قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصة (العودة) لمهدي عيى الصقر

الفضاء الاستعادي وأفق التناسخ الجسداني

توطئة: نستطيع دائما أن نفصل في الكثير من الدقة والعناية بين مستويين من التماثل الفضائي في عملية معايير وحوافز أستعادية من شأنها تخويل حدود المقاربة القصصية في عضوية أواصر شروط وظروف اللحظة الزمنية والمكانية والذاتية المندغمة في أهليات بلاغة المخيلة وهي تتوغل في أقصى عملياتها التمثيلية للاحوال الموضوعية والذاتية المرسومة في فضاءات خاصة من التوتر والشد البنائي والاسلوبي المؤول. تتميز عوالم القاص الروائي الكبير الأستاذ (مهدي عيسى الصقر) في مجال أسطرة النص القصصي ضمن تقانات فاعلة وحيوية في مجمل علاقتي (الاسترجاع = الاستباق) إذ أن أغلب توجهات الرؤية القصصية لدى القاص، مصدرها ممارسة ذي حساسية تقترب من مجاﻻت اللقطة الزمنية المظغوطة في ملامح داخلية خاصة من صنيع الاندماج الوظائفي المتشكل ما بين (استثارةالبؤرة - تفعيل إشكالية الذات) وهذه الثنائية الكيفية من طاقات (الفضاء المتني) تجسد لذاتها نموذجا اختزاليا يتوزع في حدود دائرة ثنائية (التماثل - التمثيل) وصوﻻ بجملة وسائلية الادوات التشكيلية إلى مرحلة صنيع موضوعة عارضة غالبا ما تبدأ وتنتهي بالتركيز والتكثيف والخيار الاستفهامي في المحصلة المدلولية الأخيرة. وتندرج نموذج قصة (العودة) بالتفاصيل التي تتمظهر من خلالها ترتيب آليات التشكيل انطلاقاً من المستهل النصي وحتى حدود دائرة الهيمنة التمثيلية للمفارقة السردية الفنية التي تتزامن مع حكاية السارد الشخوصي الموزع ما بين الاسترجاع والاستباق والاحساس الحضوري بوجود ذلك النوع من التناسخ الحلولي للروح الآدمية داخل أجساد أخرى غيرية من الحيوانات.

- سردنة الصور المكانية والاحوال الزمنية

إن المكاشفة الاستهلالية في عتبة العنوان المركزي للنص القصصي (العودة) يبرز لنا كقوة إيحائية تلتحم من خلالها العلاقة المتنية بذلك الوازع المجسد في نسيج القص. لذا بدت القيمة الدﻻلية في مؤشرات موضوعة النص كحساسية خاصة بالسارد الشخوصي، وهو يتفقد وجود وغياب زوجته المتوفاة في الأصوات والحاﻻت الأكثر تعلقا بالمكان والحضور الاسترجاعي للحوادث المتعلقة بوجودها كيانا حلميا عبر الفضاء الذاتي للشخصية الزوج: (جلس مذهوﻻ يحدق أمامه ويحدق.. غير قادر على استيعاب حقيقة غيابها المفاجىء، وصوت مقرئ القرآن، الذي يتمدد داخل مكبر الصوت ثم ينتشر في الفضاء المحيط، يضج في أذنيه، ويغطي على الهممة الخفيفة المتقطعة. الذين جاؤوا يواسونه، وجلسوا في وقار حزين في حديقة المنزل، أحذيتهم اللامعة التي كان يراها وﻻ يراها تستقر على العشب بين أرجل الكراسي المعدنية. / ص١٢ النص) تنطوي استجلاءات السرد الوصفي ضمن فواصل تنفتح على مجالية خاصة من الفضاء الصوري الذي راح يسردن قابلية جزئية وكلية من توافر مجموعة الأواصر الحافة بمجال اللغة التشخيصية المفترضة ب (الراوي - المروي - المروي له) حيث تتوازى مفردات السرد بالوصف اقترابا من السارد كلي العلم بالتصور الواقع في حدود مقاربات حسية ماثلة بمواجيد المحنة الذاتية وأزمتها المندمجة وسط جملة محايثات وجودية للأشياء وعدم التحديق بها كونها وقائع واهمة من عدم استيعاب محنة غياب ذلك الشريك.

١- العودة بهيئات التشكيل الحلولي:

