قراءات نقدية

كريم عبد الله: الأنا والأنا الشاعرة في قصيدة الشاعرة جنان الحسن: الذات حين تكون

قصيدة جنان الحسن تحمل في طياتها تعبيرًا عميقًا عن الأنا الشاعرة وعلاقتها بالعالم من حولها. تبرز الأنا ككائن متأمل، يتنقل بين بيئات متعددة (الصحراء، البحر، الغابة، الليل، والخريف) كل منها يعكس جانبًا من مشاعر الفقد، الحنين، والوحدة.

الأنا الشاعرة

تظهر الأنا الشاعرة ككائن هش، مُفكك، يسعى للتعبير عن تجاربه الوجودية. من خلال الصور المختلفة، تُبرز مشاعر العزلة والضياع، حيث تتحول إلى "حبة رمل" أو "صدفة" أو "شجرة" تعبر عن عدم قدرتها على التحكم بمصيرها. في كل مشهد، تُظهر كيف يمكن للوجود أن يكون متعثرًا ومؤلمًا، لكن في الوقت ذاته هناك جمال في هذا الألم.

الأبعاد الرمزية

البيئات المتعددة: تعكس كل بيئة تجربة إنسانية مختلفة. في الصحراء، تجسد الوحدة والفقد، بينما في البحر، يتمثل الأمل والخيانة. وفي الغابة، يُظهر الصراع من أجل البقاء والتكيف مع الظروف.

التفاعل مع العناصر: الأنا تتفاعل مع العناصر المحيطة بها، مما يضفي طابعًا شخصيًا على الطبيعة. كل عنصر يحمل معانٍ خاصة، مثل الرياح التي تعبر عن الأماني، أو الشمس التي تمثل الأمل والضوء.

الحنين والغياب

يتكرر موضوع الحنين والغياب في الأبيات، حيث تؤكد الأنا الشاعرة على مشاعر الفقد والذكريات المؤلمة. فالشعور بالوحدة يتداخل مع الرغبة في التواصل والانتماء، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر عمقًا.

النهاية المفتوحة

تختتم القصيدة بسؤال عن المستقبل، مما يضيف بعدًا من الغموض وعدم اليقين. هذه النهاية تعكس عدم القدرة على التنبؤ بمصير الأنا الشاعرة، مما يجعلها تجسد تجربة إنسانية عالمية.

والآن، دعونا لنلق نظرة فلسفية عميقة على مضمون القصيدة:

الأنا الشاعرة ككيان متغير

الهشاشة والوجود: الأنا تُظهر نفسها ككيان هش، تائها في فضاء واسع. تعبير "أنا مجرد حبة رمل" يعكس الفكرة الفلسفية الوجودية، حيث يُعتبر الإنسان جزءًا صغيرًا من كيان أكبر، يتلاعب به الزمن والظروف. يُشبه وجودها بالزخرفة على رمال الشاطئ، التي لا تلبث أن تُمحى.

التحول المستمر: تتجلى الأنا الشاعرة في صور متعددة (حبة رمل، صدفة، شجرة، نجم)، مما يعكس فكرة التحول الدائم، التي تتبناها الفلسفة الهيجلية. هذا التعدد يُظهر تناقضات النفس البشرية، والتجارب المتنوعة التي تشكل الهوية.

الصراع مع الغياب والحنين

الغياب كحقيقة وجودية: الصورة المتكررة للغياب تجسد فقدان الهوية والانتماء. تعبيرات مثل "قصم ظهرها الغياب" تشير إلى أن الفقدان ليس مجرد حدث، بل هو حالة وجودية تتغلغل في الذات. كما يطرح هايدغر مفهوم "الوجود في العالم"، حيث يكون الغياب جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

الحنين كحركة داخلية: الحنين يمثل سعيًا نحو الكمال، أو إلى ما فقدته الذات. هذا الشعور يرتبط بمفهوم "النوستالجيا"، حيث يشكل الماضي المفقود إطارًا مرجعيًا للحاضر، مما يجعل الأنا تتساءل عن قيمتها في العالم.

العلاقة مع الطبيعة

التفاعل الديناميكي: الأنا لا تعيش في عزلة، بل تتفاعل مع البيئة المحيطة. في كل صورة، تعكس الطبيعة حالتها النفسية. الأنا كـ "شجرة" تُظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة، حيث تنبعث الحياة من الألم والصراع. هذا التفاعل يعكس فكرة الفيلسوف رومان رولان عن وحدة الإنسان والطبيعة.

الطبيعة كمرآة: تمثل الطبيعة مرآة تُعكس فيها مشاعر الأنا، مما يجعلها ليست مجرد خلفية، بل شخصية حيوية تعيش التجربة. كأن الطبيعة تُحدث الأنا، وتُساعدها على فهم وجودها.

الغموض والإمكانات المستقبلية

السؤال عن الغد: تنتهي القصيدة بسؤال مفتوح عن المستقبل، مما يبرز عدم اليقين في الوجود. هذا العنصر يعكس الفلسفة الوجودية، حيث تُعتبر الحياة مليئة بالأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها بسهولة. مثل سارتر، الذي يؤكد على أن الإنسان محكوم بالحرية والاختيار، فإن الأنا هنا تُسائل نفسها عن مصيرها.

الأمل والتجديد: تتواجد إمكانية التحول والتجديد في كل نهاية. الأنا تُشير إلى احتمال التجدد من خلال "الأماني الجديدة" التي تُخلق من الفوضى. هذه الفكرة تتماشى مع فلسفة نيتشه حول قوة الإرادة.

خلاصة

قصيدة جنان الحسن ليست مجرد تعبير شعري، بل هي رحلة فلسفية تستكشف الأبعاد الوجودية للأنا. وتعكس تجربة إنسانية عميقة تتفاعل مع الألم، الفقد، والطبيعة، مُتناولةً أسئلة عن الهوية، الوجود، والمصير. بهذه الطريقة، يصبح الشعر وسيلة للتأمل في حقيقة الحياة ومعانيها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

.........................................

الذات حين تكون

بقلم: جنان الحسن

***

في الصحراء

أنا مجرد حبة رمل تلاعبت بأمانيها الريح طويلا قبل أن تسقطها سهوا بفعل الحمل الثقيل

أثقلها الحنين وقصم ظهرها الغياب..

في البحر

أنا مجرد صدفة ظنت أن قلبها الأبيض لؤلؤة ثمينة فمنحته لبحار عابر

وضعه قلادة في عنق امرأة أخرى

في الغابة

كنت شجرة أصرخ في وجه الشمس كل صباح

أكسر وهجها عن أحلام سقطت من حقائب الليل حين الرحيل

أخبئ مؤونة السناجب للشتاء

أشارك طائر النقار موسيقاه التي يعزفها على جسدي

حتى باعني الحطاب لدرويش فقير فقد ساقه في الماراثون اليومي للركض خلف الرغيف..

في الليل

أنا مجرد نجم يراني المؤرق رقما

ويراني العاشق ونيسا والضائع يراني دليلا

بينما أنا حجر صغير يقذفني الجميع بالأمنيات

ولا أدري متى أتشظى وأسقط حصى صغيرة تلهو بها أقدام الفصول لتغدو أماني جديدة..

في الخريف

أنا أغنية هاربة من حقول بعيدة حملني الناي في ثقوبه وأعطاني لرياح الشتاء

أحب الطرق على النوافذ المكتظة بالوحدة والخالية من دفء العائلة والصحاب..

وأما في الغد فما زلت لا أعلم ماذا أو أين سأكون؟

في المثقف اليوم