طريقا لخروجه من ظلماته وعقده غير اقتناص الفرص وأن يكون آلة في يد القوى الشريرة للتجسس على الآخرين.
هذه الشخصية تصبح فيما بعد رمزا لما آل له المجتمع العراقي والدولة العراقية وتطور تركيبتها السياسية، حيث يطرد توفيق الحقوقي الرومانتيكي الأصيل الحالم العالم بينما يتبوأ الجاهل الأعرج، رجل الأمن الأمي سليمان فتح الله مركز الصدارة في مجتمع يتشرد فيه الأول محاولاً ممارسة أحزانه وأفراحه وطقوسه الروحية في مختلف زوايا الفضاء الروائي.
لا يترك التكرلي موضوعة أو شخصية من شخصياته دون عناية منه مهما كبر أو صغر حجمها. ولا يوجد في أعمال التكرلي شيء اسمه الصدفة فكل شيء هنا مدروس و"مهندَس" ولم يبق جانب ما خارج إهتمام الكاتب لا من حيث الوصف الخارجي أو الداخلي في بعض الأحيان.
حتى والد غسان الرسام، وزوجته سندس، والهاربة، التي لم نرها على مسرح الأحداث، والتي تجسد حضورها المهم في بنية الرواية وظهور ابنها عمودا هاما من أعمدة الرواية بسبب الإرث الروحي والمادي الذي تركته له فأفقدته نعمة النسيان وتركته فريسةً لمعاناته الروحية التي يحملها بقلبه أما ثروته التي يحملها في جيبه فلا يدري ماذا يفعل بها.
تظهر أهمية توفيق ومن بعده غسان من حيث كونهما يمثلان الصدق ويقفان على الضد من جشع الشخصيات السلبية كلها إلا أن الثاني يختار قلبه ويخلص لمشاعره، فيتعلق بالأول وعالم تولستوي حالما بلا شك بقيم الأمير بيير وناتاشا روستوفا ودوستويفسكي والدايالوجيا أو الحوارية والأفكار الدوستويفسكية.
عالم توفيق الروحي خليط من الأفكار الفلسفية في القيم والأخلاق والسعادة والعدالة يحاول أن يبحث عنها في الكتب فيستهويه سانين وبازاروف بطل "الآباء والبنون". توفيق متميز عن الجميع بشكله وجماله ولم يأتِ هذا صدفةً، بل لمغزى فني فتتعمق شاعريته ورهافة حسه فيزداد شعوره بالحزن لما يكتشفه من غش بدءاً من والدته التي سرقته حقه وأخيه مروراً بالمدير العام ومن يقف خلفه وانتهاءً بكميله زوجته المعتوهة، التي تطلقه بسبب فصله من الوظيفة.
لم يكن لتوفيق أحد يشعر به غير حبيبته والطفل الصغير غسان الذي كبر وصار مثله صادقا حساساً والروايات الجميلة التي يقرأها ويناقشها.
يتحول عالم الكتب إلى مزار بالنسبة لتوفيق، محراب يصلي فيه، كاثارسيس تصعد فيه روحه وتتصاعد فيه بافَث الرواية كلها محققةً بهذا الشكل دفق خيالي مليء بالأفكار الفلسفية ذات الصلة الوثيقة بعالمنا الذي نجهل أسراره وحفاياه.
إن اللجوء إلى الكتابة نوع من الكاثارسيس والناستولجي بسبب سحرها وصدقها وإن اغلبها كان منتشرا في الخمسينات فيذكرها ويزور سوق الكتب في بغداد.
هذا التطهير الروحي والحنين إلى الذكريات والماضي يحدثان عند تأزمه وزيادة المعاناة النفسية والاقتصادية.
