قراءات نقدية

جبَّار ماجد البهادليّ: شِعريَّةُ جَنان السَّعديِّ عُيُونُ رَاصدٍ لا تَنَامُ

(دِيستُوبيَا) المَقموعِ والمَسكوتِ، و(يُوتُوبيَا) الاِحتجاجِ الثًّوريِّ

مَفاتيحُ العنونةِ:

لكلِّ قصيدةٍ شعريَّةٍ ما، أو مُدوَّنةٍ إنتاجيةٍ إبداعيةٍ تظهر جليَّاً في الأثر الوجودي للفضاء الشعري الزمكاني مفتاحٌ سحريٌّ بازٌّ وقارٌّ للأثر، ولافتٌ للنظر في ضوء هالته العلاماتية. وهو في الوقت ذاته يعدُّ مُثيراً اشتراطيَّاً نفسيَّاً استجابيّاً مُنظَّمٌاً لقارئ نصِّ قصديات الأثر الأدبي. فمن خلاله وبه يصل وعي المتلقِّي والقارئ النوعي أو النموذجي (الناقد) إلى جماليات بغية العمل الأدبي ودلالاته اللُّغوية والرمزية وغاياته، السيميائية المتفرِّدة أيقونياً وصوريَّاً وجماليَّاً وفنيَّاً.

والتي من أجله أخذت هذه العتبة العنوانية سمتها البنائية التركيبية وكينونتها المنتظمة، واختطَّت عنونتها الاستفزازيةّ الَتي أخذت بيان اسمها الصريح العريض، وأعلنت شخصيَّاً عن رسم هُويتها التعريفية الشاخصة في عملية وجودها الوظيفي. واختصَّت وظيفتها العنوانية بمضان قصدياتها التأويلية والإخبارية الرفيعة وبلاغة انحرافاتها وحمولاتها الدلالية والمعنوية القريبة منها والبعيدة.

ولمِهْمَازِ مُدوَّنة جَنان السعديّ الشعريَّة (لا حياءَ للخَنازيرِ) مفتاحان سحريان شاخصان في جملة التركيب النحوي لا ثالث لهما إلَّا الأداة (لا) النافية التي تصدَّرت بقوَّةٍ نفي الجنس القاطع لمستهل الجملة الاسمية (لَا حياءَ للخنازيرِ) والتي هي صرخةُ الشَّاعر السعديّ الثوريَّة المُدوِّية، المُلَغَمَةُ ببارود ديناميت الهزيمة الاستسلاميَّة النكراء المشوِّهة لرمزيَّة العرب وموقفهم القميء المتشضي.

والمفتاح الأوَّل لباب هذه العنونة الاستفزازية الشائنة الشوهاء، والصادمة بتورية مفارقتها التوقُّعية وثيمتها الفكرية المدهشة، هو تلك المفردة الاسمية النكرة دالة (حياءَ) التي هي إحدى طرفي المعادلة العنوانية الموضوعية الضيزى في ثنائية التضاد الحركي بين قطبي فعلي الصراع (الخير والشرِّ).

والحقيقة أنَّ الخير يكمن في (يوتوبيا) معنى الحياء الإنساني الدلالي الفاضل؛ كون (الحياء) يمثِّلُ شعبةً مُثلى وعُليَا من شُعب الإيمان لأركان هذه المدينة الشعرية المثالية الفاضلة التي تجرَّدت عن معنى صفتها وكينونتها الإنسانية الجمعيَّة، وانتزعتْ عنوةً دلالاتها اللِّسانية المُقطَّرة في صرختها العنوانية الباسلة بطعنتها الخيانية النجلاء. أمَّا بوادر نسق (الشرِّ) الذي هو الطرف السلبي من ركني العنونة، فيكمن في رؤيا الشاعر المخيالية الطوباويَّة المثاليَّة القصيَّة المُمَثَّلة بـ (دِيستوبيَا) الفوضى والخنوع اللَّا إنساني المعطوب في دلة (الخنازير)الحيوانية المُبتذلة المَمقوتة بدلالة ذمها التوصيفي.

فَحينَ نتأمَّل بتؤدةٍ المعنى الدلالي القريب لدالة (الخنازير)، فلا نجد لها مدلولاً سويَّاَ غير معناها البوهيمي الحيواني المتوحش الممجوج كراهية وتدليلاً عليها لا حُبَّاً بها. أمَّا توريةُ معناها الدلالي البعيد الذي رامه الشاعر الرائي في قصدياته وحاك نسيج خيوطه وأمسك بتلابيب أذياله الكليَّة المُحكَمَةِ في تركيب مدونته الإقصائية الفكرية والصوتية التصريحية المعلنة (لَا حياءَ للخنازيرِ).

