قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية: (حياة الكاتب السرية) لغيوم ميسو

بيئة المؤلف وجدلية الموقف المغاير، الفصل الأول - المبحث (4)

توطئة: لعل من أكثر علامات رواية (حياة الكاتب السرية) تلك التي تتصل على نمطية اللحظات الشعورية الخاصة من لدن طبيعة الوقائع الشخوصية المرتبطة بجغرافيا متفاعلة وهوية المماثلة السردية التي تشكل بذاتها ذلك الأفق الانتظاري المحموم بصيغة (الاستدعاء المطرد) أو ذلك الولوج في نمو الحلقات الوحداتية في طيات النسيج الاسترسالي من حقيقة الحوادث العارضة . يأتينا مثل هذا الحدث العارض بما يتعلق وقدوم الشخصية ماتيلد موني وهي تعبر الغابة الممتدة قاصدة منزل الكاتب ناثان فاولز، بحكم كونها من عثرت على كلبه برونكو الذي راح في مقعد السيارة الخلفي يراقب حركة سير السيارة التي تقودها الشخصية ماتيلد موني وكل أملها إنها سوف تقضي أمسية لطيفة مع ذلك الكاتب الملغز بعد سعادته بعودة كلبه برونكو .

- تجسيد الحوار المنزلق في وحدات مأزومية الشخصية:

١- الفضاء المكاني ومؤطرات الزمن السكوني:

لقد ميز جيرار جينيت بين (زمن القصة -زمن الخطاب) وبحث في ضروب التطابق والاختلاف بينهما من خلال مقولتي (النظام = الديمومة) وسوف نحاول بدورنا من خلال عرض بعض من وحدات السرد، إلى الكشف عن زمن معطيات الاحداث الماضية في ذاكرة الشخصية ناثان فاولز حول مسألة خداعه من قبل الصحافة، عندما يكون دخولهم مع فاولز دخوﻻ ﻻ يعكس أية خلاصة إعلامية، فهو بدوره كان متوجسا من مجيء الصحافية ماتيلد موني مما استدعى أمر قدومها في دواخل فاولز أشبه ما يكون بالخيبة أو الحيطة أو حلول أوان مواجهة خصما ما، لذا كان الزمن المعطى ما بين الأثنين وثالثهم الكلب، شبه محفوفا بكلمات متطايرة أو منزلقة في صورة ذلك المؤلف المأزوم: (كان ناثان متكئا على عكازه، فطار فرحا بعودة رفيقه . تقدمت ماتيلد نحوه . كانت قد تخيلت الكاتب أشبه برجل الكهف أو قل أشبه بعجوز بربري وفض،شعره طويل، يرتدي ملابس بالية، وقد أرخى لحيته حتى بلغ طولها عشرين سنتيمترا. /ص62 الرواية) على ما يبدو ظاهرا أن الشخصية ماتيلد موني لم تصادف فاولز سابقا، ولكنها ضمن مؤشر حواري تكشف للشخصية فاولز بأنهما قد ألتقيا سابقا . بمعنى أن حقيقة التصور لدى ماتيلد كان بناء على مجرد سماع أخبار سيئة حول عزلة فاولز خلف حجب جدران قلعته المهيبة، إذن التشكيل التصوري لدى مخيلة الشخصية هو عبارة عن مستويات شكوكية وظنية في الآن نفسه، وعندما تتاح لها رؤية فاولز وهو يحمل ذلك المظهر الجذاب من الأناقة والرجولة والوسامة الظاهرة: (كان يرتدي قميص بولو من الكتان لونه أزرق سماوي مثل عينيه) لعل النقاط الحدودية بين الشخصيتين تتجسد في حوارية مقتضبة تدعو إلى الإحساس المباشر بأن فاولز كان يتحين الفرصة لذهاب ماتيلد موني، رغم إنها كانت لطيفة وجذابة في موضع فتنتها، الأمر الذي كان يشعر بمداه على وجدانه فاولز نفسه رويداً رويداً، غير أن مأزومية فاولز كانت من الحجب والتفارق الحسي، مما جعله يحصِ اللحظات الساقطة عليه من خلال فجوات ذلك اللقاء: (اشارت ماتيلد موني إلى العكاز والكاحل المجبر: - آمل ألا تكون الإصابة خطيرة جداً ؟ نفى فاولز بحركة من رأسه: - غداً ستصبح مجرد ذكرى سيئة ؟ ترددت قليلا، ثم قالت له: - أنت لم تعد تذكر ربما،لكن سبق أن التقينا ؟ . اشارة كلماتها الريبة في نفسه، فتراجع خطوة إلى الوراء ورد: - لا اعتقد ذلك.؟: - بلى، منذ وقت طويل ؟. / ص62 .ص63 الرواية) من خلال بعض ردود كلمات المحاورة نفهم عدم التفاعل الحواري ما بين الشخصيتين، ما يثبت لدينا بأن في تصورات فاولز الماضية إكراهات ورفضية قاطعة،فهو ذلك الرجل الذي يتوهم نسيانه للماضي، رغم أنه دلاليا محفوفا بآثاره التي سوف يتم التعرف عليها في حينها، وبعد مرحلة قصيرة من تلك المحاورة توجس فاولز في نفسه بأنه من الأكيد عليه وضع حدودا لكل تلك الأسئلة التي قامت الشخصية ماتيلد بأثارتها في نفسه: (تدين لي بحسب الاعلان بمكافأة قدرها ألف يورو، لكنني اعتقد أنني سأكتفي بكوب شاي مثلج، قالت ماتيلد مبتسمة ./ص63 الرواية) يتجلى انفتاح النص عبر وحداته من خلال مواصفات حوارية - خطية الحكي، تحمل البناء النصي تصاعدا هو من الخصوصية والاستثناء ما جعل من ترهين مادة المحاورة وتقدمها كحالة تحليلية في ضرورة الإعادة والترتيب والمنظور السردي . أي بمعنى أن آليات الحوار تنقب في الأزمنة القديمة مما يجعل فاولز بذاتية مشحونة بروح الصدمة والتوتر والتخييل، فهو -أي فاولز - رغم سخطه الداخلي الرافض لهذه الفتاة، إلا أنه من جهة خاصة راحت مخيلته تتنعم بآثار أنوثة ماتيلد على نفسه، وكان هو يدرك هذا الأمر بذاته سرا . تكشف لنا الوحدات الصغرى من السرد عن بنيات المكان ومدى دور هذه المؤثثات في نمو عجلة الزمن ومادة الحكي عبر المستويين الداخلي والخارجي .

