قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءات فلسفيّة في قصائد سرديّة تعبيريّة

العشق في عيون النار.. رحلة إلى الخلود عبر سراديب الصمت..

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: ماهية العشق- للشاعرة: سمر الديك سورية / فرنسا.

***

قصيدة ماهية العشق للشاعرة سمر الديك تمثل رحلة فلسفية في أسرار العاطفة الإنسانية، حيث تتداخل مفاهيم الوجود، الزمان والمكان، والتحرر من القيود الاجتماعية والثقافية. الشاعرة لا تقدم العشق فقط كعاطفة أو تجربة إنسانية، بل كقوة مطلقة تتجاوز الحدود المعهودة، وتعبر عن هوية الكائن وتحرره. في هذه القراءة العميقة، سنغوص في طبقات القصيدة لنسبر أغوارها الفلسفية والجمالية.

العشق: بداية الخلق ووجوده المستمر

تبدأ القصيدة بتصوير العشق كقوة خالدة تُولد من /سراديب الصمت/، حيث تتلاقى الأرواح في /حجب/ الظلام. هذه الافتتاحية تصور العشق كنور يولد من عمق العتمة، وكأن الشاعرة تشير إلى العشق كعملية خلقية مستمرة. في هذا السياق، يشير /النور/ الذي /يخترق الحجب/ إلى الحياة الجديدة التي ينبعث منها العشاق، وهو تعبير عن طاقة تتفجر من الظلام والفراغ، تمامًا كما تُنبعث الحياة من الموت أو من الركود.

الشاعرة توظف أيضًا رمز الفينكس — الطائر الأسطوري الذي ينهض من رماده — لتعبر عن قدرة العشق على التجدد والبعث. إنها لا تكتفي بتصوير العشق كمجرد انفعال، بل كـ /طاقة خالدة/ تُعيد خلق نفسها من جديد في كل لحظة، وتُظهر كيف يمكن للعشاق أن ينهضوا مجددًا بعد أي عاصفة عاطفية أو صدمة. الفينكس، الذي ينهض من الرماد، يمثل الإيمان بالقوة التحويلية للعشق، إذ يعكس في جوهره فلسفة عميقة حول العواطف البشرية وقدرتها على الاستمرار والنهوض حتى بعد تدمير الذات أو الخيبة.

التجذر والعمق: العشق كهوية وجودية

تواصل الشاعرة تصوير العشق باعتباره قوة أساسية متجذرة في /أشجار مُتجذرة العمق/. إنها لا تقتصر على تصوير العشق كحالة عاطفية فحسب، بل تضفي عليه طابع الوجود المستمر والمتعمق، حيث يصبح العشق هو المصدر الذي يمد العشاق بالحياة. هذا التصوير يعيدنا إلى الفلسفات الشرقية والغربية التي ترى في الحب والعشق أساسًا للوجود. من خلال هذه الصورة، تُظهر الشاعرة كيف أن العشق ليس مجرد مشاعر، بل هو أداة وجود، غرس ينمو بعمق في الروح.

/أشجار/ العشاق، التي /تستمد غذاءها من نشوة عشقها/، تشير إلى ذلك التفاعل العميق بين الحب والوجود؛ فالعشق في هذا النص ليس شيئًا خارجيًا يُضاف إلى الشخص، بل هو جزء من جوهره، غذاء روحي وأخلاقي. إن العشق هنا ليس مظهرا عابرا، بل هو بنية وجودية تُؤثّر في كل جزء من الكائن العاشق.

العشق في علاقته بالزمن والمكان: تجاور الخلود والمحدودية

/عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان/ — هذه العبارة تحمل أبعادًا فلسفية هامة. العشق في هذا السياق يُنظر إليه كحالة لا زمنيّة ولا مكانيّة، وتعدّ دعوة للتحرر من القيود المادية التي تفرضها الحواس والوجود اليومي. هنا نجد توجيهًا إلى الفلسفات الوجودية التي تعارض الفهم التقليدي للزمن والمكان كحقائق ثابتة. في هذا المعنى، العشق يصبح الوجود المطلق الذي لا يتأثر بالمقاييس الظرفية؛ هو عالم موازٍ، دائم وغير قابل للزوال، يحتوي في طياته على حقيقة تفوق التصور البشري.

هذه الرؤية تتلاقى مع أفكار مارتيـن هايدغر حول الوجود (Being) وجان بول سارتر الذي كان يؤكد على الوجود كفعل حر يتجاوز القيود المفروضة من البيئة والزمان. العشق في هذه القصيدة لا يعترف بالحدود المكانية أو الزمنية؛ بل هو نوع من الحقيقة المطلقة التي تعيش في لحظة الكشف.

العشق كنشوة وحالة من الحرية

تمتلئ القصيدة بالصور التي تشير إلى أن العشق ليس فقط تجربة تفاعل بين الأفراد، بل هو حالة نشوة معرفية وحسية معًا. حديث الشاعرة عن /أزهار الحلم/ التي تتفتح في /حدائق نفوسنا/ يعكس مفهوم العشق كطقس تجديدي، يعيد الحياة للجسد والعقل معًا. العشق هنا يقدم نفسه كعلاج للجروح الروحية والنفسية، فالعاشق يغسل /آثار العتمة/ و/خيباتنا/ في /ماء بحر العشق اللامتناهي/.

