قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصة (منتظروا قطار السادسة) لفؤاد التكرلي

النص التحتاني والمحايث في السرد القصصي

توطئة: تلعب القابلية الوصفية في متباينات المشهد القصصي في قصة (منتظروا قطار السادسة) للروائي والقاص الأستاذ (فؤاد التكرلي) دورا في عملية التأثيث المشهدي المنقسم إلى مستويين من البناء المظهري - الشكلي في مرسلات الفضاء المكاني المدعوم بعلامات (المقابلة المشهدية ؟) الدالة على خواصية زمنية راحت تمتزج  وحدود دﻻﻻت البنية المضمرة من مساحة (النص التحتاني) والذي يشكل بدوره الظاهرة الأكثر تفاعلا وهوية السارد - الشخصية، على نحو يتلاءم تماما مع حيثيات البؤرة التقابلية بين (منظورين = مشهدين) لتكون تمثيلات النص قادمة بذلك الوازع الفاعل من جهة الشخصية الساردة عن لسان حال موقعها الاستفهامي والجانبي من خيوط إلتباس وادراك حدود المقاربة والاختلاف الزمني والمكاني والعاطفي ما بين كلا الموقفين معا.

- بؤرة التمهيد السردي وتمظهرات أحوال التقابل المشهدي.

لربما تعد تقانة المفارقة من أحدى الكيفيات التقانية التي تستخدمها القصة القصيرة لفتح آفاق اسلوبية مدروسة من طاقة التمايز الانموذجي في حوادث ومفاجأت وإرباكات القارىء والقراءة. كما ومن أهم مميزات أوجه قصة (منتظروا قطار السادسة) كونها تتداخل في متابعة حاﻻت صورة تقابلية ذات دﻻﻻت إطارية في السلوك والتصرف والتمحور عبر انشداد حاﻻت الزمن والمكان والعاطفة الخاطفة ما بين شخصيتان والثالثة هي من تتابع وتقارب وتباعد المستويات ما بينها وبين تلك الشخصيتين المتكونة من الرجل والمرأة وهما في أشد حاﻻت الإيهام ببعضهما البعض، في حين تستذكر الشخصية الثالثة الساردة المفصولة عن مجال العلاقة مع حوارية ومنظور ذلك المشهد والمشاهد التي تحدث من أمامه دون أن تفارقه سمة استحضار مجليات ذلك الحدوث التحتاني من مستوى نظرته وعاطفته الشاحبة: (خيل ألي، كأنهما يودعان أحدهما الأخر. تلبثا، منذ حين، أمام منخفض السكة الحديدية، منتظرين وصول القطار ومنتظرين أن ينتهي لقاؤهما. كنت أقف على مبعدة منهما، غير منتظر أحدا وغير واجد من أودعه. / ص9)ﻻ شك أن عملية تواتر الزمن إلى الزمن بوظيفة الحكي ساردا، تتلاقى مع تفارقية المسافة ما بين الموقفين، فهناك حاﻻت من الإيهام والحب وعدم انتظار فراق الطرفين (الرجل = المرأة) فيما تترك في طرف الجهة الأولى من الشخصية سوى دهشة الاستدعاء لمظاهر البؤس والشرود من جراء عوامل حياتية خاصة به ﻻ تشكل في ذاته سوى غصة كظيمة متعثرة مقابل الانثيال الحادث من تفارقية المستويين من الاحداث: (كانت المرأة في أواخر الثلاثينيات من عمرها وجاوز هو الخمسين. بدا عليهما كأن هذا الفراق هو الأول لهما أو كأنه هو الأخير. تشابكا، كل على طريقته، فأحاطت هي بوسطه وإلتف ذراعه بحنان حول عنقها. /ص9) المستوى المقابل من ذات المستويين، هو ذلك الطرف الذي تنتقل من خلاله جملة نوازع المبثوث الوصفي، لذا فهو بذاته حجما ولونا وترجمانا إلى تشخيص جملة من الأفكار والحركات المؤدية بين ذلك المستوى الآخر من المشهد. لعلنا من خلال كلا المستويين بإمكاننا أن نفصل في كثير من الدقة والعناية، بين (أفق الرؤية - تشخيص حوافز التماثل) لهذا فطالما وجدنا الشخصية الفاعلة أو الساردة تتبنى لذاتها صلات (التراسل = الفقدان = بؤرة الاختلاف) ذلك باعتبار أن الشخصية الأولى أكثر وجودا وحضورا في تبرير حجم الموانع الحلمية وتفارقها في النوع والمستوى والكيفية، فهو بذاته -أي السارد المشارك - يلخص لنا علامات الزمن الخارجي في حدود أداة العلاقة المتمثلة ب (منتظروا قطار السادسة) أي التأشير في الموقف الزمني عبر الأداة اللاﻻ منتهية من إيهامية بالنهاية، إلا ليولد تمثيلاته الخاصة: (غير منتظر أحدا، وغير واجد من اودعه) أي أن حالة الوداع هنا ﻻ تشكل بذاتها مصيرا زمنيا قاطعا، بقدر ما يشكل علامة إشارة ل (النص التحتاني ؟) من مرتكز الباث الفعلي.