ﻻ شك أن فكرة عودة أرواح الأموات في أجساد الطيور أو الكائنات الأخرى هي من الموضوعات التي اشتغلت عليها فواعل حكايا الملاحم والأساطير وبعض المعتقدات الكهنوتية في المعابد البوذية والهندوسية، كما وشغلت هذه الفكرة أغلب محفزات الحكاية الخاصة بالموروث الشعبي المتعلق بمجال الحكاية الخرافية تحديدا. ولكن الأمر مع قصة (العودة) للصقر كانت عاملا في الرغبة  للحياة بأي صورة كانت. والعامل الموضوعي في حاﻻت النص نتلمسه من خلال ذلك الحوار الذي دار بين الزوجة وزوجها قبل حادثة وفاتها: (قالت له مرة وهما يشربان الشاي: - أنا ﻻ أستطيع احتمال فكرة ان الانسان حين يرتحل عن هذه الأرض ﻻ يعود إليها أبدا ؟ فقال لها أن ﻻ أحد ولا شيء يفارق هذه الارض، ما دامت باقية، وأن الكائنات تدور وتدور، ولذلك هي تعود مرة ثانية وثالثة، إنها تبدل أشكالها فقط، فزايلها الحزن قليلا: - يعني سأعود أنا أيضا إذا ذهبت ؟ سئلته، وانتظرت بلهفة، فقال لها تعودين كلنا نعود، ولكن ربما على هيئة شجرة أو على شكل طائر يحلق سعيدا في السماء. /ص١٢ النص) ان عامل الرغبة والأمنية والتخييل والوهم لدى الشخصية الزوج هو ما بات يشكل بذات نفسه الفاعل الواهم الذي راح يجمع ما بين رغبة الفاعل وتمحوره في وهم الوهم. وعلى هذا النحو غدا فاعل الذات محركا في نفسه فاعلية خلق التصور وتوجيه فعل التوهم بالتزامن مع حديثهما: (بدت مسرورة، أخبرته أنها ستعود على هيئة عصفور، تحوم حول البيت، وتسكن أشجار الحديقة ـ لا لا دعني افكر. أنا أريد أن يقف شيء بيني وبينك، لذلك سأعود على هيئة قطة تمشي معك أينما ذهبت، وتحك جسدها بساقيك، وأنت تقرأ أو تجلس شاردا. / ص١٣ النص).

٢- شرود الذهن وجنوح المخيلة:

لربما تذهب بنا الأفكار والرؤى القصصية الى افتتاح آفاق أنشائية خاصة بها فتلامس اسلوبا مبتكرا، لغاية الوصول إلى مرادات الفكرة بأشكال مغايرة وغرائبية إلى حالة فريدة من الفعل المعادل في سياق الموضوعة للنص القصصي. ولعل حاﻻت التشديد التي يمارسها القاص على شخوصه بعدم شرودها الذهني، والتأكيد على كونها باقية ضمن حضورها الواقعي الملموس، إذ نرى أن احد أوﻻده وهو الأبن البكر للشخصية جعل يمسك بيد والده للتأكد من أن والده ما يزال ضمن أحكام الواقع المعاين خوفا     عليه من أي بادرة ما من الشطح أو حتى الصمت الأبدي: (أبي ! أبنه الكبير الجالس بجواره، مس ذراعه وأيقظه من شروده، فهب واقفا، وضغط على اليد الممدودة لواحد من المعزين، وتمتم شيئاً، ثم عاد يجلس في مكانه.. وجوه كثيرة مرت من أمامه اليوم، لم يتمعن فيها جيداً. / ص١٣ النص) فلنتأمل ما جاءت به هذه الوحدات السردية وغيرها تباعاً، إذ نلاحظ أن المسافة الكشوفية التي تحيط بالشخصية ﻻ تتعدى جملة من الهواجس التي ما لبثت أن تلتقط الأجزاء الضمنية في المخبوء السردي، كمثال الصور التي بات يسترجعها الشخصية من متواليات أحداث عملية دفن زوجته وكيفية الطريقة التي قام بها ذلك الحفار للقبور والصبي الذي كان برفقته في غضون خطواته في عملية الدفن: (فجاء صبي يحمل فانوسا أضاء الوجوه الصامتة التي أحاطت بالحفرة تنتظر. / ص١٣ النص) كما ﻻحظنا من خلال هذا السرد، كيفية أن القاص يسعى إلى بناء حاﻻت تعوزها الحبكة المسوغة، لا أن تطلق خيوط السرد وكأنها خاضعة إلى عملية تراتيبية لابد من أن تأخذ المتوفاة دورها في حادثة الدفن كخصيصة ﻻ تحدث من وراءها سوى التفاتات وحركات إيمائية ﻻ يشوبها أدنى درجة من الدﻻﻻت القيمة.

- تعليق القراءة:

أقول أن قصة (العودة) لمهدي عيسى الصقر من النصوص القصصية التي ﻻ تكتمل دون القدح المدلولي الأخير من المضمون السردي، لذا فهي قصة قصيرة ربما تتحلى بالضربة الختامية فنيا وجماليا عندما يشاهد الشخصية قدوم تلك القطة متسللة من تحت قوائم الأرائك والكراسي لتستقرقرب ساقيه: (رأها تمر من بين أرجل الكراسي وسيقان الرجال، فأضاء وجهه، راقبها تدنو، وحيث دخلت تحت كرسيه، خفق قلبه، جلست هي على العشب هادئة، بعد لحظات شعر بها تحك جسدها بساقه. / ص١٥النص) ما هو مثير للجدل والافتراض في نهاية حكاية قصة مهدي عيسى الصقر، هو ذلك الإحتمال بأن تكون روح زوجته قد حلت في جسد هذه القطة ومن المحتمل أن تكون محض قطة قد تألفت مع الرجل في ظروف مناسبة، انطلاقاً من تلك المزحة التي تحدثت عنها الزوجة لزوجها قبل موتها، في كونها تتمنى أن تعود روحها داخل جسد قطة تتشهى لذاتها دعك فراء جسدها بساقه. وما حدث في الأحداث الواقعة كان مجاﻻ توكيدا دﻻليا يعزز تقانة (الفضاء الاستعادي) الذي أختاره الزوج ليكون الاسترجاع أنيسا بصحبة ذكرى زوجته التي اختارت أن تكون أكثر مرونة وصدقية عبر أفق حلولها الروحي في مواطن أكثر تمثيلا بفروض الوهم والتوهم.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم