قراءات نقدية

ناجي ظاهر: اللغة الشابة

تختلف اللغة الابداعية عن اللغة اليومية المباشرة بالعديد من الصفات والسمات، ففي حين يتمحور همُّ اللغة اليومية المتداولة بين الناس في عملية التوصيل، فإن اللغة الابداعية كما يرى دارسو الادب ونقاده، لا سيما الخبراء في علم الاسلوب، تتمحور في هموم أخرى مختلفة تمام الاختلاف، مع عدم تجاهل عملية التوصيل، ذلك أن الكتّاب والشعراء الجادين لا يتنازلون عن عملية نقاوة التوصيل اللغوي، ويصرّون في الآن ذاته على جماليات اللغة الابداعية، علمًا ان هذه اللغة تختلف الى حد بعيد عن لغة الكتابات النثرية، اقول هذا وانا افكر في اللغة المخادعة التي تحدثت عنها في هاجس سابق، فهناك فرق بين اللغة الابداعية في الشعر والقصة وبينها في لغة المقالة التي يُفترض ان تكون واضحة كونها ترمي الى توصيل معنى او اكثر تم تحديده مسبقًا من قبل كاتبه المرسِل له.

تتصف اللغة الابداعية، كما يظهر من اعمال ادبية راقية ومعروفة، بالعديد من الصفات، ذلك ان حمولتها تختلف عن حمولة اللغة اليومية المباشرة او حتى لغة الكتابة النثرية خاصة في المقالة الصحفية بالعديد من الامور، فيما يلي اشير إلى عدد من مُميزات اللغة الابداعية.

* الانزياح: تنزاح اللغة الادبية لا سيما في مجال الشعر، عن اللغة اليومية المباشرة، ضمن محاولتها رفد ذاتها بحمولة تتوزع على المتطلبات الادبية المتفق عليها بين الدارسين وهي: الفكرة، المشاعر الوجدانية، الخيال والاسلوب. لهذا تنحو هذه اللغة حينًا نحو الغموض وآخر نحو الوضوح، وتحاول في كلتا الحالتين أن تُحقق هدفها المقصود، وهو إثارة مشاعر قارئها بحيث تتماهى هذه المشاعر مع مشاعر صاحبها الشاعر، فتتداخل بذلك فيما بين المرسِل/ الشاعر او الكاتب وفيما بين المرسَل اليه/ القارئ، وقد تحدّث عن عملية التأثر هذه العديد من النقاد والباحثين الادبيين، اذكر منهم اثنين احدهما عربي والآخر أجنبي، أما العربي فهو حازم القرطاجني صاحب الكتاب الرائد في علم الشعر وصناعته واعني به كتاب "منهاج البلغاء وسراج الادباء". لمن يهمه الامر اقول إن طبعة محققة صدرت من هذا الكتاب الهام في نقدنا العربي القديم ضمن منشورات الغرب الاسلامي المُميزة، وان الباحث الدكتور المتخصص في دراسة ادبنا العربي القديم خاصة الشعر محمد محمد أبو موسى وضع كتابا رائعًا حول هذا الكتاب-منهاج البلغاء- قرّب فيه مفاهيمه وما تضمنه من آراء ورؤى متعمقة. حمل هذا الكتاب عنوان" تقريب منهاج البلغاء". اما الاجنبي فهو جون كوين صاحب الكتابين اللافتين عن "اللغة العليا" و"بناء لغة الشعر"، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين إلى العربية، وبإمكان من يود التوسع في الموضوع قراءتهما.