فهو يرمز في صميم علاقته الخطيَّة المباشرة مع صفة الحياء إلى موحياته الحقيقية البشريَّة المقصودة ويستهدف عَيِّنَةَ مدلولاته،وهم رموز السَّاسة من الحكَّام والمهرولين إلى صُناع ما يسمَّى بالسلام المنقوص الذي لا سلام فيه إلَّا العارَ والشنار للموقف العربيّ المتخاذل الجبان. فمن أجل ذلك الفعل التراجعي السلبي وصفهم الشَّاعر بخنازير الخنوع السياسي الذي لا حياء لهم فيه مُطلقاً.

مَقصدياتُ العَتبةِ العُنوانيَّةِ

بهذه الروح الشاعرية الجريئة الهُمامة والواعية الثورية المِقِدَامة وجَّهَ جَنانُ السعديّ سِهام نقده الشعري ولِحاظ نصل قلمه الفكري (البَاشِط)للآخر السَّلبي بنار مصفوفته اللَّاذع (لا حياءَ للخنازير)، وبمنار حبِّه الآسر للحياة. هذه العنونة التي هي بالأساس عتبة ثانويَّة فرعيَّة لقصيدةٍ شعريةٍ ثائرةٍ متميِّزةٍ من نصوص هذه المجموعة الموضوعية المتنوِّعة. ومن باب تغليب إطلاق الجزء الصغير الرافد الفرعي على صورة الكُلِّي الجمعي أخذت المدوَّنة العنوانية اسمها الكتابي اللَّافت من صُلبها.

والتسميةُ الإعلانية للَّافتة الشعريَّة تشي كثيراً بأنَّ العنونة قد تكون بعضاً من عناصر الإدهاش الماتعة، حيث تُجسِّد خطَّ العَلاقة الخطيَّة السيميائية المتعالقة بين واقعة الحدث الموضوعية من جهةٍ والعنونة الرئيسة (هالة النصِّ) الشعرية الموازية للنصِّ (الخطاب)، والتي هي بوابة الشاعر الداخلية المؤدِّية إلى مدينة الشعر الفاضلة من جهة دلالية وفكرية أخرى متناصرة.هذا الاهتمام العنواني هو ماجرت عليه العادة في العتبات النصيَّة الأخرى التي أثَّثها الناقد والمؤلِّف الفرنسي جيرار جينيت.

ولنقراً بعضاً مما يُصرِّحُ به السَّعديِّ في صرخته الشعرية الاستنكارية (لا حياءَ للخنازيرِ) المدوِّية، والتي يستحضر فيها مناجاة الشاعر العربي السوري نزار قباني ويتناصُّ معه كُليِّاً في أحد أبيات قصيدته (المُهرولُون) التي هجا بها موقف الحكام العرب المتخاذلين في دعم عملية السلام المأزوم.

لا يَا نِزارُ

عُذرَاً

خَانَكَ التَّعبيرُ المَجازيُّ القَديمُ

 (سَقطتْ آخرُ جُدرانِ الحَياءِ)

وَهَل لِلخنازيرِ حَياءٌ؟

والعتبة التصديرية الأخرى اللَّافتة هي عتبة (الإهداءُ)التي تكرَّر فيها تمنِّيه لثلاث أُمَمٍ،أمَّةُ القراءة، وأُمَّةُ الاختيار ِالأصلحِ، وأُمَّةُ العيشِ الأفضلِ، والتي أراد بها الخروج من رِحم الذاتية إلى الجمعيَّةِ.

تَأثيثُ المُدوَّنَةِ الشِّعريَّةِ مِعماريَّاً

والقارئ المتتبع النابه الذي يقتفي بحسِّه الثقافي البصري المرئي الواعد الثاقب، ويتوخَّى برؤى عينه النقدية الثالثة آثار حِفريَّاتِ هذه المصفوفة الشعرية المتوحدنة (لا حياءَ للخنازير)، ويجوسُ-على حدٍ سواء- خلال ديارها الشِّعريَّة الرَّخوة والصُلبةِ، سيلحظ باهتمامٍ بالغٍ ذلك التفاوت الكمي المعهود والتحشيد النوعي الموضوعي اللافت المقصود لمعمارية هذه المجموعة التي احتوت أساسات خريطتها الهندسية الأرضية المتماسكة حَبْكاً لغوياً وسَبَكاً دلالياً لسانياً مُحكماً على أربعين نصَّاً شعرياً لبعضٍ من قصائد التفعيلة (الحُرَّة) المموسقة، وقصائد النثر الشعرية الرصينة المتحرِّرة فكرياً وأُسلوبياً بإيقاعها. تلك القصائد الموضوعية المتنوِّعة التي احتلت مِساحاتٍ شعريةً واسعةً من فضاء مثاباتها المكانية الثابتة والمتحرِّرة، والتي ألقت بفيء ظلالها الشعرية الغالبة على أقانيم جغرافيا الفضاء الشعري المتأصل كليَّاً.ويُعزى ذلك لتطابقها إجرائياً مع آليات قصيدة النثر العديدة.

والأكثر إلفاتاً من ناحية الشكل والأسلوب على إنتاجية نماذجها الشعرية المُخَلَّقة في ترافدها النصِّي، أنَّ نصوصها الشعرية المتآلفة تراوحت حركتها الإنتاجية -عمودياً وأفقياً-بين خطِّ القصائد الطويلة، والمَلحميَّة الطويلة جدَّاً، والمتوسِّطة الطول، والقصيرة جدَّاً. وترجعُ رمزية هذا التقسيم الطولي والعرضي اللا إرادي إلى خاصيتي التخاطريَّة (العفوية والتلقائية) معاً التي جُبلت عليها الذات الشاعرية الأنوية لمعجم جَنان السعدي الفكري والثقافي شاعراً وأديباً وكاتباً له بصمته الدالة.

فضلاً عن امتداد طول مقدار الدفقة الشِّعريّة وقصرها التي تُحدِّدها مِساحةُ اللَّحظة الشعورية المتشضية الهاربة من نبع عناصرها الداخلية خلال انبجاسها العيني منها إلى حيز عالمها الفضائي الخارجي الواسع؛ والتي بها تنتهي حركة تلاقي روافد المقاطع الشعرية المُتوحدِنَة بنائياً وعضويَّاً. وبها أيضاً تكتمل وحدة القصيدة وتتشكل فنيَّاً وتخليقياً وإنتاجياً بانتهاء إتمام عناصر الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث الشعرية التي هي جوهر القصيدة الثيمي وأُسها الفكري الهادف للقارئ. ولنتأمل المقطع الأول من مفتتح قصيدته (البكاءُ)كيف يُوظُف أسَ الفكرة الموضوعية؟وكيف يُؤنسنُ الألفاظ المجاورة لها ويمنحها حريَّة الحركة الرُّوحيَّة؟ وكيف يظهر حقول الفكرة ووقائعها الحدثية؟

البُكاءُ فَنٌّ لَا يُفقهُهُ إلَّا المُتخمُونَ بِالوجعِ

حِينَمَا تَتَلَوَّى الدَمعةُ كَراقصةٍ عَلَى مَسرَحِ الخَدِّ

تَتَهادَى النُّفوسُ بِرفْقٍ مُعلِنَةً خًسارَاتٍ تَحتضنُ خَسارَاتٍ

خُذْ دُموعَ الخُذلَانِ وَالغَدرِ

وَقَرابِينَ الأوطَانِ

فِي بَلَدِي حَيثُ سبَايكَرُ

تَمظهُراتُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ

وحين ندقق النظر قصدياً، ونمعن التأمُل الفكري بجماليات التلقِّي المعرفي وآلياته الفنيَّة القرائية لِطَيَّاتِ هذه المدونة الشعرية، سنقفُ أُسلوبياً على بعض ما حوته ميادين أفكار حقولها الدلالية وتمظهراتها الفنيَّة والجماليَّة الضافية التي زخرت بها معمارية هذه المجموعة واحتفت إثرائياً بتنوِّع محتوياتها الموضوعيَّة والفكريَّة التي هي هَرَمُ الخِطاب الشعري وقاعدته الأساسية العريضة التي أُثثتْ بها قصائد هذه المصفوفة الشعرية تأثيثاً احترافياً مُنظماً خاضعاً لتجربة الشاعر الحياتية وفلسفته الذاتية وموقفه الآيدلوجي والفكري والعقائدي الذي انماز به مُعجمهُ الشِّعري عن سواه.

