قراءات نقدية

ضياء خضير: حدائق وجوه محمد خضير وأقنعة سيرته الثقافية الخاصة

لا يمكن أن يستكمل الحديث عن محمد خضير قاصًا مؤثرًا في تطور القصة العراقية والعربية الحديثة دون الحديث عن آرائه في هذه القصة، ونظرته لما يجب أن تنطوي عليه من تقنيات رمزية وأسطورية وأساليب سردية مبتكرة. وكتبه مثل (الحكاية الجديدة ، دار أزمنة عمان 1995)، و(السرد والكتاب (مقالات)_ دار الصدى، دبي ٢٠١٠)، و(الرجل والفسيل (مقالات)_ مطبعة بلورة الجنوب، البصرة ٢٠١٢) وغيرها، تأكيد على هذا الاهتمام الخاص بالقصة القصيرة نوعا أدبيا له كيانه وحدوده واشتراطاته الخاصة التي لا ينبغي أن تختلط مع غيرها من أنواع سردية أخرى كالرواية. حيث اعتدنا أن نرى كثيرا من الساردين في هذا العصر يتركونها لصالح هذه الرواية.
ولعل ميزة كتاب (حدائق الوجوه، (قصص)، دار المدى، دمشق، 2008)، الذي سنركز الحديث عنه هنا، أنه من كتب محمد خضير النادرة التي تجمع بين القصة والسيرة الثقافية، التي يمكن أن نتلمس فيها جانبًا من مصادر التأثير الأساسية في ثقافة محمد خضير وقصته القصيرة، المختلفة عن كل ما كتب من سرد قصير في العراق وغير العراق؛ فضلًا عما انطوى عليه هذا الكتاب من قصص قصيرة تشي بنفسها عن هذا النوع من التأثر والعلاقة مع بعض أساطين هذا النوع والمبدعين من أصحابه وأصحاب حدائق الوجوه بشكل عام.
وحين أهديت نسخة إلكترونية من كتابي (نجوم منطفئة في سماء ذاكرة الغريب) للصديق محمد خضير، كتبتُ له ما يلي:
"لا أدري، أخي محمد، لماذا أجد شيئا من التشابه بين كتابك حدائق الوجوه (الذي قرأته في نسخة إلكترونية هذه الأيام) وكتابي هذا الذي أهديك هنا نسخة الكترونية منه قبل صدور نسخته الورقية عن اتحاد الأدباء في بغداد قريبا. نعم، ألمح شيئا من هذا التشابه، مع معرفتي بالاختلاف الأساسي الذي يجعل من كتابي هذا نوعا من نسخة مظهّرة بالأبيض والأسود من النسخة النجتف لكتابك (لا بالمعنى السالب، بل بالمعنى غير المباشر الذي تمتلك فيها الكاميرا المركبة في رأس بستانيّك عينَ الطائر الذي يحلق عاليا ليرى كل شيء قبل أن ينقضّ على هدفه - المعنى المتخفي بين حدائقك الغُلب الملتفة على بعضها، أو يراه من بعيد تحت سطح ماء البحر أو الهور القريب)، على الرغم من اختلاف الموضوع والشخصيات المكتوب عنها في الكتابين ؛ هذا إذا جاز لي أصلا المقارنة بين كتابين يغوص الأول منهما في الأعماق بحثا عن فهم آخر للحياة الداخلية للبشر عبر قراءة بعض من رموزهم وعلاماتهم البارزة والمتميزة قراءة أخرى، وما يتصل بذلك من بيان وتبيين يقعان وراء الصور وتعبيرات الوجوه وثمار حدائقها النيئة والناضجة كما تتبدى في الإشارات والإيماءات والرسوم والقصص والمقولات والحكم القديمة والحديثة .."
وقد كتب لي جوابًا على ذلك ما يلي:
" شكرا دكتور ضياء لإرسال نسخة من كتابك نجوم منطفئة. ربما التقى كتابانا في نقطة واختلفا في نقاط كثيرة. التقيا في السيرة واختلفا في الغرض من كتابتها. اردت لكتابي أن يكون مرجعا لتربيتي السردية، انعكاسا لشخصيتي، فأصحاب السيرة فيه جزء من خبرتي السردية، وهم من امكنة شتى. وقد أضفت لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركتي البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم. بينما كتابك يراجع حياة أشخاص مستقلين عنك، وهم يتوالون في كتابك بحسب معرفتك بهم وقربك منهم زمانيا ومكانيا. أما سير حدائق الوجوه فتنتظم في نظام خاص، لا يعبأ بالزمن والمكان.
على اي حال هذا رأي أولي ريثما اقرأ كتابك وتستقر عندي وجهة نظر كاملة عنه.
تحياتي وتقديري."
وما أهدف إليه هنا ليس حشر اسم كتابي بنجومه (المنطفئة)، وبما يتضمنه من سيرة ذاتية وغيرية عني وعن بعض أصدقائي وأساتذتي من النقاد والأدباء، بمناسبة الحديث عن كتاب محمد خضير هذا بأقنعته واستعاراته وحكاياته المختلفة، وإنما هو رؤية طريقة السرد التي يكتب فيها هذا القاص البصري سيرته الذاتية، أو الجانب الخاص منها بتربيته السردية ورؤية مرجعياتها المختلفة بهذه الكيفية الخاصة في الكتابة. والسبب الذي يجعل الكاتب ميالًا لوضع هذه (الأقنعة) على وجوه أصحابه أو (بستانييه) من الشعراء والكتاب الذين اختار أن يكتب عنهم و"يبحث عن الكيان المتواري خلف الأنظار" عند كل واحد منهم، مثلما يضعها على وجه الراوي المؤلف - محمد خضير نفسه؛ فضلا عن رؤية هيمنة الجانب الاستعاري المتموج الذي تطفو كلمات الكتاب على سطحه المشبّه به، مثلما تطفو المركبات الفضائية في فضاء أثيري مصنوع من معانٍ ودلالات حافة تمزج بين الواقع ورديفه المجازي الذي يبتعد عن الدلالة الواقعية ويضيف إليها، أو يضعها وضعًا جديدًا خارج الفضاء الثقافي التقليدي، في الوقت نفسه.
- المنحى الاستعاري وخلاصة التجربة:
يبدو أن محمد خضير يبحث في هذه المرحلة المتأخرة من حياته عن حلّ لأزمته الذاتية، التي هي في الوقت نفسه أزمة إنسان العصر التي كانت كتاباته تعبيرًا مبكرًا عنها. وهي أزمة ثقافية وروحية لم تعد ثقافتنا المحلية وتراثنا السردي المتوفران قادرين وحدهما على تقديم الإجابة المناسبة لها عنده. وقد كان تعبيره ذو الطابع السردي الذي اختص به في القصة القصيرة على نحو خاص، والذي ينزع فيه نزعة بيانية وبلاغية معروفة تهدف إلى التعبير عن الواقع المعيش بطريقة مخصوصة تمزج بين الرمز والمجاز والأسطورة من أجل توسيع رقعة الحدث أو الواقعة النصية ومنحها أفقًا أكثر سعة وشمولًا، أقول إن محمد خضير لا يجد في النهاية مندوحة من اللجوء إلى الآخرين من كتاب العالم المعروفين، يتملى في حدائق وجوههم، ويتحرى عن مآلاتهم الشخصية، ويمخض الجوهري من تجاربهم لعله يجد نوعًا من العون من شأنه أن يقدم له الدعم في بحثه الحميم والمستمر عن حلّ. ووسيلته التقليدية المتبعة للتواصل مع هؤلاء الكتاب تبقى غير مباشرة وذات طبيعة استعارية مراوغة تقترب من هؤلاء الكتاب لتبتعد عنهم، في عملية مساءلة وبحث يحملان من الجهد والقوة قدر ما يحملان من جمال وأمل.