* الايحاء: وواضح من هذا ان اللغة الابداعية، تختلف عن اللغة اليومية المتداولة، في كونها لغة ايحائية تعتمد التلميح والاشارة من بعيد او قريب، وسيلةً لتوصيل ما تود توصيله، وهنا تؤدي براعة الانسان/ الكاتب المبدع، دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه اللغة، فهو يتحدث إلى قارئه بلغة تكتسب كل صفات اللغة، غير انها تختلف عنها جوهريًا، ففي حين أن اللغة المتداولة يوميًا، وحتى لغة المقالة الصحفية إلى حد بعيد، ترمي إلى توصيل معنى واحد محدد مسبقًا من قبل الكاتب، فان اللغة الايحائية ترمي إلى اكثر من معنى، يبرز من بين هذه المعاني، نقل الحالة التي يود الشاعر أو الكاتب السردي توصيلها إلى قارئه، لهذا فان بإمكاننا أن نقول إن ما وراء الكلمات أهم بكثير من الكلمات ذاتها في اللغة الايحائية، وينطبق على هذه اللغة ما اعتدنا على قوله في مثلنا السائر وهو " الحكي الك واسمعي يا جارة". من هكذا منطلق أعتقد أنه يتوجب علينا التعامل مع اللغة الابداعية ضمن اعتبار مختلف عن ذاك الذي نتعامل به مع اللغة اليومية المتداولة. من مواصفات هذه اللغة- الايحائية- انها تتحدث من داخل اللغة وليس من خارجها فهي لا تذكر ما تود ذكره بطرائق مباشرة، بقدر ما تذكره ضمن سياقاته الشعرية والقصصية ايضًا. ومن مواصفات هذه اللغة أيضًا تُجسّد الحالة التي يعيشها الراوي الشعري او القصصي وتروي ما ترمي إلى روايته من وجهة نظر هذا الراوي.. كما يتخيلها الكاتب مرهف الاحساس واسع التجربة وشديد الملاحظة. للتوسع في هذا الموضوع اقترح على من يريد أن يقرأ كتاب " عناصر القصة"، لمؤلفه روبرت شولز ترجمة محمد منقذ الهاشمي.

* الغائية: وتتمثل هذه في أن اللغة الابداعية تتحوّل في العمل الادبي الابداعي، من كونها اداة توصيل وحسب، الى لغة تتغيّا ذاتها، بمعنى أنها تضحي هدفًا جماليًا قائمًا بحد ذاته له استقلاليته وبُعده القائم بذاته، لكنه يستهدف اول ما يستهدف عملية التأثير عبر استعمال صاحبه الكاتب، قاصًا او شاعرًا، للجماليات اللغوية، وهو يفعل هذا كله، معتمدًا على التأثير اللغوي في قارئه. لهذا نلاحظ أن المبدعين الجُدد لا سيما في مجال كتابة القصة والرواية، يبتعدون عن الجماليات القديمة المتعارف عليها كلاسيكيًا وقديمًا، ويلجؤون إلى استعمال اللغة النابعة من أعماق الحالة الادبية المقصود توصيلها من مُرسِل إلى مُرسَل إليه. على هذا يمكننا أن نشير إلى أن المبدع الجديد والمُجدد يسمح لنفسه التلاعب في اللغة تقديمًا وتأخيرًا، وهو ما سبق وحدث في نماذج عديدة من شعرنا العربي ايضًا، ولعلّنا نشير هنا إلى مثال بارز مارسه الكثيرون من كُتّاب القصة المحدثين في مقدمتهم الكاتب العربي المصري اللامع يوسف ادريس، عندما قدموا مثلًا الفعل على الفاعل، على العكس مما تقول به الاسس اللغوية المتعارف او المتفق عليها.

صفوة الرأي، أن اللغة الابداعية تختلف عن اللغة المتداولة يوميًا بين الناس، وأنها تتصف بالعديد من المواصفات والصفات المختلفة، أهمها الانزياح، الايحاء والغائية. وعليه بإمكاننا القول إن الاختلاف بين هاتين اللغتين إنما يؤدي أمرين هامين جدًا احدهما في صميم اللغة الابداعية وهو تأثير المرسل/ الكاتب في المرسل إليه/ القارئ، والآخر أن اللغة الابداعية عادة ما تُجدد شباب اللغة كما قال الشاعر الفرنسي الهامّ جدًا بول فالري.

***

هاجس: ناجي ظاهر

في المثقف اليوم