إنَّ آخر ما تشي به خريطة هذه المجموعة هو جماليات أغراضها الشعرية المتعدِّدة، وفنيَّة تقاناتها المتجدِّدة، وبراعة انزياحاتها اللُّغوية والمجازية المتعاضدة، وحسن اختيار تناصَّاتها الكُلية والتحوليَّة المترابطة، وأفكارها التجدُّدية المتفاعلة، وإشارات موحياتها الرمزية والسيمائية الهادفة.

وعلى الرغم من تسيِّد قصائد الرفض والاحتجاج والمناهضة لفلسفة ديستوبيا الواقع اللَّا إنساني المستهلك والمجرد خُلقياً من صفته البشرية،وتغلُّب قصائد أسطرة حِفريَّات أثر المقموع والمسكوت عنه في فضاء يوتوبيا المدينة الشعرية الفاضلة للشاعر جَنان السعدي والتي بلغت أكثر من خمسةٍ وعشرين قصيدةً. فلا نعدمُ في الحقيقة من انتشار قصائد الترويح النفسي، قصائد الغزل العفيف الروحي الصوفي الشفيف الممزوج برائحة الحسِّي الجمالي المُهذب بتوصيفه،العَذِبُ في لُغة تأليفه.

تلك القصائد المائزة بتكثيفها المعنوي والدلالي التي تكرَّرت تردُّداتها في هذه المدونة بنحو خمس عشرة قصيدةً بين طويلةٍ وقصيرةٍ ومتوَّسِّطةٍ.وهي نسبة كبيرةٌ وعددٌ كمي ونوعي لا يُستهان به إذا ما قُورِنَ بالعدد الكُلي للديوان البالغ أربعين قصيدة كما مرَّ بنا. وهذا يشي بأنَّ جَنان السَّعديَّ تراهُ تارةً شاعراً ساخطاً ثائراً لا تأخذه في الحقِّ لومة لائمٍ،وتَراهُ تارةً أو حيناً آخر شاعراً غزليَّاً عاشقا، مُحبَّاً للجَمال والمَرأة والحَياة. ونقتطف في التدليل على ذلك مقطعاً من قصيدته (سَيِّدةُ الضَوءِ)، لنشاهد هِزَّاته النفسيَّة واندهاشه واستغاثته الجمالية بنداء معشوقته الأسطورية التي جعلته يُردِّد كلَّ ياءات النداء مُتسائلاً مذهولاً،وقد تَوَحدَنَتْ تقاسيم حروف المعنى بتراتيل موسيقى الشعر الخارجية:

يَا هَدِيلَ الحُسِن

يَا صَلاةَ الوَسامَةِ

يَا فِتنَةَ الفِتنَةِ

كُلُّ يَاءاتِ النِّداءِ تَصرَخُ يَا فَريدةَ الصَفَحَاتِ

مِنْ أينَ لَكِ تُفاحةُ الخَّدِّ وَبَسمَةُ الثَّغرِ؟

مِنْ أَيِّ الأَعنَابِ عَناقيدُ الصَّدرِ

وَهَيَافَةُ القَدِّ؟

وليس كل هذا مظاهر شعره، فقد مال الشاعر السَّعديّ كثيراً إلى استخدام وتوظيف تقنية التَّكرَار الذي هو عنصر مهمٌ من عناصر كتابة قصيدة النثر وبالأخصِّ إذا كان تَكرَارَاً فنيَّاً مُتجدًداً كما نجده في خطاب الشعر.لذلك قام بتوظيف أنواعٍ من التَّكرَار (الاسمي والفعلي والحرفي والجُمَلي الكلي والجُمَلِي الجُزئي) في أكثر من خمس عشرة قصيدةً من قصائد هذا الديوان وكان تَكرَاراً مُهندسَاً بإيقاع أُسلوب واقعة الحدث التي تتطلَّب التعددية التكرارية لتعرية المقصود واثباته للقارئ. فلنقرأ ونسمع ترددات الفعل (سَرَقَ)ونكشف سِرَّ ترنُّماته وإيقاعه الحدثي الزمكاني الماضي والآتي:

مُولًايَ

سَرقُوا اللُّقمَةَ

سَرقُوا البَسمَةَ

سَرقُوا الآياتِ العُظمَى

سَرَقُوا بَسمَلَةَ القُرآنَ

سَرَقُوا الأحلَامَ الحُبلَى

سَرَقُوا أَحبابَكَ، أَيتَامَكَ وَالجُوعَى

سَرَقُوا اللهَ

سَرَقُوا القَرنَ الحَاديَ والعِشرِينَ

سَرَقُوا حتَّى الشَيطانَ

اِنهَضْ مَولايَ اَعدِلْ كَفَّةَ المِيزانْ

فمثل هذه السرقات القصديَّة التي تردَّدت تسعَ مرات في هذه الدفقة الشعورية لخاتمة قصيدة (انهضْ مُولاي)التي وصل بها حدِّ تجاوز السُّراق على وجه التَّفَنُّن في الكثرة والمبالغة لسرقة حتَّى الله و الشيطان الذي لا يمكن أن يُسرق.وكان الغرض من هذا التَّكرار التقني التردُّدي لتقوية المعنى الدلالي للفعل الحدثي وتأكيد فاعليته ونزع الشكِّ من نفس المتلقِّي والقاري لمتنِ الخطاب الشعري.

وإذا كانَ التَّكرَار اللَّفظي من الوسائل الفنيَّة المُهمَّة التي اعتمد عليها الشاعر في مدونته لفضح أُولئك اللّصوص السرَّاق العابثين بأمور الناس، فإنَّ (التناصَّ النصِّي) الذي هو إدخال نصٍّ جديدٍ بنصٍّ قديمٍ والتعالق معه بفكرةٍ تَحوليةٍ جديدةٍ، يُعدُّ من التقانات الفنيَّة الحداثوية التي اعتمد عليها السعديّ خمس مراتٍ في ثنايا مدونته الشعرية لأسبابٍ تاريخيَّةٍ وإنسانيَّةٍ تعضد جماليات شعره. فكانت توظيفاته للتناصِّ التاريخي الرمزي مرتين لإيثار حِكَمِي عن الإمام علي بن أبي طالب، ومرتين للتناصِّ الديني الكُلي والتَّحوِّلي، ومرّةً واحدةً للتناصِّ الشعري الأدبي لبيتٍ من نِزار قباني:

نَادِ الحَسنَينِ وَابنَ البَدويَّةِ

اِصرَخْ ثَانيةً

الإِنسانُ هُو الإِنسانُ

 (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ أَو نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ)

في حين عكف السعديّ جَنان على استدعاء وتوظيف الرموز التاريخية والدينية والثقافية القديمة والحديثة المؤثِّرة في شعره ستٍ وعشرين رمزاً فاعلاً في شعره بدأ من البطل الغالب علي بن أبي طلب ومروراً بالحسين شهيد كربلاء وسفير طفِّه مُسلم بن عقيل وقائد جيش عَليٍّ الأشتر وبعضاً من رموز الصحابة والموالين لآل بيت النبوَّة كأبي ذَرٍ وسلمانَ وابنَ اليمانَ حتَّى الثائر جيفارا وابن جرداقَ جورج وغاندي محرِّر الهند وانتهاءً بأمِّ (اللُّول)بلوكر الرقصِّ رمزُ وسائلِ الاتِّصال الهابط.

سَلْ أبَا ذَرٍ وَابنَ اليَمانِ وَسلمانَ

سَلْ اِبنَ جِرداقَ

سَلِ الثَّائرَ جِيفَارَا عَنِ الوَصيّ

سَلْ مُحرِّرَ الهِندِ مِنَ نِيرِ الغُزاةِ

سَلْ المُوالينَ والأعدَاءَ

سَلْ مَنْ تَشاءُ

سَلْ الهَواءَ وَالمَاءَ وَالغَدِيرَ

هَل تَجودُ السَّماءُ بِعَليٍّ جَديدِ؟

إنَّ هذه التساؤلات الأمرية المتراتبة تساوقياً لهذه الرموز التاريخية المؤثِّرة التي تكرَّرت سبعاً بعدد أطباق السموات والأرض السبعة ماهي إلَّا تأكيد لرمزيِّة فذةٍ لا تتكرَّر أبداً مثل شخصيَّة أميرِ المؤمنينِ عليٍّ. ويرافق ذكر هذه الرموز تدوين وأرخنةٌ لكثيرٍ من الوقائع والأحداث التاريخية العربية والعالمية الدولية ذات الأثر الإنساني والديني والسياسي الكبير الذي أخذ مِساحةً من التأثير. فها هو الشاعر السعديّ يتناول هذه الوقائع عشر مَراتٍ بمدونته فذكرَ، (غديرَ خُمٍ وواقعةَ الطَّفِّ، وبدرٍاً وحُنينَاً وصفينَ وخيبرَ والجملَ والنهروانَ، وأحداثَ هيروشيما، وأحداثَ التحرير)المُعاصرة:

