قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في المطولة الشعرية (قارات الأوبئة) لفوزي كريم

رؤية الهاجس وشعرية الرؤيا، الفصل الأول - المبحث (2)

توطئة: إن ما ينبغي التأكيد عليه في تجربة النص الشعري الموسوم (قارات الأوبئة) ذلك التشبث بإمكانية الربط القصدي - التراكيزي - للفعل الرمزي الداخلي الذي يشكل بذاته ذلك الاستخدام الواعي في جعل المدلول الجزئي على وفق دوال انطلاقية، اختبارية تسعى إلى تحديد غايتها الجوهرية من جراء التسيير الذي يخضع لعملية (رؤية الهاجس) الداخلي - اقترانا - بذلك الاحتدام الخارجي الذي يواجه الذات الرائية لحظة إنبثاق التلميح والاختزال في معنى (شعرية الرؤيا) واستبعادها في مجاورات دﻻلية قائمة بالفعل الذهني المضاف إلى تفاصيل العلاقات الشعرية المتحولة والبديلة في معطى الخطاب الظاهري بالصيغة المخصوصة في طبيعة واقعة التركيز الشعري انطباعا ورمزا .

- توالدات خصوصية المكان وحركية رؤية الإيحاء المتصور:

١- محورية التراصف الكنائي:

لقد استثمر الشاعر فوزي كريم عبر وحدات مقاطعه الشعرية المتوغلة في مواضع فصولية ذات دﻻﻻت منحها الشاعر بعدا دراميا فاعلا، يومئ إلى ذلك من خلال مواطن الرحيل والزوال واللاجدوى وغالبا ما تكون مشاهدا خاصة في استخلاص تجليات الحرب والحروب، لذا بدت أغلب المقاطع عبارة عن (محاور متراصفة كنائيا)مشحونة بالرؤى المكانية التي بدا عليها تعدد الاصوات وتقطيع الأجواء في أمكنة أخذت تتشرب ملامح مرجعية ذا اشباعات أفقية خاصة من تحويل الدﻻلة السياقية إلى مباغتة مشهدية بضياع مظاهر البلاد والواقع وحركة الحياة:

عند زقاق - كان القمر يشي بالفجر -

تراءى لي كلكامش

يقطف من دافلى الدار

وردتها

ثم يبيع شذاها للعطار

...

... /ص٩

تقوم شعرية المقاطع ضمن بؤرتها التشكيلية على محور (التراصف الكنائي) أو على استثمار المعادل الموضوعي (تراءى لي كلكامش -يقطف من دفلى الدار - وردتها - ثم يبيع شذاها للعطار) بل يكاد الشاعر أن يؤسس بضياع (أريج الورد)و بخاصة من جهة كلكامش الذي يشكل بذاته رمزا مرجعيا في تشييد وحدة الأوطان، فكيف به عندما يظهر لنا وهو يبيع شذا وردة الدار (البيت = الوطن) إلى دال العطار، كما وتحتل جدلية الوظيفة التشكيلية تحوﻻ في دﻻلة جملة (عند زقاق - كان القمر يشي الفجر)و غالبا ما تتشكل محددات (المكان =الظرف)موقفا داﻻ على براءة (السكون =الحركة) امتدادا نحو أداة التنقيط السطرية التي تشي بتجليات النواة المضمرة في حركية الواقع الضاج باللاجدوى والفراغ الطافح:

في ذاك اليوم ولدت . أبي يحتاط من الفيضان

و أمي في الغيبوبة. والحرب الكبرى توشك ان

تتوقف فوق المفترق الواسع للزمن المتردي

نحن الحمقى كنا نكبر

دون محاذرة، ونلوح للدفلى

في حوش الدار بحمى الفرد . /9

لعلها لقطات من مشهد يختزل الزمان العمري .. عمر الفرد المستلب في طفولته حين غدا يلوح لزهرة الدفلى التي ابتاع أريجها المحصل التاريخي إلى ذلك المعادل الموضوعي بر(العطار ؟)كما ومستوى الاستعارة هنا تعد بجزئيات التراصف الكنائي المختبئ وراء تلك التمثيلات الزمنية التي تتراوح في كفة قدرية الانطفاء الموقفي (أمي في الغيبوبة .. والحرب الكبرى .. نحن الحمقى كنا نكبر)لقد بدت مستويات الاستدلال تتعرض لمواجهة قصور الوعي، عبر مجاﻻت إشكالية من مآثم الضمير الفردي،لذا تبقى حركية الزمن تشكل بذاتها حساسية مضافة في إحصائية الشائع والضائع من تفاصيل المفروض الزمني(و نلوح للدفلى في حوش الدار بحمى الفرد)هذا المعنى الحتمي هو نتاج مؤولات الخسران بمحمولاته التي تتعدى حاصلية الرؤية الهواجسية الواحدة، بل أن المعنى ها هنا جرى في حدود تصورات التسليم بذلك الراهن المحسوس والمعاش بأقصى وحدات التأكيدات الذاتية المستوعبة .

