قراءات نقدية

عبد النبي بزاز: النَّفَس الشعري ومظاهر الاختلاف في قصص "طيور وذئاب"

تتميز قصص " طيور وذئاب " القصيرة جدا للقاص المغربي محمد بوشيخة، وهي مجموعة الكاتب الثانية بعد  مجموعة "أجساد فقط" الصادرة سنة 2013 من نوع القصة القصيرة جدا، بميزة التكثيف والاختزال المشروط باقتصاد لغوي، قد يصل إلى حد التقتير، مخترق بجمالية تعبيرية بلاغية تخلع عليه مسحة شعرية متولدة عن نزعة التكثيف، ويتجسد ذلك على مستوى الحجم في العديد من النصوص خصوصا تلك الموسومة ب (متواليات قصصية قصيرة جد جدا)، والتي يختتم بها مدونته السردية، مما يرهص ويؤشر على قصدية الإيجاز والاقتضاب الصادر عن رؤية إبداعية  تتغيا خلق توهج تعبيري ودلالي يؤسس لإواليات ضرب من ضروب كتابة تنحت خصوصيات وميزات أسلوب منزاح عن النمطية المتبعة  والنمذجة الشائعة، وهو ما يطالعنا انطلاقا من النص الأول (أقفال صدئة) حيث نقرأ: " اُرسمْ صورتك في لوحة الامتداد، واغْلِقْ فجوات ذاكرتك بألوان قوس قزح. "  15، حيث تنتأ معالم نَفَس شعري تغدو معه للامتداد لوحة تحتضن صورة منفتحة ومفتوحة على شتى الأبعاد، ومختلف التأويلات. والدعوة لرأب صدع ما يعتري الذاكرة من فجوات بألوان قوس قزح وما ترمز إليه من دلالات غزيرة المعاني والدلالات؛ وفي قصة " ألم ": " تعتقلني هواجس الدم في بحر القرابة... "  17، برسم صورة، لا تخلو من شعرية، تحدد معالم الهوية بانتساب قائم على عنصر الدم والقرابة في صياغة مجازية تجيز فعل الاعتقال لهواجس الدم، وتُغْرِق معنى القرابة في يم لا محدود الضفاف. وقصة " انفصام " المتضمنة لمسوح جمالية وبلاغية: " أنا غصن تَفتَّق  من ذاكرة مثقوبة !" ص 21، وما تزخر به العبارة من تشبيه دال وعميق، للمتكلم بالغصن، والذاكرة بالمثقوبة، وما فتئ الجانب الشعري يحفر مجاري عدة، وقنوات متنوعة داخل متن القصيصات في التوسل بعناصر بلاغية كالطباق في: " تجرجرني نفسي بين حكاية قديمة وميلاد جديد... " ص21،  بين قديمة / جديد، وتقدم / تأخره، والأصدقاء / الأعداء في نص " عبث ": " قِفْ  مكانك... َتقَدَّمْ، تأخَّرْ... فالأصدقاء والأعداء متضامنون... " ص 51، وجناس كما في: " المرآة امرأة... " ص 25، وفي: " تنبش وتنبش وتنبش... " ص  41، وصِيَغ مجازية كما في قصة " ملاذ ": " لشرب كأس الضياع والخسران. " ص43، بخلق صيغة موسومة بالاختلاف في تجرع الضياع والخسران من كأس، والتطهر من ليالي السكر، وعقاقير الإدمان: " بعد أن اغتسل من ليالي السكر وعقاقير الإدمان. " ص 45، وكلها أساليب وصِيَغ تختزل عبارات مجازية ذات حمولات أكثر غنى وإيحاء. وإلى جانب الاستخدام المجازي والبلاغي تضمنت قصيصات الأضمومة  تيمات عديدة ؛ منها ماهو ديني: " البيت خال إلا منهما، وبعض الشياطين المتواطئة، وربما في إحدى الزوايا ملائكة ضعاف (محتجبة). " ص 33، وهو اقتباس مُحَوَّر من قصص القرآن ومعجمه (الشياطين، ملائكة)، وفي اختلاء زليخا امرأة