بُخٍ بُخ ِ يَا عَلِيُّ

أيُّ هَذَا الَّذي مَلَأَ الخَافقينِ

حَيدرُ لَيثٌ كَرارٌ، لَمْ يُدْبِرْ مِنْ مَعركةٍ

تَشهَدُ لَهُ بَدرٌ، خَيبرٌ وًحُنينُ

وَيَشهدُ لَهُ مَرحبُ وَابنُ وُدٍّ قَائِدا الجَيشينِ

عَليٌّ رَبيبُ أحمدَ تِلميذُ الرِسالةِ النَّجيبُ

إذا كانت الوقائع والأحداث التاريخية والسياسية والدينية قد أخذت أهميتها الشعرية ونصيبها الموضوعي في شعر السعديّ فإنَّ المدن والأمصار الحضارية والثقافية والتاريخية قد وجدت لها حظاً وافراً عند السعدي وقد أرخن ذكرها اثنتي عشرة مَرةً لمدن قديمةٍ وحديثةٍ، فأورد ذكر (سومر وبغداد والكوفة ونينوى وكربلاء وصنعاء ولبنان ورفح وغزة ولبنان واسطنبول وهيروشيما). فانظر للسعديِّ كيف يجسِّد بقصيدته (سفيرُ الطفِّ)لمسلم بن عقيل في سفارته ومقتله بمدينة الكوفة:

هَلْ سَمِعتُمُ عَنْ فَردٍ بِأُمَّةٍ ؟

إِنْ كَانَ لِلشَجاعةِ والإِقدَامِ سِمَةٌ وَتَجسيمٌ

هَيأتُهَا، سِمَتُهَا، كَيانُهَا

بِكُلِّ فِخرٍ كَوكبُ الكُوفةِ البَراقُ

اِبنُ عَقيلٍ [مُسلِمٌ] السَفيرُ الَزَاهدُ

أمَّا الحصة الكبرى والكثرة الكاثرة من وثائق نصوص السعديّ الشعرية التي حفل بها (فِهْرستُ) هذه المصفوفة الشعرية المتطاول عليها الزمن بسيف عَادياته المناهضة الكثيرةِ، وهِزاتهِ التاريخية الواثبة الخطيرة. فقد كُتِبَتْ التقاطاتُ هذه المدونة الصورية الإيماجية المؤثِّرة ورؤاها الفلسفية المخيالية المؤسطَرة في ميادين وحقول عديدة جمَّةٍ، واتّجاهاتٍ موضوعيةٍ قديرةٍ لا حصر لها شتَّى.

فكتب جَنان السعديَّ شعرياته بالدرجة الأولى وعلى وجه الخصوص لوجع الإنسان العراقي الحزين والهمِّ العربي خصوصاً، ولمسرح الحياة المائرة بأحداثها (سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعقائدياً). وكتب لحقِّ الإنسان بالعيش الكريم وللحريَّة المفقودة وللجمال الروحي والحسِّي، وللتُراث الديني والتاريخ العربي العراقي القديم والحاضر المعاصر الحديث. وتحدَّث عن رموز الساسة من حكَّام الأُمَّة المتخاذلين الطُغاة والبُغاة. وَوَّثقَ بشكلٍ عينيٍّ خاصٍّ دقيقٍ لصور الواقع ومشاهد عقابيل الراهن السياسي المعيش وبالذات المَقموعُ والمَسكوتُ عنه قصدياً وإرادياً.

ولم يقف السعديّ جنان جانباً دون التصدِّي الحازم في الكتابة عن الواقع الثقافي والإعلامي ذي المستوى الاحتوائي القميء الهابط ومقارنته بواقع فنِّ الإبداع الثقافي الحقيقي المنتج الفريد الرائع:

لِمَ العَجبُ؟ قَدَّمَتْ مَا قَدَّمَتْ

 (أُمُّ اللُّولِ) خَيرُ مَنْ نَفَخَتْ

هَزَّتِ الأَردَافَ وَالقُلُوبَ أسَرَّتْ

بَينَ الثَّنَايَا جَوازَاً دُبلومَاسِيَّاً خَبَّأَتْ

أينَ الغَرابَةُ وَالعَطَب؟

هكذا يتساءل الشَّاعر في مطلع قصيدته (شهاداتٌ خاصةٌ)آسفاً غيرَ مُتعجبٍ، مُستنكراً بألمٍ وحرقةٍ واستخفافٍ مُرتَّلٍ موقَّع الأثر عما آلت إليه مشاهد وصور مرآة الواقع الثقافي والاجتماعي العراقي الجديد، والذي أضحى واجهة للراقصات والغواني المُبتذلات من أمثال النكرة (أُمِّ اللُّول) وتوابعها الرخيصة حتي وصل به الأمر في ختام القصيدة إلى ذمٍ تلك الأمَّة التي تتسيَّدها تلك المظاهر بتناصٍ قرآني وُصفتْ به امرأة أبي لهب في كُفرِها ومُجونها وخُروجها عن واقع الملَّة والعرف:

كَفَاكِ حَسَدْ

أُمَّةٌ تَعلُو (لَولَوَاتُها) المَشهَدَ السَّياسيَّ الرَّسمِيَّ

حَتْمَاً دُونَ شَكٍّ فِي (جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدْ)

ولم تأخذه لومة لائم في مصوراته الشعرية الباذخة، واستنكاراته الذاتية والجمعية اللَّاذعة في الكتابة عن أطفال غزة والعراق واليمن وما يحدث من تدنٍ قصديٍّ لسياسة الراهن العربي المعيش. فكان السعديّ خير الشاعر الراصد المُعين لقضايا أُمته وشعبه؛ كونه مرآة آلامه وضميره الناطق:

أَطفالُنَا فِي غَزَّةَ كُلُّ يَومٍ فِي الجِنَانِ

يَعتمرُونَ يَلعَبُونْ

وأَطفالُ اليَمنِ والعِراقِ

يَنشدونَ المَوتَ لِلطُغَاةْ

يَنشدُونَ لَا لِلظُلمِ لَا لِلغُزاةْ

حَليبُهُم ثَديُ الأُمهاتِ وَغِرينُ الفُراتْ

أُسلوبيَّةُ السَّعديِّ الشَّاعريَّة ومُعجميتُها

إنَّ أهم ما يُميِّز أسلوبية الشَّاعر جَنان السعدي وذاته الشاعرية في مُعجمه الشعري الفارق في مثابات مدونته الشعرية الشاخصة بعنوانها الماثل (لا حياءَ للخنازيرِ)، وفي مرافئ سفن محطَّاته الفكريَّة الرَّاسية بشراعها الحركي على ضفاف الإبداع والابتداع الفكري،هو جماليات لُغته الشعريَّة التي كُتبت مضانها التركيبة بلغة فنيَّةِ (السهلِ المُمتنعِ) الشفيف الماتع بقراءته التواصلية الذهنية.

تلك الخاصيَّة التعبيرية المتمايزة التي لا تعتمد كثيراً بالدرجة الأولى على فَنِّ بلاغة مُدخلات الصور الشعرية المخيالية أو الحسيَّة المؤثِّرة نفسياً بالقارئ بقدر ما تعتمد إبداعياً وفنيَّاً كثيراً على وقع مؤثِّرات عُمق الفكرة المحورية البؤريَّة الساطعة وقوَّة شحنتها التأثيريَّة المُناسبة للواقعة الحدثية، ومن ثمَّتَ مزيَّة الاهتمام بمخرجات ثيمها الموضوعية المتواترة إيقاعياً وأسلوبياً وتمكينيَّاً.

على وفق ذلك فإنَّ النسق الفكري الثقافي الثيمي للشاعر سواء الظاهر أمْ المضمر لواقعة الحدث الشعرية عنده هو، أولاً في المحلِّ، وأمَّا مخايل الصورة البلاغية الفنيَّة فهي ثانياً، أي في المحلِّ الثاني من مُحطات قواعد فنِّ هذه الشعرية التي تسير عند السعديِّ على خطى حقلٍ خطيرٍ مُعبَّأٍ مليَّاّ بموضوعات الألغام الفكرية المدويَّة، وعلى فعلِ سلكٍ رفيعٍ من صيحات المُتفجرات الشعوريَّة الناهضة التي تهتم أُسلوبياً بقضايا وهموم الإنسان الواقعية، وتبني وجع أحلامه وحجم آفاق تطلعاته الذاتية والمستقبلية الاستشرافية التي هي بالأساس هموم ذاتية جمعية كونية مشتركة في التصدِّي لرهانات الواقع الاجتماعي الشعبي المتهالك الآيل للسقوط والانحدار العطبي.هذا يشي بأن السَّعديَّ صاحب مشروع شعري فكري ثقافي لا يحيد عن طريق سكَّتِهِ التي أسس قواعدها الشعرية الثابتة.