يقول توفيق عن نفسه "لست زاهدا بالحياة بل مرتدا عنها ولا أنا كاره إنما مشمئز منها.." ص158، ويقول في مكان آخر من الرواية "إنني عضو في المجتمع جرى بتره لأسباب لا تشرف أحدا" ص189، إلا أن توفيقا غير محبط رغم طرده من العمل ومن بيته شر طردة لأنه يشعر بالحرية ويقول" وقد خرجت من معمعة العلاقات المتضاربة، ولكن أين المهرب من الماضي العذب" ص 197، ويقول أيضا مبررا سبب شحوبه وضعفه: "الناس حولي يسمنون يوما بعد يوم فيبدو الفارق على وجهي". ص279
تبدأ رحلة الروح والهموم والمعاناة في مذكرات توفيق، حيث يناقش معنى الكتابة والشخصيات التي يلتقيها ص 106-108، وكلما يقترب الكاتب من نهاية الرواية كلما تبدأ شخصياته بالإفصاح عن عالمها ومكنوناتها، ويحاول الكاتب من خلالها ومن ما يقال على ألسنتها من تلميحات توضح المغزى الفني فبينما يُرفض توفيق بشكل مجاني ومن قبل الجميع وفي كل الحالات نرى أن سليماناً الأعرج يصل إلى أعلى المناصب. أنظر حديث ابي فتحيه عن سليمان الأعرج. ص300-301
عند مناقشته هذه الروايات، يركز توفيق على ضرورة أن يكشف الروائي عن أسباب سلوك الشخصيات ونجد أن التكرلي يبني الشخصية بشكل تدريجي بحيث يبدأ باتخاذ سلوك طريق آخر غير أقربائه كرد فعل على تعامل والدته معه منذ صباه.
ابطال الجيل الثالث أو الرابع من عائلة عبد المولى وشخصيات الرواية الشباب بشكل عام أمثال نجيه وسلوان وغيرهما لم يكونوا ثانويين بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهم أيضا يلعبون أدوارهم في نسق الرواية وبنيتها المضمونية.
إلا أن غساناً هو الأكثر دمارا وعذابا من أفراد هذا الجيل وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا بأنها عذابات روحية أزلية تنتقل من جيل إلى آخر. فهو في حقيقة الأمر امتداد لتوفيق، يقف على الضد من كل تفاهات الشباب فيسقط ضحية بؤس التفكير والتدبير وهمجية محرقة الحرب أو آلة القتل الجماعي كما يسميها التكرلي.
ولكن هذه الأجيال لم تصوَّر على طريقة آل بودينبروك لتوماس مان ولا ثلاثية نجيب محفوظ، التي لم يستهوِها توفيق على عكس الحرب والسلام التي تعد برأيه عملا عملاقا بسبب زخمها بالتولستوفشينا. ونشير في هذه المناسبة إلى أن التكرلي نفسه لم يكن معجبا بنجيب محفوظ.
وهل هناك عمل يضاهي اليوم ملحمة "الحرب والسلام" التي أعاد تولستوي كتابتها إحدى عشرة أو ست عشرة مرة، المشبعة بالفكر الإنساني وحماسته رغم مرور ردح طويل من الزمن عليها ذلك لأنه شهد معاناته الروحية من المجتمع والكنيسة وآلامه لتعاسة فقراء الفلاحين في المجتمع الروسي وفي ياسنايا بوليانا، فما كان يقدر على فعل شيء آخر غير بثِّ احزانه في أوراق كتبها على مكتبه القابع في غرفته المغلقة داخل أكثر من حجرة في بيت كبير يقع وسط ريف روسيا الجميل بمناخاته وعذاباته وجبروت سكانه. إنها حالة وجد حقيقية تشبه معاناة الصوفيين وكان توفيق كذلك رغم أنه أنكر زهده.
تتجسد موضوعة الناستولجي في التشرد ووصف الأمكنة القديمة، والمقاهي واللقاء بأبي الأدب الرجل الخمسيني والحديث عن الخمسينات. وعلى الرغم من أن شخصية الرجل المسن ابو الأدب ظهرت على مسرح أحداث الرواية في نهاية فصلها الأخير، إلا أنها هي ايضا أخذت حقها من الراوي توفيق، فلم يتركها تمر أو تغيب عن باله رغم اختفائها وكان لها دور ومغزى في ذروة بنية الرواية.
موضوعة الناستولجي هنا وفي روايات أخرى للغيطاني وفرمان على سبيل المثال لا الحصر، تختلف من حيث المنحى والعمق عن بعض الروايات، التي اهتمت بها من حيث كونها في "المسرات والأوجاع" إنسانية بمعنى الارتباط العميق بالعالم الداخلي للإنسان وروحيةً شموليةً غريزيةً وليست تاريخيةً ولا سياسيةً، ولهذا نرى أن الجنس يأخذ حيزا كبيرا جدا لدرجة أنه قد يحصل لبس في فهم الامور المرتبطة بهذا الفكرة.