إنه "عالم الاستعارات" التي لا يعلم أحد من بني البشر، كما يقول الكاتب في مطلع كتابه، أيَّ واحدة منها "أقدم في تشبيهات هذا العالم". هذه الاستعارات التي يمكن أن نجعل مما قاله الشاعر الفارسي جعفر بن محمد الرودكي في تشبيهه للبشر ب "الضيوف في خان العالم"، انموذجا لها، وما يماثل ذلك من أقوال لشعراء وكتاب آخرين تشير إلى اجتماع البشر في "حديقة العالم" التي تبدو فيها وجوه هؤلاء البشر مثل خمائل بديعة التنسيق، حيث نحن، كما يقول جلال الدين الرومي، "ثمرات نصف ناضجة في شجرة العالم" بانتظار النضج والقطف، في هذه الحديقة المدغلة المماشي؛ حيث يهيم بستانيو العالم هؤلاء بين الوجوه المتدلية وهم يرددون تسبيحة السياب أو نداءه الذي صارت حدائق الوجوه فيه عنوانًا ودليلًا في خارطة الكتاب كله:
إليك يا مفجّر الجمال، تائهون
نحن نهيم في "حدائق الوجوه".
ونظرًا لأن الكاتب يحاول دائما أن يصف نفسه ويعبر عنها بوضوح عبر هؤلاء قدرَ الإمكان، فإن عملية الكتابة لديه تبقى عرضا مستمرا للأقنعة؛ الأقنعة التي تستخدم لتمثيل الوجود المزدوج للحياة الداخلية والخارجية للبشر بوجودهم الحي وبأخيلتهم وأحلامهم خلال إقامتهم المؤقتة على هذه الأرض.
وهذه العلاقة التي يرتبط بها محمد خضير مع الآخر هي، في الواقع، نوع مما كان يسميه الناقد الروسي ميخائيل باختين (الأنثروبولوجيا الفلسفية) التي لا تتضمن فقط وصفا لعلاقة الذات بالآخر، ومحاولة تقييم المبدع لنفسه من منظور هذا الآخر، بل أيضًا تقديم وصف لعملية الخلق والإبداع نفسها.
وباختين يقول لنا بهذا الصدد:
"في الحياة نفعل ذلك كلَّ لحظة: إننا نقيّم أنفسنا من منظور الآخرين، نحاول فهم اللحظات المقومة لوعينا ولكنها تظل خارجية بالنسبة له transgredient وأن نأخذ هذه اللحظات المقومة لوعينا من منظور الآخر..، بصورة ثابتة تمامًا يمكننا القول إننا نتفحص تأملاتنا بحياتنا الخاصة ونتفهمها عبر وعي الأشخاص الآخرين"
وفي هذه الأنثروبولوجيا الفلسفية المعقدة التي تستند فيها الذات إلى وجود إنساني آخر، يستطيع صاحب حدائق الوجوه أن يقع على تجربة جمالية وإبداعية، وحتى أخلاقية أخرى كافية لتوفير القناعة للمساعدة في تشكيل الهوية، وأيضًا للوقوف على نقص الإنسان ومحدوديته من الناحية الموضوعية التجريبية. وتحقيق الوعي الذاتي، كما يقول باختين في حديثه عن دوستوڤيسكي، يتم أيضًا عبر كشف نفسي للآخر، وبمعونته.
"فلكي أكون عليّ ان أقرأ الآخر"!
وهذا هو الذي يدفع محمد خضير للقول في جوابه السابق بأنني "أضفت لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركتي البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم"، ويدفعنا من جانبنا للقول بأن كتاب حدائق الوجوه يكشف عن النقص في الشخصية أكثر مما يكشف عن اكتمالها، بنفس الوقت الذي يكون فيه، كما سنرى، كتابا للموت فيما هو يريد أن يكون كتابا للحياة. والأنا التي يقول باختين إنها تختبئ في ذوات الآخرين، وأنها تريد أن "تكون أنا أخرى للآخرين، أن تخترق عالم الآخرين كآخر" هي التي تحاول أن تطرح عنها ثقل الأنا المتفردة، أو الأنا الموجودة لذاتها. (أنظر، تزفيتان تودوروف، المبدأ الحواري، دراسة في فكر ميخائيل باختين، ت فخري صالح، بغداد، 1992، ص 122 - 127)
مع أن (أنا) المؤلف هي الوعي الذي يطوّق الشخصية ويبقي على تماسكها السردي، ويمثل الوحدة أو العنصر الذي نقيس بالاستناد إليه الفروق والمشابه الموجودة بين الشخصيات الأدبية والشعرية والثقافية المختارة في هذا الكتاب.
ومحمد خضير يختار، كما نعرف، ستة من بين هؤلاء الآخرين الذين أسهموا في صنع سيرته الذاتية وصياغة هويته الثقافية. ستة مختارة من الكتاب أو البستانيين الكثر الذين مروا على حديقته - حديقة الأعمار الوسطى – ليضع أقنعتهم المتباينة على وجهه، وليشاركهم تجاربَ الزرع والحصاد ورؤية الثمار المتدلية وعصارتها الفلسفية والفكرية والروحية التي تمثل طينة الوجود وخلاصة التجربة الإنسانية ونسغها الحي في ذاكرة الكاتب ورؤيته الإبداعية والسردية المزدوجة، والمشاركة في إعادة كتابة السيرة الخاصة بكل واحد منهم.
خلاصة تجربة الكاتب الأجنبي أو العربي وقرينه العراقي الراصد والمتأمل والهاضم للتجربة، والقادر على إعادة إنتاجها على وفق تجربته ورؤيته الخاصة، هي موضوع حدائق الوجوه. وثمة قصص وسرديات قصيرة تتضمنها الصورة الإطارية للنص، حيث ينتقل العمل فيها من (النص) إلى (الكتاب)، بحسب مقولة رولان بارت، ورؤية محمد خضير المكمّلة والمتمثلة لها. وهو يحاول في هذه القصص والحكايات المرادفة أن يتكلم بلسانه، ويشارك بما عنده، حتى إذا واصل وضع القناع على وجهه، بنفس الطريقة التي يضعه فيها على وجوه كتّابه الآخرين.
وقد لا يكون من اللازم الإشارة إلى أن صورة هؤلاء الكتاب الذين اختار صاحب حدائق الوجوه أن يضع أقنعتهم على وجهه ليست صورتهم كما هي عندهم، أو كما رسموها لنا في كتاباتهم، بل هي بالتأكيد ما اختاره محمد خضير من ألوان هذه الصورة وخطوطها لتشكيل هويته الثقافية التي قد لا تتطابق بالضرورة مع هوياتهم، أو ما يعرفه عموم القرّاء عنهم.
وتحديد ما أخذه الكاتب أو تركه منهم ليس بالأمر السهل لأنه يتصل فقط بالمشاركة في فهم وتبنّي تجارب ثقافية أخرى، بل بذوات بشرية مختلفة قد تكون الكتابة عندها وسيلة لإخفاء الذات ووضع الأقنعة على وجوه أصحابها أكثر من الكشف عنها والوصول إلى مُستَقَر فكرها وحقيقة أوضاعها البشرية المخصوصة في المراحل العمرية والفكرية المختلفة. وبعض أتباع الفكر الهندي الذي تحدث عنه محمد خضير لدى كلامه على الشاعر طاغور، على سبيل المثال، يقولون إن الذهن لا شكل له، ويخترق كل الجهات، وأن المهم هو ملمس الحياة الواقعية لهؤلاء البشر، حيث بالعينين يكون الرائي، وبالأذنين يكون السامع، وبالأنف يشم الروائح، وبالفم يمكنه الحجاج، وباليدين يمسك، وبالساقين يسير. وواحدهم موجود في كل الجهات وكل الأزمان، وبسبب التخيلات المفتوحة يخضع الواقع للتفريق بين هذا وذاك منهم، فلكلّ منهم انعتاقه الخاص، وسيرته الداخلية المختلفة. وأرنولد توينبي يذكر في حديثه عن الكارُمه الهندية بأنها الحساب المصرفي الأخلاقي الذي يتبدل فيه الرصيد في حياة الإنسان على هذه الأرض باعتباره "فاعلًا حرّا".
وقد رويَ عن بوذا أنه قال حين خرج من جسم أمه إلى هذه الدنيا: السماء من فوق، والأرض من تحت، وأنا وحدي المكرم في هذه الدنيا. وهو قول لا يتورع محمد خضير من تبني ما يشبهه بطريقته الخاصة في تعامله مع هؤلاء الكتاب والشعراء بعد أن يمتص عصارة الثمار الموجودة في حدائقهم ليحافظ على أناه المستنبتة في تربته البصرية والعراقية، وليكون قادرًا في حديقته الخاصة بالأعمار الوسطى على رسم صورته بموازاة صورة وجه كل واحد منهم، وبطريقة مختلفة عنهم جميعًا.
وبفضل التصوّر اللساني -البنيوي المعتمد في الكتاب، يتمّ تجاوز اعتبار الكلمة مَعْقِدَ الاستعارة في البلاغة القديمة، إلى الجملة، ومنها إلى الخطاب في الدراسات الحديثة. إذ لم تعد هذه الدراسات تشمل الاستعارة باعتبارها نقلاً لمعنى الكلمة المفردة، ولا تأليفاً لصورة عبر انتظامها في الجملة، بل بوصفها مولدةً لطاقة الخطاب الاستعاري على الإحالة الخارجية، ومدى قدرته على استعادة الواقع ومحاولة بنائه من جديد بطريقة مخصوصة.
وهنا تصير الاستعارة في مجمل الكتاب استراتجيةَ خطابٍ، تنمّي طاقة اللغة الاستكشافية، وتظهر اقتدارها على إعادة تشكيل الواقع في السرد بأنواعه القصير والطويل.
-السرد الطويل الذي يمثله مجمل نص الكتاب بفصوله وعناوينه الرئيسية والفرعية الدالة،
-والقصير الذي تمثله قصص تتضمنها حياة الكاتب بمراحلها المختلفة طفلًا رضيعًا غارقًا في خرائه، وأما صبيّة لا تتخلّى عن لعبتها الصغيرة وهي تضع طفلها الأول، وصبيًا قادرًا في مسيرته اليومية إلى مجلس القابلة "الأبلّية" التي جمعت "مصاليخ" الأحياء لتعلمهم مبادئ القراءة والكتابة وقراءة ملامح الوجوه البشرية المحيطة بالمكان تحت ظلتها المسقفة بسعف النخيل، أو الطريق الترابي لمدرسته..طفلًا فقيرًا قادرًا على أن يشم رائحة الخبز أو "نزيفه" من بعيد، ومعلمًا في الهور لا يمتنع عن مصاحبة الكلاب واللصوص وسجناء الرأي من الذين يمتلئ تاريخنا العراقي بصور عذاباتهم ذات الطبيعة "القدرية" المتأبدة، ورواية حكاياتهم التي لا تخلو من رموز وألغاز حياة وموت، ثم شيخًا يختلط الزمن ويتداخل في ذاكرته السردية وهو في جلسته اليومية المعتادة في ذلك المقهى البصري "حيث جرس الدراجة المرنان يحثّ أوراق الجمّيزة في ظهيرة شباط الباردة، وفئران الساعة تقرض طوالعي المكتوبة على الاصفرار الفاقع للأوراق المتساقطة، خربشة أيامي المتعرجة، سنواتي الستون، أطاح بها جرسُ الدراجة المصلصل، فيما أسفح يومي على تخت الساعة العمومية لدائرة البريد." (محمد خضير، حدائق الوجوه، دار المدى، ص52).
- المنحى الزمني
والكتاب كلّه لا يعبأ على هذا النحو بالزمن والمكان، كما ذكر الكاتب ذلك في ملاحظته السابقة. فالعلاقات المركبّة بين قيم الزمن المختلفة تبدو شديدة التعقيد في نص الحدائق، ولكن القارئ الذي ينتقل من حاضره الكرونولوجي إلى الماضي السردي المستعاد لدى قراءة الكتاب يبقى معتمدا على طريقة معالجة الكاتب لهذه القيم، وبما يُشعر هذا القارئ بوجود نوع من التوازن والتناسب بين هذه الأزمان جميعا، على الرغم من الإحساس المتفاقم بخضوع الزمن الراهن لسطوة الزمان الماضي على نحو يتقدم فيه حاضر الماضي باستمرار ليكون حاضرًا في الحاضر الراهن نفسه. والكاتب يفعل ذلك في إطار فلسفته التي يرى فيها "بأن جدوى بعث جمال شيء ما تبدأ من لحظة زواله" (ص 7) وهو يقول: إن جمال وجوه أصحابه وهي تتفسخ يفوق جمالها وهي تحيا ! (ص 10).
- أقنعة الحدائق والوجوه
ومنذ تجاربه السردية الأولى علّم محمد خضير نفسَه أن يكبر داخل أقنعة، ويضع مسافة بينه وبين الآخرين، ليس فقط ليحمي وجهه من الانكشاف على طريقة بعض المقنعين الذين لا يريدون الكشف عن جمال وجوههم، حسب الحكايات التي أوردها في حديثه عن شيخ المعرة، وإنما أيضًا ليكون أكثر قدرة على التحرك داخل دائرة أصحاب السرديات العربية والعالمية المختارة، ولأن ذلك يمنحه الإمكانية لرؤية أشياء أخرى غير تلك التي اعتدنا أن نراها في السرديات التقليدية دون أن يسمح لأحد أن يرى وجهه في صورته الواقعيةصصص المجردة.