هذه اللُّغة الشعريَّة الطواعيَّة الابتكاريَّة الموجعة التي شيَّد بناءها الهرمي المتنامي الشاعر جَنانُ السعديّ، تلك المعيارية المتلازمة لمظاهر الشاعريَّة الحسيَّة المُتقدة، وروافد المخيالية الانزياحية المُتفجِّرة انحرافياً في تخليق صورها ومعانيها ودلالاتها اللِّسانية النصوصية لم تأتِ ثمارُ أُكُلِهَا الإنتاجية صدفةً عابرةً لخطى الشعرية في رياحها الهُبوبية اللَّاهبة لفكر وسمع القارئ عرضياً.

في واقع الأمر هي نتيجةٌ حتميةٌ عن حصيلة تزاحم ثراء تجربته الشعرية الفذَّة وتراكم خزينه الحياتي والثقافي المعرفي المُكتسب، ونتيجةً لاستعداده الفطري التأثُّري لرؤى الشعرية التي تغلبت عناصرها على زمام شخصيته وَحَزَبَتْ أناهُ الشاعريةَ المتفاعلةَ. فكانت الموهبة الشعرية بملكتها الذاتية والجمعية الموحدنة حاضرةً في كل الوقائع والأحداث والمحافل والمناسبات الأرضية التي تتطلبها المواقف الوطنية الحقة في تعضيد بنيان الجامعة الإنسانية وإسناد جدرانها بالإبداع الفنِّي.

إنَّ معيار حقيقة النقدية الشعريَّة لنصوص قصائد النثر والتفعيلة في مجموعة (لا حياءَ للخنازيرِ) يشي بإنصافٍ وعدلٍ وتجريد ونكران ذاتي لغير صفة الحيادية بأنَّ قوةَ شعر الشاعرية لجَنان السعدي لا تكمن في تنامي أثر معجميته الشعرية النسقية الظاهرة فحسب؛ بل تكمن-حقاً- في وثوقية صدقه الذاتي مع نفسه أولاً، ومع علاقته و صدقه بمحيطه الشعبي الخارجي الجمعي ثانياً.

وتكمن أيضاً في تعزيز قوَّة انتمائه الأرضي المبدئي الثابت،فصارَ جَنان السعديُّ وفق عُرَى هذه العَلاقة من المصداقية مجساً ضوئيَّاً شعريَّاً لاقطاً لصور الحقيقة، وهاجساً فكرياً قلقاً يستشعر بحبٍّ وألمٍ عبر إرساليات أثير مجسِّه الشعري وقلمه التواثبي هُمومَ الناسِ ومعاناتهم لأولئك المجهولين والمهمشين والمغيبين من أبناء الشعب. ويتحسَّسُ آهاتهم ووجع جراحاتهم وأنين آلامهم اليومية المتصاعدة، ويستنطق بفم مرآته الشعرية صراخاتهم الإنسانية المثيرة، وصيحاتهم الآدمية الأثيرة التي سرقتها منهم حشود عملاء الدولة الخفيَّة العميقة فغيَّبتها لمصالحها الذاتية والشخصية الخاصَّة.

فما كان من صدقه الواعد إلَّا أنْ يكون تُرجماناً حقيقياً بيانياً فصيحاً مُعبِّراً عن جَام غضبه الثائر وتذمُّره وسخطه النفسي العارم الفائر على أولئك البُغاة الأشرار الفاسدين من الذين عاثوا في أرض الطُهر فساداً وخراباً، وأحالوا كلَّ ألوان الجمال الطبيعي الحقيقي في الحياة إلى بُورٍ يبابٍ. وعلى إثر ذلك الإيثار النفسي الكبير أضحى جَنانُ السعديُّ، الشاعرُ والإنسانُ والمكافح رَجُلاً بِأُمَّةٍ، وَأمَّةً بحاجةٍ لكلِّ أولئك الرجال الحقيقيين المدافعين عن نصرةِ الحقِّ المُبين من أمثاله الواعدين بالصدقِ.

***

تَقديمٌ:

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

يوليو/ تموز 2024م

 

في المثقف اليوم