قراءات نقدية
بهاء بن نوار: نهاية الصحراء: القارئ يختار
لعلّ أهمَّ ما يلفت انتباهَ قارئ رواية "نهاية الصحراء" للجزائريّ "سعيد خطيبي )ط1: 2022) بناؤها السرديُّ المرتكِز على حبكةٍ بوليسيّةٍ، تُفتتَح الأحداثُ فيها بمقتل مغنيّةٍ شابّةٍ تُدعى: "زكيّة زغواني" تعمل في فندقٍ سياحيٍّ اسمُه: "فندق الصحراء". يمكن للقارئ أن يُوجِّه تلقِّيَه نحو هذا الحدثِ المفصليِّ، ويتوغّل في تفاصيله مثلما يتوغّل قارئُ أيّة روايةٍ بوليسيّةٍ، تتأسّس جماليّاتُها على تعدُّد الاحتمالات، وتكاثف الاشتباهات، التي لا بدّ أن تُتابَع باهتمامٍ، ليُحتفَظ ببعضها، ويُقصى بعضُها الآخر، إلى حين الوصول في الختام إلى حلِّ لغز الجريمة، والتعرُّف إلى هويّة القاتل، الذي غالبا ما لا يكون ضمن دائرة التخمين والشكوك. ومن هذه الناحية يمكن أن نسجِّل براعة الكاتب في نسج حبكةٍ بوليسيّةٍ متينةٍ، بدت معها أغلبُ الشخوص مُشتبها فيها، وبدت بريئةً أيضا؛ فمن ناحيةٍ يُوجَّه الاتهامُ رسميّا إلى "بشير" حبيبها، ولكنّه من ناحيةٍ ثانيةٍ يدور أيضا بشكلٍ غير رسميٍّ حول كثيرين ممّن عمد الكاتبُ إلى ربطهم بالمجنيِّ عليها في شبكةٍ من العلاقات الغامضة الملتبسة؛ كإخوتها الناقمين عليها سلوكَها ومهنتَها، و"الشيخة ذهبيّة" منافستها التي من مصلحتها التخلُّص منها، وسكّان المرج النازحين "أبناء الحرام" الذين ربّما قتلها أحدُ مشعوذيهم، و"فرحات" عازف المرقص الذي طُرِد بسببها من عمله، و"كمال" موظف الاستقبال الذي كانت تبتزّه بعد أن كشفت قتلَه للسياسيّة "مرزاقة"، أو "ميمون" مالك الفندق الذي كان سيتزوّجها، وخشي طمعَها في أملاكه، أو "ميلود" منافسه الذي ربّما فعلها انتقاما منه لامتناعه عن بيعه الفندقَ، أو لعلّها زوجته الغيور "الياقوت"، أو ابنه "مهدي"، أو خطيبها السابق "بنسالم"... أو ربّما "حميد" المكلَّف بالتحقيق في مقتلها بعد أن صدّتْه، أو لعلّ أحدا من هؤلاء لم يقتلها، ولقيت مصرَعها كما افترض الطبيبُ الشرعيُّ إثر سقوطٍ مميتٍ في أرض المرج الوعرة، وهنا يكون "عزرائيل" هو الذي فعلها، كما ردّد "كمال" في أحد المقاطع (ص: 161).
هكذا تسير حبكة الرواية سيرا تصاعديّا لا يملك معه المتلقِّي سوى مواصلة القراءة بحثا عن هوية القاتل، الذي يتفنّن الكاتبُ ببراعةٍ في تمويه ملامحِه، لتتكشّف في الأخير، ونعرف أنّه "كمال" بالتعاون مع حبيبته المحامية "حسينة"!
ولكنْ، هل هذا كلُّ شيء؟ هل يمكن أن يراهن كاتبٌ مهمٌّ مثل "خطيبي" على حبكةٍ مُستهلَكةٍ ينتهي بريقُها بانتهاء القراءة الأولى؟ شأنها في هذا شأن جميع الروايات البوليسيّة التي تُدرَج ضمن ما يُعرَف بالأدب الهامشيّ/ الموازي (Paralittérature) لم يحمله النقّادُ يوما على محمل الجدّ، لأنّه في نظرهم لا يرتقي إلى مرتبة الأدب الرسميّ؛ أدب الحياة والفكر والواقع.