ومحمد خضير الذي يشاركنا علاقته مع هؤلاء الكتاب والفنانين يرينا كيفية تشكيل نفسه بواسطتهم. فهناك علاقة تبادل مزدوجة بين الذات والموضوع، بين المبدع وعمله. ونحن نتذكر استشهاد باشلار ببيت الشاعر إيلوار الذي يقول: "كم تتغير يدنا حينما نضعها بيد أخرى"، وكيف أننا "نكتشف أن السماء الزرقاء تنظر إلينا حينما نعتقد أننا ننظر إليها".
وكما يقول ميخائيل باختين، فإن من يرغب الحفاظ على نفسه يخسر نفسه، ما دمنا جميعا حواشيَ وحدودا فاصلة من الداخل، ولكي نكون علينا أن نقرأ الآخر". (تزفيتان تودوروف، المبدأ الحواري، ت فخري صالح، ص125)
ومع أن محمد خضير لا يفعل في وضعه الأقنعة على وجهه ووجوه أصحابه للتضليل أو إقامة حجاب حاجز من الغموض بينه وبين القارئ العادي على طريقة "المضنون به على غير أهله"، فإن هناك شعورا لديه بالحاجة إلى ذلك تفرضها الكتابة الاستعارية التي لا تكتفي بتصوير السطوح الواقعية المعرضة للضوء والهواء، وإنما محاولة النزول بحثًا عن طبقات أخرى أكثر عمقًا وأبعد غورا من الذي نراه في الواقع المعيش وراء عالم الخيال والحلم والأسطورة وتبدل أحوال البشر من حال إلى حال. وهو يقول إنه على "علم بتبدلات الأقنعة، فلم أمكث في كل حديقة غير أيام تكفي لسرد حكاية واحدة، ثم أنزع عني القناع، وأتقنع بآخر في حديقة مجاورة قبل عودتي إلى حديقتي الوسطى، حديقة الأعمار المتسارعة". (ص 10)
واستعراض بعض هذه الأقنعة الواردة في الكتاب يمكن أن يعطي القارئ فكرة موجزة عن طبيعة الموضوع وطريقة التناول، ولكنه لا يمكن أن يوقفه على مقدار الغنى الحكائي والبلاغي، وما يتضمنه النص من تنوع وثراء في المحتوى واللغة والأسلوب وطريقة الكتابة دون قراءة الكتاب ومباشرة الاطلاع عليه، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن ما نراه ليس مجرد تقنية بقدر ما هو رؤية وتصور خاص للعالم والوجود من حولنا منظورًا إليه من زوايا مختلفة.
- القناع الأول هو قناع ريبندرات طاغور الذي امتزجت فلسفته بالطبيعة، واشتملت فيها روح النص المكتوب على روح العالم، واقترنت بتقاليد اليوغا الهندية الخاصة التي لم يتعلم منها الكاتب " واجبَ النظر إلى كليّة الوجود في أصغر المخلوقات، أو احترام الخلق في أحقر المخلوقات فحسب، بل علمني أيضا أن تقاليد الدارما تلزمني بقواعد قصّ توحّد أشتات الأرواح الموزعة على أقطار العالم ، ما عقل منها، وما لم يعقل" (ص61) وغير ذلك مما يسميه الكاتب (حديقة الصمت).
ومعرفة محمد خضير المدققة بجوانب الفلسفة الروحية الهندية ومصطلحاتها المختلفة، وما يرتبط بها من فضاءات وأجواء تستثير العجب والدهشة. وهو لا يتعرض لها، كما هي عند الشاعر طاغور أو غيره، كدارس أو مراقب خارجي، وإنما كمشارك وعارف بطبيعتها معرفة الخبير الداخل في أتون التجربة الخاصة، والمكتوي بنارها، والمتذوق للذائذها.
-القناع الثاني هو قناع غابرييل غارسيا ماركيز الذي حلق أمام أنظار كاتبنا فجأة في حديقة القرن "كنسر هندي، وابتعد عن الأرض، مخلّفا حاكيا حجريًا تتحشرج على قرصه أسطوانة تدور ببطء شديد."
-في حين يحتل قناع بورخس مكانة مركزية في سيرة محمد خضير السردية ومرجعيته التربوية والثقافية ذات الوجوه والأقنعة والأسماء المتعددة، منذ أن اطلع على إحدى قصصه مترجمة في مجلة الأقلام عام 1979؛ وحيث تبدو جميع الحدائق التي يرتادها هذا الكاتب دائرية أبدًا، ولا تؤدي إلى مكان في (حديقة العالم) الكبير.
-أما قناع جبران (النبي) فقد استولى هو الآخر بسحره على الكاتب، ليس فقط بما كتبه من نصوص ذات طابع نبوي سماوي، بل أيضًا من خلال قراءة ما رسمه من صور ولوحات في محترفه بنيويورك، وغير ذلك من مظاهر بهاء يحيط به، وجعله يكتسب شهرة عالمية بعد نشر كتابه النبي The prophet الذي ظهرت نسخته الأولى بالإنكليزية عام 1923.
وصاحب حدائق الوجوه الذي يهبط في وادي ذوي الظلال الخضر من الأنبياء والقديسين، يجد أن صوت البحر ونبرة الحرية في كلمات هذا الكاتب اللبناني يمكن أن يبددا جنون الحدائق الأرضية كما يعيشها، فيهرع ليعانق حكمة ابن الحدائق السماوية.
"تلك الحكمة التي أنكرها في نفسه ما لم تمتزج بأغاني الأرض والسماء، وتتمرغ بالتراب والطين، وتتكسر على الصخر والرمل."
وهو يضيف إلى علاقته الفاتنة بجبران هذا النص بلغته الساحرة المنبثقة من تماهيها مع حديقة جبران اللفّاء التي يقول إن إطلالته الملغزة بأحاديثها:
"أغرتني بأن أسمو بالجنون فوق الحكمة، فأزجّ بأسمالي الخشنة بين طيالس أساتذة الحديقة، وحكماء الفصول، وشعراء الورد، ومغنيّ الظلال، وموسيقى العزلة، واقتطع من ظلالهم الخضر نقابًا لوجهي المتقافز كجندب الهمزة، أو كضفدع الباء، أو كغراب النون. آه، ويح الحبيب حين يستعجل سفور الحبيب، والطل حين يستقطب خفر الوردة، والناي حين يستبيح أنين الشجرة. ويحي – أنا البستاني العريان – حين أستعجل قناع جبران! .." (ص139 )
-في حين لا يضم القناع المكرّس ل (حديقة الحب) شخصا بعينه من البستانيين الذين ألِفنا رؤيتهم في الفصول السابقة، فهي حديقة متسعة تضمّ حشدا من المحبين، والعشاق، والمتصوفة، الذين تتوزع حكاياتهم وشخصياتهم على شبكة واسعة من أخبارهم وقصصهم القديمة، كما وردت في طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وكتاب الزهرة لمحمد بن دَاوُد، ومصارع العشاق لجعفر السراج، وتزيين الأسواق لداود الأنطاكي، وقوت القلوب لطالب المكي.