من هنا، يصبح العشق محررًا، يمنح العاشق القدرة على تطهير ذاته من أحزان الماضي وألم الفقدان. هذه التوصيفات تقودنا إلى التفسير الفلسفي للعشق كـ /نشوة/ أو /لحظة اكتمال/ حيث يتعالى الفرد عن نفسه المذعورة، ليمر عبر حالة من النور والتجدد. العشق في هذه الرؤية هو المنفذ الذي يكشف للمحبين إمكانياتهم غير المحدودة، ويمنحهم القوة للوجود بحرية تامة.

العشق كلغة غير قابلة للتفسير

تذكر الشاعرة أن /قصيدتي مكتوبة بالدماء الملتهبة/ وتشير إلى أن /قافيتها من نورٍ ونار/، مما يخلق تمازجًا بين التوترات العاطفية والفلسفية في سياق العشق. هذا التصوير يؤكد أن العشق ليس تجربة قابلة للفهم عبر العقل المجرد أو التفكير التقليدي. هو لغة معقدة وغير قابلة للترجمة الحرفية، لغة تتجاوز الحدود العقلية التي نستخدمها لتفسير تجاربنا.

هذه الفكرة تلتقي مع مذهب نيتشه في /اللغة المستعصية/ و/اللامعقول/ باعتبار أن الحقيقة العليا لا تُفسّر عبر المعايير المادية أو المنطقية. في قصيدتها، تصوّر الشاعرة العشق كـ /لغة لا تخضع لقوانين الكون/ مما يشير إلى استحالة فهم العشق في إطار المألوف. العشق هنا يتناغم مع الإيمان بأن هناك أبعادًا غير مرئية وغير قابلة للتفسير نعيشها فقط من خلال التجربة الذاتية.

تقرير وجودي: الحرية في العشق

في الخاتمة، نلمح أحد أعمق أبعاد القصيدة: الحرية في العشق. الشاعرة تدمج هذه الحرية في مفهوم الكينونة، حيث يُعبّر العشق عن قدرة الإنسان على أن يكون هو نفسه، في كامل حرية. في قولها /أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور/، تُظهر العاشقة كيف أن العشق لا يقيد الفرد أو يحصره، بل يفتح أمامه آفاقًا جديدة للوجود.

خاتمة: العشق كوجود فلسفي خالٍ من القيود

قصيدة ماهية العشق هي أكثر من مجرد تعبير عن حب عاطفي؛ هي رحلة إلى جوهر الإنسان وطبيعة وجوده في العالم. من خلال رمزية غنية وصور فلسفية عميقة، تفتح الشاعرة أفقًا جديدًا لفهم العشق باعتباره قوة خالدة تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية. في هذه القصيدة، العشق هو الفعل الذي يعيد تكوين الوجود ويمنح الإنسان القدرة على أن يتجاوز الواقع المادي والتفسيرات العقلية الجامدة، ليعيش تجربة كونية حرة ولامحدودة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

...........................

ماهية العشق

بقلم: سمر الديك

***

في سراديب الصّمتِ تتلاقى أرواحُ العشّاق يتولّدُ نورٌ يخترقُ الحجبَ على الرّغمِ من أنّ الرّياحَ تعصفُ بنا ننهضُ ونكمّلُ الطّريقَ كما ينهضُ "الفينكس "من رماده نحنُ العشّاق أشجار مُتجذرة العمق نستمدُ غذاءنا من نشوة عشقنا نرسمُ لوحاتِ الأمل على جدران الواقع تختبئ فيها سراديبُ الذكريات تروي حكايات عشقنا وتنسجُ خيوطَ اللقاء في كلّ ابتسامة.

أيّها العاشق اقتربْ أكثر لا تتردد لتشتعلَ النار المقدسة في معبدِ عشقنا وتُضيئ أرواحنا المتعطشة إلى النور تتفتحُ أزهارُ الحلم في حدائق نفوسنا نغسلُ آثارَ العتمة وخيباتنا بماء بحر العشق اللامتناهي الذي يغمرنا بأمواجه العاتية نغوصُ في أعماقه نرتوي بالعسل الممزوج بالحليب من ضرع الحياة نكتشفُ فيه ذواتنا المخفية.

يا أناي اقتربْ لا تخشى قصيدتي المكتوبة بالدماء الملتهبة قافيتها من نورٍ ونار اقترب منها كي تنبضَ بالحياة كل حرف لك يتغلغلُ في أعماقي وينسابُ نوراً يُضيئُ عتمة قلبي ويُبددُ أحزاني التي نسجتْ خيوطاً عنكبوتية على جدران قلبي أحاولُ تمشيطها بفرشاة العمر الحادة التي تزدادُ صلابةً في زمن النفاق فينبعثُ نوركَ قمراً وأتيتني نجماً أضاءَ دربي في سراديبِ الحياة الصامتة أسمعُ موسيقاكَ تعزفها ليلاً على مسامعي بصمتٍ تلامسُ أوتارَ روحي تغني للحياة تارةً وتارةً أخرى لا أستطيع تفسيرها إنّها لغةٌ مستعصيةٌ لا تخضعْ لقوانين الكون مُنبعثة من أعماق النفس عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان هو الحقيقة الخالدة في قلب كلّ حبيب أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور ما أحوجنا إلى الحرية إلى هذا العشق كما يراه "سارتر" إلى تلك النشوة التي تمنحنا القوة لنكون مانحنُ عليه ونشعر بالكينونة

***

سمر الديك سورية/فرنسا

 

في المثقف اليوم