العزيز بالنبي يوسف: " البيت خال إلا منهما... " ص 33، وما طرأ من تغيير على صفة الملائكة في سورة " التحريم " حيث  تم تحوير (عليها ملائكة غلاظ شداد) إلى (ملائكة ضعاف)، واستعمال لفظي الحوقلة والتسبيح: " يحوقل ثم يسبحل... " ص 63، وشاهد ومشهود من سورة " البروج ": " بعيدا عن عيون الشاهد والمشهود ! " ص 73، ولفظ الجنة المذكور في العديد من الآيات القرآنية: " تفتح أبواب الجنة للزيارة... " ص 75، كما ورد ذكر الخالق،ارتباطا بالجانب الديني، في نصوص المجموعة، وفي سياقات مختلفة، مثل: " فعين الله ترعاني... ولا رضى  يعلو فوق رضى الله ! " ص 29، وفي نص " رعاية ": " لأن رعاية الله تحمي الحالمين مثلي. " ص 65. وما هو اجتماعي كما تلخصه قصيصة " جناية "، والتي توحي تفاصيلها إلى ما تعرضت له الخادمة الصغيرة من اغتصاب اقترفه ابن العائلة المُشَغِّلة آل إلى افتضاض بكارتها: " حصل المكروه، ودَّعتْ بكارتها... " ص 33، حدث مأساوي فاقم  من معاناتها، وكرس حيفا سافرا زكاه القضاء بحكم جائر أعادها لبيت الأسرة التي كانت تشتغل لديها لإكمال فصول جريرة تختزل عناصر الظلم والضيم: " القاضي دارس وتدارس، شاور وتشاور. يحكم بعد تريث طويل جدا بعقوبة رد الجانية لتشتغل في بيت الضحية... " ص33، فتنعكس الآية، وتقلب موازينها لتتحول الضحية إلى جانية، والجاني إلى ضحية ! كما لجأ القاص إلى  استعمال مغاير في نسق التعبير مثل ما حصل في فعل " تُفَسْبِكُ "  المشتق من (فيسبوك) كأحد عناصر التواصل الاجتماعي الذي أفرزته التكنولوجيا الحديثة، وأيضا تُغَرِّد من تغريدة وكلها تندرج ضمن قاموس هذه الوسائل التكنولوجية التي تحكم وتتحكم في شبكة علائقية تجمع العديد من الرواد عبر إيقاع تواصل متعدد المسلكيات والآليات: " ثم تُغَرِّد وتُفَسْبِك... " ص53، وفي نص " اللعنة " حيث  ورد: " فينظر إلى نفسه بنفسه. " ص 81، وهو ما يعكس ردم الهوة بين الشخص وذاته لإرساء أسس تواصل حميمي يتجاوز كل الأشكال المعروفة الرهينة بتحديد العلاقة مع الذات. وتم توظيف الكاتب للحروف بشكل متناغم ومتجانس ببعد دلالي يعتمد الإشارة والتلميح في تقسيم اسم " فراس " إلى أربع قصيصات معنونة بالفاء، والراء، والألف ثم السين (ص89)، وكلمة " مرض " بثلاث عناوين: ميم، راء وضاد (ص91)، وهي أشكال محدثة  تسهم في خلق قصيصات تشذ عن نمطية السرد الموجز، وتنعتق من ربقة قوالبه.

لنخلص أخيرا إلى أن الباحث الأدبي والتربوي الأديب والقاص محمد بوشيخة أبدع، منوعا ومجددا، في مجموعتيه القصصيتين (قصص قصيرة جدا): " أجساد فقط "، و" طيور وذئاب " التي رسم فيها خطا سرديا متشبعا بدفق شعري، ومجازية لغوية أرست وأسست لنمط سردي (قص موجز) ذي أبعاد مغايرة، ومعالم مختلفة.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.......................

*  طيور وذئاب (قصص قصيرة جدا) لمحمد بوشيخة، أكادير 2024.SO- ME PRINT ــ مطبعة

 

في المثقف اليوم