- الخطية السردية المخاتلة:

١- مخاتلة البنيات: تحوﻻت التداخل الزمني:

و نحن حين نتحدث من خلال هذا الفرع المبحثي عن (المخاتلة السردية)، فإننا نقدمها، ها هنا بمعنيين: الأولى (مخاتلة البنيات ؟) والثانية ب (تحوﻻت التداخل الزمني) وهناك حالة اجرائية أخرى تقتضي بمعنى (وقائعية الثيمات ؟) ويمكننا أن نفهم من خلال (مخاتلة البنيات) ذلك المكون الالتفاتي الذي يتحقق ضمن إمكانية تقويض المكرس من توقعات النص الخطية المباشرة والمعلومة في زمن التلقي المحدود . أما (تحوﻻت التداخل الزمني) فهو تشعب حبكات النص ضمن موجهات زمنية ذات مقاربات متفرقة . فيما تلعب (وقائعية الثيمات ؟) بتنوع ملامح الابعاد في المساحة الصفاتية والفعلية في تفاصيل بناء الأحداث وهذا الأمر ما وجدنا لمثله في مشهد لقاء الشخصية ماتيلد موني عندما طلبت من فاولز تذكر مناسبة ذلك اللقاء الذي جمعهما في الماضي البعيد: (أنت لم تعد تتذكر ربما،لكن سبق أن التقينا./ص62) لقد حاول فاولز من خلال هذه الوحدة الانكارية التملص من تطور العلاقة مع ماتيلد لو كان قد أكد لها بدوره عن صحة وجود مثل هذا اللقاء بينهما سابقا . بهكذا مركب تزداد عملية المخاتلة في متواليات السرد اقترانا بدليل الزمن لدى احساس الشخصية فاولز . كما وهناك عدة احداث تجعلنا نتصور بأن فاولز يرفض مجال التواصل مع ماتيلد، وذلك من خلال نفيه كونه ما يزال كاتبا أو أنه لديه الرغبة في ممارسة الجنس مجددا بعد ذلك التلميح القصدي الذي بادرت به ماتيلد موني الى فاولز: (بيني وبينك، ألا تشتاق إلى ذلك ؟) وبمثل هذا النوع من توافر عنصر المخاتلة التي كان يتبعها الشخصية ناثان فاولز وبمثلها من حاﻻت التفلت عن كونه ترك مهنة الكتابة . غير أن زمن التحول في مساحة الحوار إعادة إلى فاولز هيام جنوحه الذكوري نوعا ما: (تجنب فاولز عيني محاورته الخضراوين، وأوضح لها بفتور بعد أن أصبح عاجزا عن الحركة . / ص 64) .

- تعليق القراءة:

تعتبر آليات زمن القصة في شكلها التناسبي والديمومي في رواية (حياة الكاتب السرية) بمثابة حركتي (الاسراع = الإبطاء)حيث العلاقة بين ديمومة الحدث وطول النص متماثلة،أي أن زمن إيصال احداث الحكاية الروائية للمتلقي هي مساحة زمنية مقدمة من زمن (النص المتطابق) حيث أن سرعة النص هي درجة تناسبية بين الأحداث وعرضها وتكوينها في إطار زمن الخطاب الذي يكاد أن يصل إلى مرحلة التطابق مع زمن الحكاية . وأخيرا يمكننا أن نقول ان عمليات التشخيص لمساحات القراءة النقدية تنصب حول دﻻﻻت (بيئة المؤلف المفترض)وصولا إلى نوازع تلك المواقف الحاصلة من قبل لغز الشخصية ناثان فاولز عبر ممارسة حياته المتباينة والمتخالفة في الأواصر الذاتية والموضوعية الهاربة في إيقاع عزلوي يشي بعشرات الأسئلة المحتملة حول حياته ومصيره ذات الأوجه التفارقية في السياق النصي المفعم بالأسرار والحلقات المفقودة.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

في المثقف اليوم