بوضوح أكثر نقول إن الجنس في هذه الرواية يتميز بطابع خاص أكثر من كونه رمزاً كما اعتدنا عليه في عدة روايات بما فيها نتاجات التكرلي السابقة.
الجنس هنا صرخة احتجاج واستغاثة وطلب العون في الوقت نفسه وحالة ضعف إنساني وتشبث بالحياة وتعويض عن الخسائر والفقدان.
إنه حالة وجدٍ روحيةٍ وارتباط البطل بالطبيعة في الحالات الثلاث إذ إن آدِل ملاك بريء غير خائنة لبعلها حيث اعتبرت عشيقها توفيق زوجاً لها، اما فتحية فهي الريف والضحية بينما تتجسد في أنوار الصدق والجمال الجبليين. هل هي تكملة للصورة الأليغورية التي تخطر ببالنا حيث يتآلف الشمال بالوسط والمسلم بالمسيحي؟
هذا أمر هام لا بدَ من الانتباه إليه لا سيما وأن توفيقاً لم يكن من حيث المظهر والخلقة يشبه أخوته وأقربائه أشباه القردة، فكان منذ ولادته يتمتع بجمال له خصوصية أكثر من خاصة وهو نفس الأمر الذي نراه في وصفه لآدِل وأنوار المنوّرة باعتبارهما ملاكين او فيهما صفاء البهاء والنورانية على عكس فتحية المفتوحة شهيتها على كل شيء مما يعطي الناقد حق القول بطابعهن الأليغوري.
هذه الأليغوريا العميقة اشبه بِطُرُقِ حياة البطل ووحدانيته وتشرده في هذا العالم وهي بالتالي عمود هام من أعمدة الرواية.
فالجنس غير مهم في هذه الرواية عندما يتم في بيوت الدعارة كما هو الحال في بداية السرد ولا يصوره الكاتب كممارسات حب أو غرائز جنسية بين الأبطال الآخرين مثل عبد الباري والقصابي وأبو فتحيه وكاسب وممتاز اللامي والآخرين.
ألا يشكل هذا الأمر ظاهرةً في الرواية تستحق التوقف عندها ودراستها بتفصيل دقيق وعلاقتها بحالة البطل وانكساراته الروحية وانهزاماته في حروب خفية لم يخضها ولم يعلنها أحد عليها.
الجنس هنا أمر غير عادي ولا بدَ من فهمه على أنه ليس روتينياً بدون مغزى وأن عقم توفيق ليس أيضاً بدون دلالات، إذ إنه غير مصاب بالعقم الحقيقي، بل بعدم الاتحاد الحقيقي مع كميله أو فتحيه.
لقد أولى فؤاد التكرلي موضوعة الجنس عنايةً كبيرةً وحملها رموزا خاصة، على الباحث أن يتعمق كثيرا بدراستها، وهي في حقيقة الأمر ليست دائما بهذا القدر من الوضوح بحيث يمكن سبر أغوارها أو الوصول إلى مغزاها الفني.
لقد تناول الروائي الجنس في قصصه القصيرة بجرأة مثل قصة "همس مبهم" 1951، التي يقول فيها بطلها عن أمه" كانت رائعة في كل شيء.. لكنها أمي، وكنت أشعر أنني أحبها، لكنها كانت تحزنني وتؤلمني..لِمَ يجب أن تكون الأم فاضلةً ذات تربيةً راقيةً":
أنظر: موعد النار. مجموعة قصص قصيره جمعها وقدم لها توفيق بكار. تونس دار الجنوب 1991
وفي قصة "القنديل المنطفىء" 1954، حيث يصور الأب يضاجع بنتاً عمرها ثلاثة عشر عاما ذهب أبوه ليخطبها له فرفضوه فأخذها لجبار ابنه من الناحية الرسمية. موعد النار ص 108 أو في "التنور" حيث تقتل زوجة الأخ بسبب الجنس غسلا للعار. موعد النار. ص 127
هذه الطريقة في الكتابة عن الجنس باعتباره أهم حاجة روحية إنسانية عند البشرلم تكن مقبولة باستمرار في العراق من بعض مجايلي التكرلي أو نقاده.
