قراءات نقدية
سيد فاروق: العملية النقدية بين الذوق والإدراك
لعلَّ المنهج الانطباعي أو التأثري هو أقدم المناهج التي عرفها النقد، لاسيما أنَّه صاحب ظهور فنون الأدب المختلفة، وبخاصة فنون الشعر، وظل قائمًا وضروريًّا حتى اليوم، ورغم كل ما طرأ عليه يعتبر مرحلة ضرورية وأساسية وأولية في النقد، ولكنه ليس النقد كله، ولا يمكن الاكتفاء به، بل يجب أن تتبعه مرحلة أخرى تفسر وتبرر التأثرات التي نتلقاها عن العمل الأدبي بأصول ومبادئ موضوعية عامة، حتى نستطيع أن نحوّل ذوقنا الخاص الى معرفة موضوعية يقبلها الغير في ضوء الإدراك الفكري. وقبل أنْ نتحدث عن المنهج الانطباعي عند بعض النقاد في تحليل النص الأدبي، نرى من الضروري أنْ نقف عند معنى الانطباعية في النقد، وهل يمكن عدّها منهجًا أم لا؟!!!
النقد الانطباعي
عرفت الانطباعية في النقد الحديث بأنها نزعة تشكيلية، ظهرت في القرن 19، وجاءت كرد فعل، ضد الطبيعية والرمزية معًا، كتعبير عن مدركات الحس، وهي أيضًا وصف للانطباعات، التي يثيرها الموقف في النفس. أما النقد الانطباعي فهو تقديم جذاب للعمل الأدبي، انطلاقًا من تأثير العمل على الناقد ، أي أنه يعتمد أساسًا على الذوق الذي هو في الأصل ملكة تدرك بها طعوم الأشياء واصطلاحًا أداة الإدراكات التي تثير في نفس المتذوق لذة فنية تجاه العمل الأدبي.
لقد تباينت الآراء حول الانطباعية هل هي منهجًا أم لا؟، فالبعض منهم يرى أن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، وهو ما ذهب إليه الناقد أحمد الشايب، ود. أحمد كمال زكي، ود. إحسان عباس، حيث اتفقوا على أن: النقد مزيج من الذاتية والموضوعية فهو مقيد بأصول علمية مقررة من جهة ومتأثر بذوق الناقد ووجهة نظره من أخرى، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى أن يتوخى بلوغ النهاية في تجويد الصورة. ومن هنا نرى كيف ترتبط الموضوعية بالذات ارتباطًا وثيقًا، وكيف ينبغي على الناقد ألا يسهو عن التفاعل بين النفس والطبيعة من حيث أن الأدب يشكل تجربة ميدانها الأول خارج الذات. وطبقًا لهذا الرأي فإن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، فهو عملية فعالية وسطية تقع دائمًا بين فعاليتين أو منطقتين، فهو الحلقة التي تتوسط الأدب والجمهور، وهو يستمد من الثقافات المختلفة ليسلّط الأضواء الكاشفة على المادة الأدبية، أي هو منطقة وسطى بين الثقافة المعرفية وفنون الأدب، وهو منطقة تطغى حدودها من جهة على العلم ومن أخرى على الفن؛ النقد قائم بين اعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية، ولذلك كان بحكم موقعه قابلًا للتأثر والتوجيه، منفعلًا أكثر منه فاعلًا، وإذا لم يستطع أن يحفظ التوازن الضروري بين المنطقتين الواقعتين على حدَّيه تورَّط في الخطأ أو الإخفاق. وحري بنا في هذا المقام أن نسوق آراء الفريق الآخر من النقاد الذين أكدوا على ضرورة الفصل بين الانطباعية والموضوعية في النقد، وعلى عدم وجود منهجية في الانطباعية، وهو رأي دكتور عز الدين إسماعيل، والناقد طراد الكبيسي، الدكتورة بشرى موسى صالح؛ إذ ذهبوا بالقول بأنَّ الحكم الذاتي ليس حكمًا جماليًّا بالمعنى الصحيح أي لا ينصب على جمال موضوعي، بقدر ما هو مفسر لحالة المتلقي، وقد وصفوا الانطباعية بأنها أشبه بوجبة طعام خفيفة نلتهمها في حالة فقدان شهية، أو حين لا نريد أن نثقل على أنفسنا. ومع إيماننا بأن التذوق عنصر مهم في النقد، وربَّما كان أول نقد بدأه الإنسان، هو النقد الذوقي أو الجمالي إلا أن النقد تعدى هذه المرحلة مذ قرون، ذلك أننا لو اعتبرنا التذوق منهجًا نقديًّا قائمًا بذاته، لكان كل قارئ – مهما كانت درجة ثقافته وتذوقه – ناقدًا لا يصح رد مزاعمه.! ومجمل قولهم أنَّ الانطباعية ليست منهجًا بل عملية تذوق ذاتية محضة تتجلى في استجابة لا واعية قائمة على التفضيل المبهم، والاستجابة اللاواعية للنص لا تفرز وعيًا نقديًّا منهجيًّا بالضرورة، فيكوّن أو ينشىء الانطباعي نصًّا آخر يمثل طبقة ذاتية عازلة ثقيلة تغرّب النص عن باثه ومتلقيه.