٢- تسخير المعاذير وتمكينها في معايير الذات المستلبة:

إن الواقع الإجرائي في مؤديات الوحدات الشعرية، لم يكن سوى دوافع حسية بالتشخيص التصوري أو بذلك الافتراض للتجربة الذاتية التي تتوالد في الوجدان والذهن على هيئة تركيبات صورية مبثوثة عن ظاهرة مؤشرة في ممكنات أقوال الأنا المتكلمة:

فنحن كأفراد مختلفين يفرقنا وجه

الأبّ، ووجه الأم يوحدنا مثل الطرفاء ..

أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب

أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق . /ص10

ان الشاعر يتبين عليه من خلال هذه الوحدات، كونه غدا يجتر مساحات من معوقات الذاكرة المتصلة وحدود الاواصر الأسرية، لذا تقودنا جملة (فنحن كأفراد كنا مختلفين) إلى مدى تصور صورة الاختلاف بين متاهات الأمنيات والأحلام المتصلة بكل فرد على حدة، وهذا الاختلاف ما راح يصور الذات المتكلمة على كونها بؤرة تحكمها المضادات الخارجية من النسق الاسري (يفرقنا وجه الاب، ووجه الأم يوحدنا) أي بمعنى أدق ان حالة الانشطار العائلية كواقعة يومية صارت محطات من الفراق والتوحد، ولكن الشاعر لم جعل يستوحي هذه الصورة تحديدا، لربما هناك خصائص حدوثية من شأنها باعدت وقاربت بين كفة الأم على الاب، لذا نلاحظ أيضا في جملة اللاحق (أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب)من هنا تتضح (أزمة طفولة الشاعر) ودهشتها بعد إحصاء صوت الذات الراوية بكل حاﻻتها القلقة والمنقطعة عن أدنى حقوقها الرغبوية وصوﻻ إلى جملة (أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق) في هذه الجملة يتبين حقيقة اضطهاد الفرد في حيز مرحلته العمرية، وتتحول هذه البراءة الى جملة أسئلة صعبة المراس في حال تكرار جملة المناشدة الاعتذارية حتى إلى جهة خارج زمن العائلة: (معذورون: فتاة الجار - وفتيان الحلم المنهار بفعل الثورة) وﻻ أحسب من جهتي بأن الذات الفاعلة تركز صوتها الى حدود ضيقة من مرسلاتها القولية، دون تخطي ذلك القطب المركزي المعتمد معادلا موضوعيا، والمقصود به جهة أسى الحكومات، ما دام الشاعر راح يمنح لكل افراد اسرته بذلك الاعتذار وطلب الصفح، أي ان هناك قصدية مصبوبة في وجدان حاﻻت الذات، لربما هي حصيلة تراكمات سلطة باطشة أو لربما هي جملة القيود الفردية الشخصانية التي تحيط الذات بمفردها الحضوري المنكفئ.

معذورون .

سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الأليل

بالأيام لها شكل الاسلاك الشائكة.

أبي مات وأمي ماتت .

و احترقت في الدار الدفلى . /ص10

تتجلى وحشة الذات في ضوء علامات القهر والضديات الثنائية المتوالدة، لذا اصبحت حالة الحزن بوحا سوداويا فاعلا، ويصبح الدال الشعري من خلال لحظة سقوط (سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الاليل .. بالايام لها شكل الاسلاك الشائكة)كدﻻلة متراصفةفي مجرى روح الشاعر الكظيمة، لذا ينثال الواقع في تواتر محزون، فيتساوى توصيفا بمشبه (الاسلاك الشائكة) لذا تحيلنا دﻻﻻت الوحدات إلى ذلك النوع من الشعائرية بالفقد والمفقود، وتتلاشى من زمن قاموس بوح الذات كل الافعال والآمال المجدية .

- تعليق القراءة:

لعل القارئ للفصل الأول للمجموعة (قارات الأوبئة) يعاين مدى التشابه الدﻻلي بين (بداية =نهاية)وهو ما يعرف بالتدوير، ويمكن أن يمنحنا المعنى في مواضع دﻻﻻت النص إلى ذلك النحو من مقصدية الشاعر الرثائية للذات نفسها وإلى مواطن أمكنة الذاكرة وزمن اشتغال آليات دوال الفواجع الضدية التي تتعرض لها الذات الشعرية عبر موطنها الكبير والصغير (المنزل = البلاد) وصوﻻ الى حالات وصفية ضمنية راحت تختزن لأدوات الشعر علاقات وآفاق فقدانية عبر الحاﻻت والمواقف والزمكانية وفضاءات شعرية الأسى:

الموتى أكثر تعباً تحت الشمس من الأحياء

ورائحة العرق تطهر حاشية وجودي

من عفن الساعات . /ص13

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

في المثقف اليوم