ولكن ماذا يقول الكاتب نفسه عن الرمز والجنس؟
يقول فؤاد التكرلي "الرمز لا يوجد في العمل الأدبي، بل في الإنسان، وهو - الرمز - إذ يبرز للقارىء - أو المشاهد- فإن ذلك بسبب احتواء العمل الفني على بذور تتعامل مع نفس هذا القارىء وتؤثر فيها.. إنني بعد المباشرة بالعمل، أحاول أن أضع بعض البذور الموحية، التي تعطي العمل الفني أبعادا يمكن أن تكون رمزية.." ويستمر قائلا عن الجنس "..ما يسمى بأدب الجنس او الإثارة بارنوجرافيك لا علاقة لي بهذا النوع من الأدب.. والدوران حول الجنس وتلمس الموضوع بخفة.. لاعلاقة لي بهذا النوع.. يبقى التناول الآخر للجنس، وهو التناول الذي يمكن أن تسميه، بشكل ما، التناول الرمزي، اعني أن الجنس، منذ البدء كان رمزا، او- إن صح القول- أمرا يمثل قوة عمياء وامام هذه القوة تجد بعض شخصياتي القصصية أحيانا نفسها، وسواء كان عليها أن تتصرف أم كان عليها أن تخرق القوانين الموضوعة، فإن تصرفها تجاه الجنس هو تصرف رمزي محض. وواضح جدا أن اختياري الجنس اللاشرعي أو اللامألوف إنما هو لزيادة شعور القارىء بالتناقض وبما يمثله هذا التناقض من قوة تستحق احيانا دون رحمة". أنظر: د. نجم عبد الله كاظم. الرواية في العراق. بغداد، 1980 ص246
ولعل في هذا القول ما يؤكد صحة أفكارنا عن الطابع الأليغوري لبعض موضوعات الرواية وشخصياتها والمرأة وموضوعة الجنس بخاصة كما سنرى.
تتحرك في هذه الرواية شخصيات نسائية عديدة، إلا أن التركيز بالنسبة لتوفيق يتم على حبيبته الأولى والأخيرة آديل المثالية ومن ثم كميلة المهووسة، التي تكمّل تعليمها وبيتها "المشتمل" ولا بدَ لها إذن من زوج فيقع اختيارها على توفيق وتصبح زوجته عنوةً، أما فتحية ذات الشهية المفتوحة على كل شيء خوفا على مستقبلها الغامض فتصبح ملاذه ومأواه الأخير حيث يتم اتحادها مع غسان ويتم لم الشمل، بينما تبقى سندس، زوجة أبي غسان نموذجا للمرأة البيتية التي بقي مع ذلك يحلم بها.
وسنلاحظ أن لكل واحدة من تلك البطلات خصوصيتها وسماتها، فشخصية آديل".. لا أشك أن تلك الحورية كانت مرسلة من السماء إليه، وإلا فكيف يمكن تفسير الأمور؟". ص35
آديل امرأة من صنف آخر فيها نورانية، هذا ما سيتأكد في الصفحات القادمة.
"ولا يزال مضطربا بسحر غامض تملكه فجأة وهو يقابل تلك المرأة/ اللغز بعد هذه السنين الطويلة" ص51، إذن فإنها امرأة ليست عادية، حتى في طريقتها لقراءة فنجان حبيبها توفيق "أنت مسروق.. كيف يسرقون من له وجهك؟ ص54 "..إنك مسروق..أنت خسران مع الجميع إلا معي يا حبيبي". ص66
فهي هنا تستقرأ طالعه بنبرة فيها البراءة والصفاء فيشير لها بطريقة رفيعة فيها السمو"وتذكّرَ آديل..يا للمخلوقة الملائكية..". ص55
تتمثل شخصية آديل هنا أكثر من كونها امرأة يشتهيها توفيق، بل هي رمز عميق يظهر بوضوح في ذكرياته عنها بعد الفراق والأوجاع التي يعاني منها فهي مسراته"..حين نظر إليها عن قرب، في الظلام الشفاف، ورأى بغموض عينيها ولون جسمها الوردي...سكران بعطر بشرتها ورائحتها وبدفء وجودها هي، هي آديله العزيزة، سالت الدموع خفيفة من عينيه وانفتح قلبه...شعور فذ من الطمأنينة المطلقة.. خلال الأيام التي قضاها معاً كان يحس بنفسه مملوكا ومالكا لها، هذه المرأة التي منحته سعادة عظمى لغير سبب مفهوم تماما..لم يعد قادرا على الاقتراب من فتحيه أو على اشتهائها". ص287-288 آديل روحه وموسيقاه الداخلية.