والبستاني الذي قضى ستة أيام في حديقة الحب مساوية لأيام الخلق انتقل خلالها بين موانع وعقبات، وشهد أحولا ومقامات، وجاور سرورًا وأنسا، وفارق أرواحا ذاوية، قد انتهى إلى أن يستل من وجوه الحب الكثيرة هذه خيوطا نسج بها قناعا لوجهه في مجمع العشاق الغابرين. (ص 168)
أما (شمّامة) التي يُختتم بها هذا الفصل فتبدو عند اكتمالها قصة قصيرة منفصلة عن بقية الفصل على الرغم من التمهيد الذي تقدم به المؤلف لحكايتها.
-وهي تشبه في هذا قصة (الرحماني) التي يختتم بها موضوع (حديقة الغفران) الخاصة بأعمى المعرة. إذ لا يبدو أن هناك شيئًا يربطها بحديث البستاني عن غفران أبي العلاء، اللهم إلا ما نراه من عمى الشيخ صاحب الحمامات الثلاث في هذه القصة، حيث العمى الذي يصبح بعد التجربة بصرا حديدا، وليس فقط بصيرة تتهجى عن طريق العقل وأداته السمع وبواسطته حروفَ الواقع المعاش ولغة أغانيه وموسيقاه المعماة على المبصرين.
وهي تأتي ضمن خطة الكتاب القائمة على المراوحة بين قصص وحكايات ذات دلالات واضحة وملغزة تعقب الموضوعات التي تخص البستانيين الكبار الذين يكتب عنهم ويضع على وجهه أقنعتهم.
وقد بيّن القاص بنفسه كيف أنه أضاف لكل شخص حدائقي (بستاني) حكاية تبرهن على مشاركته البستانيين هؤلاء حياتهم وأفكارهم. وهي تؤلف في معظمها جزءا لا يتجزأ من الكتاب وصورته العامة المتداخلة في تقنيتها الأسلوبية وطبيعة بنيتها السردية.
وكما هو الأمر في حدائق الوجوه الأخرى واقنعتتها، يجري هذا التبادل بين وجوه أبي العلاء والبستاني، فقد كان المعري كما يقول صاحب الحدائق "رحمانيا في قافيته، والبستاني علائيا في نغمته، وكلاهما متوحد في حديقة غفرانه ". (ص 172)
وسوى حديث البستاني الممتع في هذا الجزء عن رحلة غفران الشيخ الضرير بين الجنة والنار وموقفه من ابن القارح الذي لم يضع أبو العلاء قناعه على وجهه إلا ليبصر به خلال جولته الخيالية تلك، يتسع المقام للحديث عن الشعر الذي هو "قافية العمر" في حياة رهين المحبسين، واللغة التي هي "كون النفس ومعينها الفائض من الحروف والألفاظ إلى أبسطها، كما يفيض المعين الإلهي بالحركات والأصوات والألوان على الوجود في أبسطه.." (ص 172)
والكاتب يستعرض، على هذا النحو، كلَّ هذه الأقوال والحكايات والقصص الشخصية متبوعة، كما ذكرنا، بأخرى تمثل وحدات سردية متفرعة أو متماهية مع حياة أولئك المعلمين والبستانيين الضالعين في طرائق السرد وأزمانه ودروبه الغرائبية.. الكتّاب الذين كتب عنهم واستوحى تجاربهم واستبطنها إلى الحد الذي تتحول فيه (الأنا) الخاصة به إلى ال (هم) الخاصة بهم في ذلك الإطار الذي تندمج فيه هذه الأنا السردية أو تختفي أوتموّه على نفسها تحت ثقل قناعها الآخر الضائع في زحام الأقنعة الجماعية والفردية المتبدلة على وجه السارد بتبدل الوجوه واختلاف سحناتها ومشاريعها الفكرية والشعرية.
- الكتاب الأم
وهو ما يجعل من (حدائق الوجوه) عندي كتابَ الكتب..الكتابَ (الأم) بين أعمال محمد خضير كلها؛ المؤلَّف الجامع للنص، والمكرّس لوصف التجربة الذاتية والسيرة السردية ومرجعياتها الأساسية، وما تعلمه السارد منها وأضافه إليها، منذ بداياته الأولى في الحياة والأدب، حتى الإعلان عن مشارفة التجربة على النهاية.
نعم ، النهاية الممتلئة حدّ النضج والانفجار الباعث على الإشعاعات المنعكسة عنه في مرايا حدائق وجوه وأقنعة لا حصر لتنوعها وغناها. إنه امتداد لكتبه السردية والنقدية السابقة وتجاوز لها، في آن معا.
ومحمد خضير يقول في حوار له مع عدنان الهلالي "إن الكاتب يؤلف عددًا محدودًا من الكتب، فهو ليس معملا لتفريخ النصوص اللاإرادية. بالنسبة لي أحاول التحكم بإرادتي لصنع عدد محدود من الكتب. جيناتي السردية تقول لي ذلك. الرياح الجافة والحرارة العالية تشيرإلى ذلك أيضا. مناخنا صحراوي معاد لإنتاج الحدائق السردية اليانعة." (عدنان الهلالي، تأمل اللوحة، حوارات، الشؤون الثقافية، بغداد 2021 ، ص 9)
ومع أن الكتاب لا يبدأ من فراغ ولا من الصمت الذي يسبقه، فإن معاينة الكاتب لوجوه أصحابه البستانيين تبدأ دائما من نقطة البدء الخاصة بكيفية اتصالهم باللغة والأشياء من حولهم، ثم لانتقال من مشاركتهم القناع والمنزلة بين المنزلتين إلى رؤية الهوة المتفردة التي انتهى إليها كل واحد منهم.
وهو يذكر في مقدمته على الكتاب أنه اختار نظام الحدائق لبساطة برهانه وتناسق مكوناته وجمال فضائه. إنه تنويع جديد على موضوع قديم، واشتغال عربي وشرقي أزحتُ عنه أدغال النسيان، واستعرتُ أقنعة البستانيّين العظام للاستدلال على بواطنه وأسراره.
وإذا استثنينا القناع الموضوع على وجوه هؤلاء البستانيين باعتباره استعارة مركزية تغطي كامل النص، يظل الكتاب ذا بنية شاملة تتسع لكل الأنواع السردية، ولا تخضع لقواعد أو شروط نقدية محددة. وهو، كما الرواية، بناء منفتح وقابل لدخول أنواع سردية مختلفة مثل البورتريه والقصة القصيرة والحكاية والقصيدة الشعرية، كما التقرير والأسطورة والسيرة الذاتية والغيرية المزدوجة؛ حيث يقتضي وجود القناع وجود الوجه الذي ينفتح تحته على احتمالات متعددة، تكشف عن الهوية الفردية للمؤلف في نفس الوقت الذي تشير فيه إلى غيرها. فالوجه، كما يشير علماء النفس، هو (مرآة الآخر)، التي تختزن الوعي الجمعي. وكارل يونغ يشير إلى أن القناع لا يمثل خلاصة التجارب الشخصية، أو ما يعرف باللاوعي الفردي المختزن فحسب، بل هو أيضا حصيلةُ التجارب الجمعية من ثقافة وأساطير وحكايات شعبية.