هنا يأتي دورُ قارئٍ من نوعٍ خاصٍّ لا تشغله تفاصيلُ هذه الحبكة الخارجيّة، ولا يُغريه احتدامُها، لأنّه سيمضي نحو ما هو أبعد؛ نحو "الجريمة الكبرى" جريمة "قتل الوطن" التي تُقترَف علنا على غير بقيّة الجرائم، حيث الكلُّ جناةٌ ومجنيٌّ عليهم، قضاةٌ، ومُدّعون، سجّانون، ومسجونون، على غير بقيّة الجرائم أيضا، عند هذا المستوى الغائر من السرد يبرع الكاتبُ في بسط تفاصيل هذه الجريمة بحبكةٍ محكمَةٍ، تتخلّل وعيَنا بتأنٍّ، وعلى جرعاتٍ خافتةٍ، تبدو في كثيرٍ من المقاطع غير مقصودةٍ، لكنّها مقصودةٌ جدّا ومُتوخّاةٌ من الكاتب، الذي ينقلها إلينا بحذقٍ شديدٍ، وبعفويّةٍ كبيرةٍ من الشخوص في تداعيات أفكارهم، وتفاعلهم مع محيطهم، وهذا اعتمادا على تقنيّة تعدّد الأصوات، حيث تُدلي كلُّ شخصيّة برأيها ورؤيتها لما يدور حولها من تغيُّراتٍ وأحداثٍ، لا يغفل الكاتبُ عن التأريخ لأغلبها. وكما تتراصّ مُكعّباتُ الفسيفساء، وتحقِّق بتلاحمها جماليّة اللوحة ومعناها، كذلك تتراصّ أصواتُ الشخوص في هذه الرواية، لتُكوِّن في مجملها فداحة الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ في جزائر الثمانينيّات وما قبلها، هنا على القارئ أن يشحذ وعيَه كاملا، ويتلقّف مكعّبات الواقع قطعةً قطعةً، ليضع كلَّ واحدةٍ منها في مكانها، فتكتمل لديه عندها دمويّة المشهد، وتحضر جميعُ ملابسات "الجريمة" التي لن يُحاكَم فيها أحدٌ، ولن يُدان، شأنها شأنَ جميع الجرائم الكونيّة الكبرى: أليس مَن يقتل فردا يُدعى مجرما، ويُقتصّ منه، بينما مَن يقتل الألوفَ أو الملايين يُدعى بطلا، وقائدا مُفدّى؟
ولنحاولْ تأمُّل بعضَ هذه الملابسات على عجلٍ؛ فمثلا تلوح في كثيرٍ من المقاطع مشاكلُ الفساد والرشوة والواسطة والغشّ، والاحتكار، والاختلاس، والتسوُّل، والسرقة، وتفاوت الأرزاق، وضعف البنى التحيّة والفوقيّة، كأزمة ندرة الموادّ الغذائيّة الأساسيّة، واختفاء الأدوية الضروريّة من الصيدليّات، وانقطاع الماء عن البيوت، ومثله الغاز، والبنزين، والكهرباء، إلى جانب إهمال الفكر والثقافة، فلم تعد مكتبة البلديّة سوى وكرٍ للعشّاق المراهقين، ولم يعد للناس من يقينٍ سوى ذاك الذي تقرّه الخرافات والأوهام والشائعات؛ لم يعد يريحهم سوى الهرب وتخدير آلامهم بالجنس أو الحشيش، أو الخمر، أو ارتياد المراقص، أو زيارة الأولياء أو هوس كرة القدم أو الهجرة بعيدا إلى ما وراء البحار، أو قهر الإناث من ذويهم، أو ارتكاب الجرائم ودخول السجن، أو الجنون أو الانتحار... لم يعد الواقع يُطاق، فلا الحاضر حيث البقُّ والصراصير والجراد يبشِّر بخيرٍ، ولا الماضي المثقَل بالأحلام الكبيرة استطاع أن يستوفيها، لم يُضبَط شيءٌ، ولم يحصل أحدٌ على ما يستحقّ: الفاسدون والمرتشون ملكوا الأرضَ والعبادَ، والمخلِصون والشرفاء أهينوا وشُوِّهت سيرتُهم، باختصارٍ شديدٍ، وكما جاء في الرواية في أكثر من مقطعٍ: "الداب راكب مولاه" ولذا لا مفرّ من الانفجار المدوِّي بدءا بالإضرابات التي اشتعل فتيلُها في "تيزي وزو"، وانتشر في بقيّة الولايات، ومرورا بأعمال الشغب التي رافقتها، وتحطيم الممتلكات العامّة والخاصّة، وصولا إلى العنف الشنيع وحملات الاعتقال التي انتهت بها، وكان أحدها وياللمفارقة! من نصيب "إبراهيم درّاس" وهو الشخصيّة الوحيدة التي لم يُعنوَن أيٌّ من الفصول باسمها، بل دُوِّن التاريخ فقط، لتكون شاهدا على الأحداث، ومحورَ العبث والمفارقات كلِّها؛ فهاجسه الكبيرُ كان العثور على ما يفيد أنّه ابنُ شهيد، فيحصل وأمّه على ما يحصل عليه غيرهما من أموالٍ وامتيازاتٍ، ويُعفى كغيره من أبناء الشهداء من واجب الخدمة الوطنيّة، فيحظى بوظيفةٍ رسميّةٍ بدل هدر الوقت في محلِّه البائس لتأجير الأفلام. وهو ما لم يحصل عليه، رغم استحقاقه له، لأنّ "ميمون" الذي عرف كيف يجني ثمارَ النضال شوّه سيرة والده المجاهد العريق، وجعله "بيوعا" مكروها. ولم يتوقّف الظلمُ الواقعُ عليه عند هذا الحدّ؛ ففي فورة الأحداث الدامية تمّ اعتقالُه للاشتباه في مشاركته في أعمال النهب والشغب، مع أنّه حينها كان في السجن لتهمةٍ أخرى!