النقد الموضوعي
لما كان النقد عملية فكرية موضوعها الإبداع بما فيه من تفكيك وتركيب وإضاءة وتحليل للنصوص الإبداعية في كافة الأجناس الأدبية؛
كان الأدب بحاجة إلى هذه العملية لأنَّ طبيعته المتميزة تقتضي الحديث عما فيه من خفايا ومكامن أو متغيرات ومستجدات، وبعبارة أخرى فالأدب إنتاج لغوي مفتوح، له مقومات عديدة وإمكانيات كثيرة قد تجعل منه كيانًا مستعصيًّا أو غامضًا أو مُعقَّدًا في بعض النصوص، وعلى ذلك تصبح الحاجة ماسة إلى فهمه أو تقريبه أو تفسيره أو تقويمه وهي ضمن المهام المنوطة بالنقد في الأساس، ومنها يستمد تعريفه ومشروعيته وحقيقة وجوده. فإنَّ وجود المنهج في النقد هو أمرٌ ضروري لأن تحليل العمل الأدبي دون منهجٍ واضح ٍ في نفس الناقد لهذا التحليل أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، حيث سيادة الأحكام والأهواء الفردية القائمة على أساس الذوق الذي يعد في رأي الانفعاليين الفيصل الفذ في وصف الأدب وتذوقه سواء أكانت نتيجة التذوق والتأثر ثابتة أم متغيرة بتغير الأوقات والبيئات. هذا لا يعني أننا لا نقبل بوجود نقد ذاتي أو يغلب عليه الذوق، ولكن نقبل به في حالة واحدة هي بدايته التي يشهد عليها التاريخ. فنحن لو تتبعنا أصول النقد في العالم قبل أرسطو نرى ثمة أموراً يغلب عليها الذوق، وظل النقد قائمًا بها حتى نهاية العصر الهومري في القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما تطور على أيدي فلاسفة القرنين السادس والخامس لم يتحرر من الأحكام الذاتية، حتى وإنْ دعمت بالأخلاق، وظل الأمر كذلك حتى قدم أرسطو للنقد الموضوعي، واضعًا بكتاباته عن الشعر والخطابة حدًّا للنقد الذوقي والنقد الذوقي الأخلاقي. إذن نستطيع القول أنَّ وجود المنهج في النقد أدى إلى ظهور ما يعرف بالنقد الموضوعي وهو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة ويتناول النصوص الأدبية، يفصّل القول فيها ويبسّط عناصرها ويبصّر بمواضع الجمال والقبح فيها، كما أن النقد ينبع من الشعر، أو النص ذاته وليس من الأديب، أي أنَّ اللغة الشعرية أو الأسلوب الشعري على سبيل المثال، هو الذي يقود الناقد من خلال التحليل والموازنة إلى حكم نقدي موضوعي وحس فني جمالي.
وخلاصة القول
إنَّ النقد الموضوعي لا يعني أنْ يستخدم الناقد ما يشاء من المناهج ويقحمها داخل النص، وإنَّما النص هو الذي يفرض على الناقد استخدام هذا المنهج أو ذاك وهنا يدخل النقد الأدبي الحياة الإنسانية حين يغدو مظهرًا مهمًا من مظاهر حركية المجتمع حيث يشارك العلوم الإنسانية الأخرى هدفها وغايتها في تحليل النفس البشرية من خلال تجاربها الأدبية المختلفة. فتصير حينئذٍ بعض الأحكام الجزافية والعابرة ضربًا من السذاجة وإنْ عدّها البعض من النقد الأدبي. إنَّ النظرة النقدية للنصوص الأدبية يجب أن تنطلق من فهم عميق للأبعاد الفنية بتعادلية موضوعية بين الذوق والمنهج وإلا فهي ضرب من النقد التأثري والذاتي الذي يطفو على سطح التجربة الشعرية ولا يحاول النفاذ إلى أعماقها. وعلى ذلك إذا كانت التأثرية نقدًا مشروعًا حسبما نرى، يبقى فيها شيئًا من الموضوعية أو المنهجية، فيما نرى أيضًا الموضوعية أو المنهجية قسطًا من التأثرية. وحسبما نرى أن هذا التضارب أو التناقض في الآراء حول الانطباعية كونها منهج من عدمه، يرجع الى ثنائية العملية النقدية كما نراها ذوقًا وإدراكًا، ويمكن النظر إلى النقد على أنه فنًّا من جانب، وعلمًا من آخر، على أنَّه لا بدَّ أنْ ينصهر الذوق والإدراك كلاهما ويتوحدا في ذات وفكر من يتصدى للنص الأدبي بالقراءة والدراسة والتحليل.
***
د. سيد فاروق