لقد تناول محمد خضير في هذا الكتاب، كما قلنا، تجربته الخاصة في قراءة وتمثّل كتاب شرقيين وغربيين مختارين: عرب وفرس وهنود وأوربيين، ومن أمريكا اللاتينية، يجمعهم ويؤلف بينهم جميعًا نزوعُهم نحو تجاوز شكل الخطابات الأدبية والبلاغية المألوفة؛ حيث تتجاور الرومانسية مع الحلم، ويتفاعل التاريخ السيري الشخصي مع الغيري، والخيالي مع الواقعي، والفلسفي المادي مع الروحي التصوفي، في إطار قصصي وحكائي، تجسد فيه حدائق الوجوه الظاهرة والمقنعة بالرموز حقائقَ الوجود منذ بداياته السعيدة الأولى المندهشة في ذاكرة المؤلف، والتائهة في (حديقة العالم)، والمتلبثة خلال مرورها في حديقة السارد الوسطى بأعمارها "المتسارعة"، حتى نهاياتها المرتعشة المحشورة مع "الضيوف في خان العالم".
والعاطفة المعتّقة والمعمّقة التي كتب فيها محمد خضير عن هؤلاء الكتاب أو عن جوانب محددة من نصوصهم، تبعث دائما على الإحساس بالسمو والتعالي الروحي الذي يدفع إلى رؤية الأشياء في الواقع بطريقة أخرى بعد توجيهها ومزجها برؤية الكاتب الوجودية، وإلهامه الخلّاق كبستاني باحث عن الجذور ومتذوق للغريب من الثمار.
وهي، في صورة من صورها (الخاصة بالثقافة والديانات الهندية، مثلا)، نوع من الخروج على النزعة المادية المهيمنة ومعارضة للآلية التقنية الحديثة التي باعدتْ بين البشر وطبيعتهم الإنسانية المتحررة من الإلزامات التي صنعت ألوان الاغتراب الروحي والمادي في الحياة المعاصرة.
ولكي لا يضيع وجهُ السارد ويختفي تحت ثقل الاستعارات والأقنعة التي اعتاد على وضعها فوق وجهه ووجوه أصحابه المنتجبين من الكتاب والشعراء، عمد كما أسلفنا، إلى وضع مسافة بينه وبينهم في ختام حديثه عن كل واحد منهم؛ مسافة التأويل والتمثيل المجسدة في قصة أو حكاية من حكايات الكاتب التي تتصل بالموضوع الذي يسبقها، أوتنفصل عنه لتقيم، على طريقتها، رؤيتها السردية الخاصة غير البعيدة في ملامحها عن ملامح حديقة الوجه الذي يسبقها. وهو ما يعني أن حدائق الوجوه ليست مكانًا لرؤية أزهار وأشجار وآراء جديدة، وإنما أيضًا مكانًا للتفاعل بين الذاتي الخاص والآخر الخاص والعام في عالم الأدب والشعر.
- تركيب ثقافي
ومن المهم الإشارة أيضًا إلى أن العالم بالنسبة إلى محمد خضير في علاقته المنهجية بهؤلاء الكتاب عبارة عن (تركيب ثقافي) خاص، من الممكن أن يُرى ويدرس بمعزل عن بنيته (التحتية) ذات العلاقة بالاقتصاد والاجتماع والسياسية والحدود الجغرافية، وعلم النفس، ما دام الكاتب يرى نفسه قادرا على امتخاض الزبدة واستخلاص الموقف الذي ينطوي على شيء من القيم والرؤى الإنسانية الشاملة، وتجميع "شتات الأرواح الموزعة على أقاليم العالم"، مهما اختلفت ألوان وجوه أصحابها وأزمانهم وتنوعت سردياتهم ومواقعهم على الطريق الذي اختطته الخرائط المحددة بدقة في حدائق الكتاب. وذلك يحدث دون السماح للتفاصيل المرجعية الهامشية بانتهاك الخط السردي العام، أوتشويه النقاء المتصل بالذرى الروحية المنشودة في الكتابة التي تمثل فعل حياة وإثباتًا لوجود في علاقتها الجوهرية مع نفسها ومع الآخر.
وفي حوار الطبيعة والثقافة تنتصر الأخيرة في خطاب محمد خضير السردي أو أنها تتكلم في الكتاب عن هذه الطبيعة بألسنة يتكفل بها شهود آخرون. وهي، إذا تخلينا عن الصورة الرومانسية في علاقتنا معها، عالم مصنوع من المعطيات الموضوعية المستقلة عن إرادة الكاتب، في حين يبدو عالم الثقافة هو الذاكرة والمركز الذي تعكسه مرايا حدائق الآخرين وأقنعتهم التي يهيم الكاتب بين وجوهها.
ومع أن محمد خضير كتب أشياء يسيرة عن سيرته الذاتية، فمن الممكن القول إنه بلا سيرة، فهو يعيش ليقرأ ويكتب، وهذا هو كلُّ شيء.
ونحن هنا أمام تجربة متفاعلة ومتطلعة وذات جوهر روحي متموج، أكثر منا أمام معرفة مؤكدة ونهائية. وما وضعه المؤلف من فصول هذه السيرة في هذا الكتاب لا يزيد في الواقع على أمشاج وشظايا لا تشكل عنوانا لبيوغرافيا أو حياة كاملة تعنى بالتاريخ وتفاصيل الحياة اليومية بقدر عنايتها بآراء وأفكار وأخيلة متفرقة عن الحياة الموت. مجرد نوع من الحساب المختزل في محطات ووقائع متباعدة زمانًا ومكانًا في إطار الفضاء الجغرافي الذي يشكل مراحل من تشكُّل الوعي والاستعداد لليقظة الوجودية الشاملة لذلك الوعي في محطات نزولها أو توقفها الأساسية. بمعنى أن سرديات الكتاب لا تفحص الواقع القائم، بل الوجود الظاهر، والمرصود من خلال المتوفر من الكتابات السردية المخصوصة في كليته الشاملة.
وهذا الوجود لا يمثل ما جرى ويجري في الماضي والحاضر في الزمن التقليدي، بل هو حقل الأفعال الداخلية، كل ما يمكن للإنسان أن يصيره، وكل ما هو قادر على فعله في إطار الرؤية والإمكانات الإنسانية غير المتاحة في غير هذا الذي يقدمه من يسميهم "البستانيين الكبار" من أفكار وثمار عبر تجاربهم السردية والشعرية المختلفة زمانًا ومكانًا.
وقد دأب الكاتب في مجمل تجربته السردية، كما نعلم، على تفضيل ما تحسّ به عينُ خياله على ما تراه عينه الواقعية. وحدائق الوجوه تعبير وكشف عن الحياة الباطنية في صورتها الاستعارية والرمزية المعبرة. وحين تذيب ذاتُ الكاتب نفسَها على هذا النحو في عملية التأمل المستمرة في مرآة وجوه كتابه المفضلين من الذين يقرأ نماذج مخصوصة من نصوصهم، ويعيد تركيب رؤاهم، فلا يحدث ذلك فقط من أجل إعادة خلقهم وتأويلهم بطريقته الخاصة فحسب، وإنما أيضًا من أجل رؤية سلطانه عليهم، والتمتع بتفسيراته لهم على الرغم من أن وجودهم إلى جانبه لا يأتي إلا من خلال الإحساس المؤلم بالمصير المنقوص، المصير المعلق على غصن شجرة الخيال الخضراء التي سرعان ما تصفرّ أوراقها وتتساقط بعد أن تمسّها النار الواقعية وتحولها إلى هشيم تذروه الرياح.
