قراءات نقدية

محمد العرجوني: شهب التناص ومتعة القراءة

في نص: ماذا لو أوقفت

ماذا لو أوقفت

كما وقفتي الزمان هنا

أوكما وقفة

برج إيفل

فأستعيد كل أزمنة

تسربت كنهر "السين "

من تحت جسور

السنين؟!

قد أحكي صمتا

أو بالميكروفون

فتسمعني "سيدة باريس "

فتأتيني  إسمرالدا

بالخبر اليقين

تبخر مع قفزات

زمان أحدب

ضل طريقه

بين نسيان وحنين…

وقفتي هنا

تعلن بالصمت

ونظراتي

الماوراء العين

أن البعد

وبين البين

شاسعان

كفضاء القيامة

وهكذا نظل

إلى حين …

***

نص الشاعرة المغربية: سعاد عبيد الله[1]

***

حينما يكون الشاعر في اوج توهجه الإحساسي، فذاك ناتج عن تماس طاقي بين نورونات بالفص الأيمن للمخ الخاص بكل ما هو عاطفي وفني وإبداعي كما تخبرنا الأبحاث العلمية. هنا تتحرك الطاقة الإبداعية بين النورونات لتطعم الشاعر خيالا جامحا، نتيجة لتفاعله مع حالة ما فتتلقفه اللغة لتجعل منه رموزا أكثر تعبيرية من لغة متداولة على مستوى الصفر. لهذا يقال بأن الشعر هو أقصى درجة التعبير اللغوي. أما عن كيف طفح هذا التوهج؟ ولماذا في هذه اللحظة بالذات؟ هو ما سوف نحاول تحسسه، ما دمنا في عالم الإحساس من خلال مقاربتنا الثقافية لهذا النص للشاعرة سعاد عبيد الله من المغرب.

القصيدة، تبدو لنا كأنها مستنيرة بشتى شهب تناص متعدد لا يمكن إغفاله، وهي تأخذ من الزمان مركبة لتعبر بنا كل مناحي متعة القراءة. ما علينا إلا اكتساح النص والاستمتاع بتفجيرات الشهب الشاعرية.

الشهاب الأول: وقفة الشاعرة على جسر على نهر السين بباريس  حيث يظهر برج إيفل، هذا ما نفهمه من خلال النص. وأول ما يمكن استحضاره هو هذا التناص مع قصيدة: "البحيرة"[2] للشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين حيث يقول في أحد الأبيات:

"يا أيها الزمن، أرجئ رحلتك، أيتها الساعات المناسبة!

أرجئي انسيابك:

دعينا نتذوق الملذات السريعة

لأجمل أيام لنا!"

وهي الفكرة التي نجدها عند الشاعرة في قولها: "ماذا لو أوقفت/ كما وقفتي/ الزمانَ هنا/ أو كما/ وقفة برج إيفل...". هي رغبة في إطالة هذا الاستمتاع بالجو الباريسي. استمتاع مستحق تريده أن يطول كما تعبر عنه بجملة اعتراضية تشبيهية: "كما وقفتي...أو كما وقفة برج إيفل". استمتاع جعلها تمتح من ثقافتها المزدوجة وتستحضر كذلك، عن وعي أو لا وعي شاعرا فرنسيا آخر، وهو أبولينير.

الشهاب الثاني: دائما في نفس السياق ومن نفس المكان، نلمس تفاعل الشاعرة مع نص"جسر ميرابو"[3] للشاعر ابولينير. فنستحضر بطبيعة الحال فكرة "هروب الزمان" كما تنساب مياه نهر السين. وهو ما نجده عند شاعرتنا حيث تنطلق من الاحتمال الذي أشرنا إليه سابقا، والذي نلمس فيه ذلك التناص مع قصيدة "البحيرة": "ماذا لو أوقفت الزمان هنا" كما وقفتها هي فوق جسر على نهر السين، "لتعيد أزمنة تسربت تحت جسر السنين". إلا أن هذا التناص، ليس تناصا متطابقا. فهو تناص استعاري إذا صح التعبير، حيث استعارت فكرة انسياب الزمان الذي نجده كذلك عند أبولينير. إلا أنها تربكنا بهذه الصورة الرائعة حينما جعلت من السنين، ما يعني سنين العمر، جسرا، انسابت من تحته أزمنة تمنت الشاعرة لو رجعت. ما يؤدي بنا إلى القول بأن الشاعرة تتأسف على أزمنة مرت في حياتها، ربما هي الأجدر بهذه اللحظة، على جسر فوق نهر السين. وربما كانت قد غيرت مسيرة حياتها. هو حنين إلى ماض ربما لم يأخذ من حقه في الحياة، فتريد إحياءه على الأقل بهذا الإحساس المر. هكذا يصبح التناص إبداعا وتفردا في التخيل غذى صورتها بمخزون ثقافي يؤدي مهمة التعبير، هي المتشبعة بالأدب الفرنسي، في لحظة وقوف وتأمل من فوق جسر باريسي، كما فعل ذات زمان الشاعر أبولينير، وبالقرب من برج إيفل. وهنا نجد الشهاب الثالث.