1- فتنة الأواصر وحسية الإمكان التصوري:

و لعل فعل المتابعة إلى مشهد الزوجين في محطة القطار ﻻ يخلو من رهان البنية التشاركية بين المستويين. فالشخصية الحاكية تصور لنا جملة تداعيات الرجل والمرأة، في حين ﻻ يترك المجال فارغا إلا في حدود (حسية إمكانية) من استرجاع أحداثه الخاصة والمتمثلة بالانشطار الأسري ووحشة الذات عبر مواضعها الخبرية والتوصيفية: (كانت ملابسهما قديمة رثة مجعدة، وكان شعرها الطويل الأشقر مضطربا، كأنها لم تجد الوقت لتسريحه حين قامت من سريرها الفجر، ولم يكن شعره الرمادي المائل للسواد أقل من شعرها اضطرابا. /ص9) تكتسب تشكلات (الرجل = المرأة) ضمن مرجحات السارد المزامن لحركية المشهد. إذ يتبين من خلال وصفه وسؤاله ذلك المدى المخصوص من نكوص مظهري الرجل والمرأة الخارجي، حتى ليتسنى له إظهار تلك الدواخل الحسية المتعاضدة بين الطرفين، أي انهما كانا يهملان مظهرهما الخارجي، ولكنهما في النتيجة متصالحان من جهة (الجوهر التحتاني) الذي راح يجعل من الشخصية مصابا بعدم التمييز من فيهما الذي يود السفر، وهذا بدوره دليلا على حجم احباطية السارد نفسه، فتبدو المحصلة البؤرية تجميعا لسمات مفارقة للعجز النفسي والنكوص العاطفي والجسدي.

2- الاصداء المتأتية من تحتانية السارد الشخصية:

لقد أدى وصف المظاهر المغايرة الخاصة بالمستويين من المشهد إلى حالة مضاعفة من تشخيص مجال الأحداث عبر واصلات تصدرهاو تبثها تلك الذات الكظيمة التي راحت تمتد في محاور ذاكرتها -تقابلا - إزاء نوعية ذلك المشهد الذي يضم الرجل والمرأة في محطة القطار: (قالت لي مساء أمس إنها لا تحب أن تراني مرة أخرى، ثم قامت من كرسيها بحدة وتركت المقهى رامية في وجهي الصحيفة التي نشرت فيها آخر أشعاري.. لم أسأل منها عن أسباب هجرانها لي./ص9)

- تعليق القراءة:

تعدد المقاطع والوحدات السردية في قصة (فؤاد التكرلي) و رغم تداخل زوايا رؤية موضوعها عن طريق منظور السارد العليم الذي راح يضمن علامات الزمن والمكان انصياعا إلى حقيقة عوالم محطة زمن وصول القطار (اهتزت الأرض بخفة حيث صار القطار على مبعدة من المحطة، رأيتهما يزدادان تلاصقا فيما بينهما) في حين يواجه السارد الشخصية من جهة ما موجهات اختلافية علاقته المأساوية مع زوجته أو صديقته: (لم أجدها في شقتها حين ذهبت - تركت لها قصاصة ورق تحت بابها، كتبت فيها كلماتي الأخيرة التي لن تفهم منها شيء) هكذا واجهتنا مكونات النص القصصي في حكاية التكرلي، عبارة عن علاقة تقابلية في التحريك السردي عبر المستويين من المشهد الممسرح ضمن نظام وآلية (مسرحة القص؟) لبلوغ الصورة المتمحورة في الطابع التحتاني من مسرودية الوجود الضمني الداخلي الموشح بأدق فعالية الموضوعة القصصية المصحوبة بأجلى علامات الحدث والحدوث التحتاني المتحفز في دلالات السرد المشهدي ذات الفضاء الزمكاني الموصوف في مجال تحولات الوحدات الفاصلة والواصلة من الزمن التقاطعي والتقطيعي بالعلامة الجمالية والدهشة الحاصلة من جراء تفعيل تقانة الزمن إلى ما بعد الزمن في البنية الجوانية من القص.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

في المثقف اليوم