ومحاولة الكاتب السردية المعقدة الاحتفظَ بملامح وجهه واضحة بين وجوههم لا تخلو من صعوبة، ولكنها تنجح في ألا تفقد سماتها أو تضيع وسط أقنعة وجوه كتّابه، بحيث إن رحلته معهم تشبه رحلة أبي العلاء في رسالة الغفران نحو خان العالم الآخر. وليكون حديثه معهم أو عنهم حديثَ العرّاف الحالم الذي يتخلّى عن التفاصيل الواقعية التي تلتقطها العين الباصرة، القاصرة لصالح الرؤيا التي تقودها روح المخيلة والبصيرة النافذة. والهدف النهائي يبقى متصلًا بمحاولة بناء الذات والبرهنة على قدرتها غير المحدودة على الارتفاع عن الوقائع السردية العابرة.
وبناء هذه الذات يتطلب من السارد، كما رأينا وجود (أنا) أخرى، أو ذات ثانية، وأقران من الشعراء والمفكرين والساردين المميزين يعمل التفاعل مع خبراتهم المشابهة والمختلفة في الحياة والأدب، وثمار حدائقهم النيئة والناضجة على إغناء خبرته، وتجديد الدماء في عروق جسده وتغيير ملامح وجهه من الداخل.
والسؤال هو:
- هل كان محمد خضير يبحث في هذه الأقنعة والوجوه التي تقبع تحتها عن بديل لذاته أو وجه آخر غير وجهه ..؟
وهل ينطبق عليه كمثقف ما يمكن أن يقال عن غيره من أنه لا يستطيع أن يمثل نفسه، وأنه يحتاج إلى من يمثله ..؟
أم أن الأمر، على العكس من ذلك، يتصل برغبة الكاتب في الخروج من جلده لرؤية الحياة داخل جلود ووجوه أخرى سجلت شهادتها على ما رأت وخبرت في هذه الحياة الدنيا، وفي رحلتها السردية المختلفة زمانًا ومكانا عن رحلة القاص نفسه..؟
-وهل ينتهي البحث عن الذات المفردة إلى غير القول ب(الذات عينها كآخر)، حسب طريقة بول ريكور، أي عدم قدرة هذه الذات على معرفة ذاتها وتحديد هويتها دون وجود هذا الآخر. أعني ذلك الذي يدفع إلى مزيد من الوعي بالذات، وإلى مزيد من الإحساس بالتغاير والشعور بالاختلاف وصولًا إلى الاستقلال. واللغة التي يقول عنها هولدرلين بأنها أخطر النعم هي وسيلة محمد خضير، كما كانت من قبله وسيلة أبي العلاء، للخروج من عزلته، والنعمة التي يتغلب بواسطتها على إحساسه المعتّق بوحشة الوجود من حوله. فهو ليس وحيدًا ما دام قادرًا على الكلام. الكلام الذي يرى في مراياه وتحت أقنعته وجوهَ أصحابه البستانيين الكبار من صانعي نعمة اللغة وقاطفي ثمارها النادرة.
والكتاب لا يسمح لقارئه قراءة كاتبه من خلال سيرته قراءة نفسية خارج إطار الصورة التي ترى بأن العمل الأدبي جملة معقدة من الأدلة تحيل إلى وضع نفسي سابق، وتلعب دورا تصعيديًا يدفع الرغبة المكبوتة للتعبير عن ذاتها، وأيضًا خارج إطار الصورة التي تمثل عند فرويد (قناعًا) وثوبًا للتنكر يلبسه اللوبيدو الخاضع للكبت. (أنظر، بهذا الصدد، دانييل برجيز، النقد الموضوعاتي، ضمن كتاب مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ت رضوان ظاظا، عالم المعرفة ، ص 129)
إنها، بكلمة أخرى، سيرة ناقصة، لا يمكن استكمال رؤية ملامح وجه صاحبها عن طريق رؤية حدائق الوجوه التي رأى نفسه في مراياها، وإنما أيضًا عن طريق المرور على كل خرائط الطريق الذي رسمته أعماله السردية والنقدية الأخرى. ونحن نتذكر الكيفية التي تحدث فيها إداورد سعيد عن سيرة جوزيف كونرادالذاتية باعتبارها "سيرة خرافية" كان الكاتب مضطرًا إلى استكمالها عن طريق بعض الروايات والقصص التي كتبها كونراد، قائلا "إن صورة الذات التي يرسمها الكاتب، واعيًا أو غير واعٍ، لا تبرز ولا تتضح معالمها إلا من خلال المقابلة بينها وبينما يختلف عنها، بل ما يبدو معارضًا لها، مستفيدا بذلك مما قالت به سيمون دي بوڤوار عن التعارض الثنائي بين الذات والآخر، وبما أتى به البنيويون عن الثنائيات المتعارضة" (أنظر تصدير محمد عناني لترجمته لكتاب إداوارد سعيد الاستشراق، ص 21- 22 ).
- حدائق الوجوه وحدائق الموت
ولست أدري لماذا يخامرني شعور، بعد قراءة (حدائق الوجوه) قراءة ثانية، بأنني أمام كتابٍ عن (الموت)، وأن المؤلف الذي يؤسس لذاته من خلال علاقاته يواجه قدره في النهاية وحيدا وهو يسجل سيرته الذاتية والثقافية والوجودية بهذه الطريقة؛ وكأن مجمل هدفه للقاء مع الآخر والوجود المحيط هو أن يلتقي بذاته، وفي سبيل ذلك يجعل من بعض بستانيي العالم الكبار من الذين يتلبس أقنعتهم وسطاء وشهودا على ذاته. وحين يقرأ طاغور أو المعري، على سبيل المثال، فإن محمد خضير، وليس طاغور أو المعري من يفكر بهما ويقوم بعملية تأويل لحسابه الخاص يعيد من خلاله إنتاج ما يختاره من نصوصهما. وهو لا يكتفي في تواصله مع الآخرين برؤية المآلات الخاصة التي تنتهي إليها نصوصهم لتتجسد في وعيه وتصبح جزءا من جسده وتجربته الروحية، وإنما هو يرى بطريقة ما في غيابه وموته الخاص غيابَ أصحابها وموتهم. وسيشكل هذا (الموت) هاجسا خفيا وعلامة شاخصة لا يمكن التستر عليها في مجمل عملية السرد التي تمثل إعادة اكتشاف معنى حياة خاصة انتظمت مع حيوات أخرى وتشابكت معها انطلاقا من وعيها بذاتها ومحدودية خياراتها. وعملية الإبداع التي تتم هكذا عن طريق الذات وبواسطة الآخر تنتهي عند التركيز على معاينة بذرة الموت وجرثومته التي ما زالت تنمو لتصل إلى قمة نضجها في حديقة الحصاد الأخير، أو ما يستعير له المؤلف تسمية (خان العالم) أو مقبرته التي تضم الأفكار والرؤى إلى جانب الأجساد المتحللة لأصحابها.