بل إن توفيقاً يقارن لأول مرة في الرواية وبعد أن فقد كل شيء، بين كميله وآديل وفتحيه وسندس المرأة العائلية المستقرة "تسلل إليه شعور غامض، وسندس جالسة معهما بانه يفتقد حقا وجود امرأة من هذا النوع في حياته..سندس وحدها، هذه المرأة الهادئة المبتسمة، هي القادرة على تضميد جراحه وانقاذه". ص302
لكن آديل تبقى هي الأكثر حضوراً من حيث الوصف الخاص بالألوان بطريقة شاعرية عذبة"..اصطبغت الغرفة كلها بصبغة ذهبية وردية من جراء ما كان يشع من ألوان جسمها. اقترب منها يتحسس برفق وتعبد، ذلك التكوين الساحر، كانت تنظر له برقة نظرات تفيض منها المحبة والاندفاع..كان يرى إلى صفحة وجهها اليسرى وأذنها وأنفها وفمها وكله بهجة..رأى فيهما اصداء رؤى تستجيب لدلالات الحب..همست..لأنك زوجي من الأزل فأنا لا أخون بحبك أحداً..أنت تسربلني بعواطفك التي ولّدتُها فيك.. كانت على الطرف الآخر من النقاء والصدق والاستقامة..هل ستبقى آديل إذن جرح حياته النازف ولغزها الا بدّي وجنتها المفقودة؟". ص311
نلاحظ أن الكاتب اعتمد على تطور البنية والحبكة والأحداث في إضفاء الصفات المختلفة على آديل، أقصد بها طريقة: لقاء- فراق- لقاء- وبافَث العمل الفني كله. هذا الوصف يذكرني بطريقة تعامل الكاتب مع منيره ومن قبله الأديب الراحل غائب فرمان مع بطلته مظلومه في "القربان".
ونلاحظ ايضا أن آديل توصف بعمق وشفافية ورومانتيكية ذات مستوى خاص في تأزم البطل ومقاومته الاندحار في الحياة وحصد الفشل على كل الأصعدة وكأنه يدفأ عظامه بذكرياته عنها، يختارها هي بالذات ليقرأ عنها في مذكراته بعد أن يرى خصلات شعرها " مسترخية على الورق. يا ألله كل هذا الوقت وقطعة آديل تستقر في هذا المكان المهمل..كانت لا شك، تاريخا شخصيا لا يهم أحد، إلا أنها، رغم ذلك، كانت تملك من التفرد ومن محاولة التخلص من القيود، ما يمنحها بعدا استثنائيا يخص البشرية منذ الخليقة". ص403
يتضح البعد الاستثنائي منذ الخليقة لشخصية آديل في ظهوره في كل الكرونوتوب الروائي بشكل متناسق مع بافَث البطل، الذي هو أيضا من مستوى خاص، وهذا ما يمكن أن نراه في منيره "الرجع البعيد" وفي الأنوثة وهاشم في "خاتم الرمل".