الشهاب الثالث: بالقرب من برج إيفل، ودائما مع الثقافة الفرنسية، ومع الشاعر ابولينير، نستحضر تشبيهه لهذا البرج الذي يرمز إلى الحداثة والتطور الحضاري الناتج عن الثورة الصناعية، بالراعية التي تحرس جسورها/غنمها وهي تثغو، حيث يقول في قصيدته:[4]Zone

" وفي النهاية متعبة أنت من هذا الزمن القديم

أيتها الراعية، يا برج إيفل، الجسور تثغو هذا الصباح

لقد سئمت من العيش على نمط حياة الإغريق والرومان القديمة".

هكذا قد نتصور، في تناص مبهر، ثِغاء "جسور السنين" التي شهدت تسرب أزمنة كم كانت الشاعرة في حاجة إليها الآن، وهي تتأمل برج إيفل من على جسر على السين، تماما  كما تصور الشاعر أبولينير ثغاء الجسور بسبب الحياة التي أصبحت أكثر نشاطا وحيوية بفضل التطور الصناعي وتحسن حياة الإنسان حينها بعد ثورة صناعية وفكرية، أمام "عيني" راعية واقفة تحرس هذه الحياة المزدهرة. تستحضر إذن الشاعرة كل هذا متأسفة في قرارة نفسها على تخلف عالمها الذي ينعت بالعالم الثالث والذي لم يعرف مثل هذه القفزة النوعية.

الشهاب الرابع: بالقرب دائما من برج إيفل، تستحضر الشاعرة أيضا رائعة الروائي والشاعر فيكتور هيجو " سيدة باريس"[5]، لأن هذا الطلل التاريخي غير بعيد عن نهر السين. لهذا تناصت مع هذه الرواية التاريخية، كذلك باستحضارها الشخصيتان البارزتان: إسمرالدا بالإسم، وكازيمودو عند استعمالها كلمة: "الزمن الأحدب". إلا أن هذا التناص أصبح إبداعا رائعا حيث الأحدب في القصيدة هو الزمن الذي تجعله يقفز تماما كأحدب كنيسة سيدة باريس، زمان الشاعرة وعالمها الذي ضل طريقه بين نسيان وحنين، فظل يقفز كالبهلوان.

الشهاب الخامس: زيادة على التناص مع رائعة فيكتور هيجو باستحضارها إسمرالدا، هناك تناص مع قصة بلقيس وسليمان. وهو ما نستشفه في قول الشاعرة:

" فتأتيني  إسمرالدا

بالخبر اليقين"