والانتقال المتدرج في فصول الكتاب من حديقة العالم، وحديقة الأعمار المتسارعة، وصولا إلى المرحلة الأخيرة التي تنتهي بالاستقرار مع الضيوف في خان العالم، يشبه، على نحو ما، الانتقالَ أو النزول المتدرج لبطل قصة الإيطالي دينو بوزاتي (الطوابق السبعة) إلى الطابق الأخير، من ناحية تمثيلها الحياةَ الإنسانية في جانبها المأساوي تمثيلا إلغوريا، يهدف إلى إيصال رسالة عن الزمن المتسارع نحو النهاية الوشيكة، حيث "الكسل" الغريب الذي يشلّ الجسد، وحيث المشهد الأخير الذي يرى فيه بطل تلك القصة جيوفاني كورتي، بعد رحلة العلاج الطويلة التي ابتدأت بالطابق الأعلى السابع من طوابق المشفى الذي دخله بسبب حمى بسيطة، وانتهت به إلى هذا الطابق الأخير، ليشهد مستغربا صورة المشهد الختامي حيث "الستائرَ الفينيسية، منصاعةً إلى أمر مبهم، تنسدل ببطء، حاجبةً عنه الضوء"، واضعة القفل ونقطة الختم الحمراء على نهاية الرحلة.
والقلق الوجودي المحدق، والزمن الهارب، وصعوبة الشرط الإنساني وعبثيته، وسخريات الواقع ومفارقاته، هي العوامل المشتركة التي نراها تجمع، من بعض الزوايا، بين قصتي الكاتبين وحكاياتهما الرمزية المقنّعة بأشكال وصور مختلفة، في إطار الأزمة الوجودية الشاملة التي تأخذ بخناق الكاتبين وتطفف عليهما الشعور المريح بقبول الحياة كما هي، والمرور دون طرح مثل هذه الأسئلة المؤرقة، على طريقة من كان جان بول سارتر يدعوهم بالأنذال coquins الذين يتقبلون حياتهم وموتهم بصمت الحيوانات وطريقتها البعيدة عن الإحساس بالوعي الشقي.
ولنتذكر أن عدد حدائق وجوه محمد خضير سبع، وأن كل حديقة من حدائقه تمثل سبع نزهات بقدر الطوابق السبعة في قصة بوزاتي. وأن الأطباء الذين رافقوا بطل قصة الإيطالي بوزاتي في رحلة حياته المرضية هم المقابل للوجوه والأقنعة والذوات البشرية المستعارة في رحلة المؤلف العراقي. علمًا بأن كلّ هذا يمكن أن يكون مجرد لقاء تدفع إليه ظروف إنسانية وفكرية ونفسية متشابهة أكثر من كونه تأثرًا وتأثيرًا أو تناصا من أي نوع، على الرغم مما رأيناه في الكتاب من روح حوار مع الآخر، ومن تركيب في المعنى.
والموت الذي قلنا إنه نضج الثمرة، أو أبرز "الأحداث الوشيكة" بتعبير هيدجر، "ما أن نولد حتى نكون عجائز بما يكفي للموت"، هو الذي يهيمن مثل ظل معتم على كامل المشهد في الحدائق أو عنكبوت يلتصق بجذور أشجارها، على نحو يكفي أن يجعل من وجودنا مع الآخر، وسيرورتنا المشتركة نحو خان العالم "وجودًا نحو الموت".
- حدائق وجوه قصيدة السياب
ومحمد خضير الذي يستعير عنوان (حدائق الوجوه) هذا من قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب، وهو يقف في أيامه الأخيرة (أمام باب الله)، لا يخلو، في مجمل موقفه، من روح ديني يبدو فيه الكاتب أقربَ إلى صورة الزاهد الذي شبع من الحياة منه إلى صورة المتصوف الذي يريد الارتقاء في الأحوال والمقامات، أو الكشف والعيان، وما يتصل بهذه المصطلحات من هواجس وعقائد وأساطير وممارسات تتلون بلون الدين وتلتف بعباءته.
وما نراه على مدى النظر في هذه الحدائق ليس الطبيعة بأشجارها وثمارها، بل معنى الحياة والوضع الإنساني وصوره المعروضة على شاشة الوعي بوجوه أصحابه الصريحة والمقنعة مثل شريط سينمائي. وإحساس الكاتب بوجود ذنب لا وجه محددا له عنده يشبه أيضا ما كان السياب يشعر به في مرضه الأخير، مع أن تأثيره عند محمد خضير لا يقود إلى اليأس أو الاستسلام والضعف، بل إلى تعزيز الثقة بالنفس عن طريق مزيد من الاستيعاب وغزارة الفهم والمعرفة بعلامات الطريق وصواه الملغزة في تشابك حدائق الوجوه وفي حاضر الحياة وماضيها. غير أن عين السياب "التعبى" التي لا تختلف عن عيون أهل المدينة في المومس العمياء، تظل مثل عين محمد خضير "تفتش عن خيال في سواها" لأنه يعرف، فيما يبدو، بأن ابنَ بصرته العظيم الذي نفض في عمر مبكر يديه من "تراب حقله الحصيد"، كان يقصده حين قال: هناك "سواي زارعون، وسواي حاصدون" آخرون سيأتون من بعده، وأن هذا الحقل سيزدهر بثمار مملكته السوداء على يدي خليفته وابن مدينته البستاني الخبير بالزمن وتبدل الفصول، قبل أن يصل هو نفسه بدوره إلى مثل هذه النهاية، التي يقول عندها في ختام مقدمته على الحدائق إنه:
"قد لا يكون البستاني الأخير في حدائق الوجود، فلو عرفت وراء أيّ قناع أختفي قبل أن أغادر إلى خان العالم، فإني سأجهل لمن أخلف هذا القناع".
وفي هذا، كما نرى، اعتراف من نوع ما بالوصول إلى مركز الرؤية واكتمالها، وإعلان عن الانتهاء إلى نوع من الرضا والمصالحة مع النفس؛ مع ما يخالط ألوان اللوحة المركبة فيها من شعور أسيف، ومن وجود نقاط رمادية وسماء متكدرة يمتد أفقها المفتوح على اللانهاية.
ولئن جهل صاحب حديقة الأعمار الوسطى، لمن سيخلف هذا القناع، فلأن وارثيه من الزرّاع وحدائقي السرد الحاصدين من سنابله الممتلئة، والمتذوقين لثمار حكاياته وقصصه سيكونون عديدين، وليس واحدا، سواء أكانوا من بصرة الجاحظ والسياب والبركان ومحمود عبد الوهاب أو غيرهم من الراحلين أو الذين ما زالوا أحياء يرزقون. وهم قادرون، في بداية الرحلة، أو نهايتها، على أن يرددوا معه بقناع وبدون قناع نداءَ الشاعر المفتون والممتحن، الذي يمثل، كما يقول الكاتب "الرابط المشترك بين الحداثة الشعرية والحداثة السردية" وصاحب النداء الذي ينطلق من الأعماق نحو مفجّر الجمال، أو الروح الغامض الملابِس للأشياء والكامن في كلّ ثنية من ثنايا الوجود:
"إليك يا مفجّرَ الجمال، تائهون
نحن نهيم في "حدائق الوجوه"!
***
الدكتور ضياء خضير

في المثقف اليوم