أنوار هي أيضا منوّره ولها خصوصية، تصبح موضوع منافسة بين ثلاثة رجال: الأول زوجها والثاني توفيق والثالث المحامي والقائمقام المتسلط. يقول عنها الراوي " كانت قريبة مني بصمت، وكانت لي صديقة وحبيبة وأماً عطوفاً، وما كان من الممكن البته أن تخطر لي عنها فكرة خبيثة عن الجنس أو غيره، ابدا فهناك حدود لكل شىء". ص332
وليس صدفة أيضا ان يعجب بأنوار ويتعلق بها فهي ليست لزوجها الذي خطفها من الجبال وليست لذلك المعتوه المتسلط ولكنها تضع حدودا لعلاقتها مع توفيق مكتفية بتسمية ابنها على اسمه"..إذا بي أرى أنوار تبزغ خارجة..وهي تحمل طفلها الجميل..صافحتها رغم ارادتها ولثمت سمييّ من خديه.." ص335 ويقول عنها ".. هذه الإنسانة المخلصة الصافية القلب..". ص338
ومنذ الوصف الأول لأنوار نجد أن قصتها ليست سردا عاديا ويتملك المتلقي الواعي شعورا بأن هذه القصة ليست طارئة وأنها لن تنتهي بهذه السرعة وأن خيطها المضموني سيلعب دورا في تشييد المعمار الروائي ".. لاحظتها بين الجمع يضيء وجهها أو يكاد، بنصاعة بشرته وبياضه، وكانت عيناها السوداوان طويلتين ذات اسرار عميقة..جبلية ساحرة..فسحرتني لكنتها وحركاتها، ورأيت حاجبيها الدقيقين يتحركان عند الحديث حركات مثيرة..بدت كميله إلى جنبها منطفئة تماما..كانت "أنوار" مطلقة شعرها الأسود..مثل أميرة غجرية تصدر أوامرها". ص 133
وكان من الواضح أن قصة أنوار وإعجاب توفيق بالحركة الإلهية من حاجبيها لم تكن مجرد وحدة سردية لغرض التشويق الجنسي، بل ذات بعد رمزي ودلالات اليغورية مثل الطبيعة، باعتبارها جبلية وخاصة عندما يصورها حافية، لابسة الحجل الذهبي ص133 ويصفها "بالحوريه" ص 139 التي يجب أن تُخصّب لتحسين نسل أهل الدربونه العراقيين، لكن من قبل من؟ بالتأكيد من قبل توفيق الجميل المحيا. ويتكرر وصفها على انها جميلة، ساحرة، مضيئة مثل اسمها "كانت أنوار الجميلة جالسةً..تضيء كاسمها.. مثل شمس تشرق في منتصف الليل.. مثل هذه الأنثى الرائعة يجب أن تخصّب لكي يرتفع مستوى الجمال بين هؤلاء البشر الممسوخين في دربونة الشوادي”. ص151
هذا الإصرار الكبير من توفيق على مطاردة هذه المخلوقة الساحره، كأنها صيد أو طريدته، تستمر على مدى عدة صفحات وهو بالتأكيد ذو مغزى فني يجب على الباحث دراسته بعمق. المسرات. أنظر: صفحات 242، 245، 248، 252
إننا هنا أمام إصرار على تحقيق الذات والفوز بشىء مفقود من قبل شخصية إنسانية عميقة ومليئة لكنها مهمومة ومكدومة الروح ومسروقة على كل الأصعدة. أما فتحيه فعلى الرغم من كون أهميتها الرمزية تكمن في أنها ريفية إلا أنها لا تصل في وصف الراوي لها إلى مصاف آديل، فهي جائت إليه طالبة المساعدة، وهي ابنة فرّاشٍ ينحدر من الريف عانى من الذل والفقر والجوع، إلا أنها مع ذلك فتح بالنسبة له فقد وحدّت "غسّانه" بجنين تحمله في أحشائها سيقوم بالتأكيد بتبنيه. إنها مفارقة ومفاجأه ولكنها ضرورية لاكتمال الصورة الأليغورية والمضمونية الجميلة.
توفيق والشخصيات الأخرى
هل اختار الكاتب توفيقاً ليضفي عليه مجموعة هائلة من المجازات والرموز؟
هل اختاره الكاتب ليصبح دلالة رمزية على معنى الحياة؟
هل اختاره الكاتب ليصبح رمزا للإنسان الذي يريد محاكاة الطبيعة في نزوعه نحو الحرية، والثورة على القيم والأخلاق وكل ما يدخل ضمن مفاهيم فلسفة الأخلاق "مورال"؟
إنه الأقرب لصورة الكاتب وليس الكاتب نفسه، إذ إن للأخير عدة صور يعبر عنها بمختلف الطرق والأشكال والأنواع والحالات والاساليب.
إذن فإن فكرة البطل الروائي باعتباره إنسانا خاصا شاهدا على العصر على حد تعبير باختين وغيره من منظرّي الرواية تتحقق في شخصية مسرات توفيق وأوجاعه بسبب عدم مقدرته الانسجام مع تقاليد مجتمعية محافظةٍ، هذا المعذب، المهموم بمعاناته الروحية، الخائب، الصامد أمام غزوات القردة والمقزّمين وممارساتهم المتخلّفة.
***
.............
* نُشر هذا المقال على ثلاث حلقات في جريدة القدس العربي بتاريخ 10، 11، 12 شباط 1999