حيث توصل النبي سليمان ب"الخبر اليقين" من فم الهدهد، الذي أخبره بسبب غيابه لأنه فوجئ بوجود قوم في «سبأ» يسجدون للشمس من دون الله، ولهم ملكة على عرش عظيم[6]. أما شاعرتنا فتوصلت ب"الخبر اليقين" من فم شخصية رواية فيكتور هيجو، إسمرالدا، إلا أن هذا الخبر "تبخر مع قفزات الزمن الأحدب". فأي خبر أو درس أخذته الشاعرة من شخصية روائية، فتبخر؟ لفك هذه الشيفرة والاستمتاع بهذا الشهاب اللامع، ما علينا إلا أن نرجع إلى إسمرالدا ونبحث عنه من خلال شخصيتها كما تبدو في الرواية. إنها شابة من أصول غجرية. وهي تدل على الجمال وعلى البراءة  والسذاجة أمام عنف الحياة كما تدل على النبل الروحي. إلا أنها تعرضت للظلم في وقت كانت فيه الكنيسة تحت سيطرة الإكليروس، خلال ما يسمى بالعصور الظلامية. قد تكون أخبرت شاعرتنا بظلم الحياة، ولو براقة كما تبدو هناك بباريس، والتي تمثل تلك الحداثة وليدة الفكر المتنور الذي واجه الإكليروس. حداثة تلهف من ورائها شعوب من جنوب البحر الأبيض. لكن هل تحقق العدل؟ قد نستشف من "الخبر اليقين" بأن الحياة ما زالت ظالمة، ما زالت مظلمة رغم نور الحداثة، أو ربما بسبب هذا النور المظلم. هكذا تبدو الشاعرة في تأمل وحيرة. هي الآتية من عالم المظلومين المقهورين بسبب تلك الحداثة التي ورطت الغرب في حروب على المستضعفين، خاصة وأن الشاعرة تتابع بأسى ما يحدث في غزة، وفي فلسطين من مجازر ضد الأطفال وكل المستضعفين. وربما تلك الحياة هي التي يمثلها الزمان الأحدب الذي يقفز بين النسيان والحنين. ما يوحي بتردد بين نسيان تلك الصورة التي كانت تبدو إيجابية للحداثة، والحنين إليها رغم مساوئها لأنها بعيدة المنال. بُعدٌ وفوارق بين عالمها وهذا العالم الذي توجد به، تعبر عنهما بوضوح في المقطع الأخير:

وقفتي هنا

تعلن بالصمت

ونظراتي

الماوراء العين

أن البعد

وبين البين

شاسعان

كفضاء القيامة

وهكذا نظل

إلى حين …

هكذا تعيش بوعي هذا التردد. فمن جهة رغم ما توصلت إليه باريس، التي تمثل الغرب بصفة عامة، من حداثة انبهرت بنورها كل الشعوب التواقة إلى التقدم التكنولوجي والعلمي والسياسي، فإن الظلم ما يزال مستشرٍ بسبب هذا العالم الغربي، الذي بنى حداثته على جثث المظلومين، وما إسمرالدا والأحدب إلا شخصيتان ترمزان إلى تلك الشعوب المضطهدة عبر الزمان، بالنسبة للشاعرة، وهي تستحضرهما، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، انطلاقا من ثقافتها. فإسمرالدا ترمز بعرقها الغجري إلى هذه الشعوب، خاصة في سياق ما يعرف "بالإسلاموفوبيا" التي تشعل نارها طبقة سياسية متطرفة، كما يرمز كازيمودو الأحدب، ولو في صورة "زمان"، هو أيضا إلى تهميش هذه الشعوب التي قد تعتبر معاقة ومتأخرة زمانيا، من كل النواحي: العلمية والتكنولوجية والسياسية والفكرية إلخ... إنه الزمان الأحدب فعلا. فهل نظل إلى حين...كما ورد في النص؟ ومتى يحن الحين؟ أم ترانا ننتظر القيامة كما يوحي النص في حديثه عن "شساعة فضاء القيامة"؟

كخاتمة:

باختيارنا مقاربة هذا النص ثقافيا، أردنا التأكيد على أن الإبداع الذي ينطلق من مثاقفة إيجابية، يثير انتباه المتلقي الحذق. إنه إبداع يجعل هذا المتلقي يستمتع بين ضفاف الثقافات، كما فعلت الشاعرة سعاد عبيد الله هنا. لقد زادت في منسوب متعتنا وهي تسرح بنا من ثقافة إلى أخرى. واستطاعت بلغتها البسيطة المتسمة بالسهل الممتنع أن تعبر بذكاء عن أحاسيسها؛ وبطريقة دقيقة، بتفاعلها مع بعض النصوص لكتاب فرنسيين تأثرت بهم هي الدارسة للأدب الفرنسي، حققت كذلك إشباع رغبة هذا المتلقي الحذق.

***

محمد العرجوني

......................

[1] منشور على صفحتها بالفيس بوك بتاريخ:16-9-2024

[2] Méditations poétiques , Alphonse de Lamartine, 1820

[3] Le pont Mirabeau dans Alcool 1913

[4] Zone dans Alcool 1913

[5] Notre dame de Paris de Victor Hugo, 1831.

[6] سورة النمل

في المثقف اليوم