أعتقد أنّ هذا المستوى من القراءة هو ما يشكّل جوهرَ هذه الرواية وعصَبَها العميق، وقد تعمّد الكاتبُ ألّا يربط الأحداثَ بمدينةٍ بعينها، بل اختار إحدى مدن الصحراء لتكون إيماءً مكانيّا لجميع مدن الجزائر، فكان ممكنا أن يختار إحدى المدن الجبليّة، فيصبح على سبيل المثال "مطعم النخيل" "مطعمَ الروابي" و"دوار الإبريق" "دوّارَ السنديان" و"فندق الصحراء" "فندقَ القِمَم" و"محلّ وردة الرمال" "محلَّ زهرة الجبال" أو يختارها ساحليّة، فيطالعنا حينها: "مطعم المحيط" و"دوّار الدلفين" و"فندق الأمواج" و"محلّ نجمة البحار" ليس مهمّا المكان، بل المهمّ ما يحدث فيه، وقد نجح الكاتبُ في رصف الأحداث ببراعةٍ عالية، وذوقٍ أصيلٍ. وهنا أنتقل إلى مستوى آخر هو مستوى اللغة السرديّة، وقد برع الكاتبُ في تطويع الأمثال الشعبيّة، والمأثورات الغنائيّة على ألسنة شخوصه، كما برع أيضا في سوْق كثيرٍ من التشبيهات الطريفة في خطابه، مثل: "جلد رقبته مجعَّدٌ مثل ثوب لم يُكوَ"(ص: 136) "كما لو أنّ معدته بالوعة" (ص: 174)
ولكنّه من ناحيةٍ ثانية، لم يُحكمْ نسيجَه اللغويّ في كثيرٍ من المواضع، فأتت لغة السرد – دون الوقوف عند بعض الأغلاط اللغويّة الواضحة – ركيكةً وضعيفة، مثل: "جرحت عزّتَه بالنفس" (ص: 187) "فقِهتُ أنّ" (ص: 46) "يتفخّر" (ص: 211) "لم يبزغ في بالي" (ص: 261) "يتجشّمن فظاظة الكلام" (ص: 91) وغيرها كثيرٌ، ممّا يثير الحيرة حقّا: ما الذي يدعو الكاتبَ إلى الوقوع في مثل هذه التعابير الركيكة؟ تماهيا مع الواقع الركيك نفسه؟ أم سهوا واستعجالا؟ هل ضعف لغة السرد يضعف بناءَه؟ أم أنّ متانة البناء تمحو كلَّ خللٍ ينتاب أيَّ عنصرٍ آخر سواها؟
القارئ وحده هو الذي يختار، ويقرِّر: إمّا أن يعتبر ضعفَ اللغة عاملَ ضعفٍ قاتلٍ في العمل، وإمّا أن يتسامح معه مكتفيا بعمق الحبكة المفصليّة، أو لا ينتبه إليه، وهذا إذا كان وعيُه لا يتجاوز الحبكة البوليسيّة الظاهرة. وما أراه هو أنّ هذه الرواية – في حدود ما قرأتُ – كان من الممكن أن تكون من أهمِّ ما كُتب عن جزائر الثمانينيّات، ومن أهمِّ ما وَثّق لأحداث أكتوبر الدامية، لولا أنّ بناءَها اللغويّ لم يُعتنَ به جيِّدا: الروائيّون ملتقِطو واقعٍ، وعُشّاقُ لغةٍ، وإن تخلّوا عن الشقِّ الثاني فقدوا كثيرا من جوهر فنِّهم، وتحوّلوا إلى صحافيّين.
***
ا. د. بهاء بن نوار/ الجزائر