قراءات نقدية

جمعة عبد الله: عطر الكلام في الديوان الشعري (وانا كل الكلام) للشاعر طارق الحلفي

قصائد تزدهر بوهج الابداع، ملتهبة بالاحاسيس الوجدانية العميقة، التي انطلقت من عقالها الكامن لتغرد بشفافية بليغة بالمعنى والمغزى، في وضوح المراد والغاية في الصور التعبيرية، التي لامست شأن العشق الحياتي، وسهام الحنين والشوق، من خلال السيرة الذاتية الطويلة في سفرها وتنقلها في محطات سنوات العمر المتنوعة، وجدت الفرصة السانحة لهذا البوح بصدق نوايا القلب، في العزم في مواصلة طريق الكفاح، مهما بلغت الجروح والمحن والمعاناة، مهما كثرت العثرات والمطبات،  في الاشتياق العارم الذي يلعب داخل القلب، ويدفعه عنوة إلى المواصلة و العناد بالتشبث بالحياة، في هذه الذكريات الدسمة من حصاد العمر التي سطرتها القصائد الشعرية، تلألأت بهذا الإنشاد المترنم في ابتهالات الروح، ترنمت بنغمات مختلفة من الإيقاعات والتقاسم الشعرية في مفاصلها الدالة، بهذا الشريط الحياتي الطويل المنقوشة في وشمها على صدر السنين الطويلة، وتدل ايضاً على السمة الزاهية في الارتباط الحياتي المفعم بالحركة والفعل، الذي يملك الإدراك والفهم لمعاني الحياة في أزمنتها المختلفة والمتقلبة، تراوحت بين الشوق والحنين والغربة، في عالم مليء بالزيف والغدر وسؤ النوايا، عالم يتجه بكل عنفوانه الى الحصار والحروب والخراب ودمار الإنسان، لكن العناد الحياتي بالشوق والاشتياق يدفعه إلى مواصلة الدرب مهما بلغ الثمن الباهظ.. نجد في ثنايا قصائد الديوان الشعري الذي يضم 34 قصيدة متعددة الصياغة الابداعية والاغراض التعبيرية، في عذوبة الصوت الشعري، في حلو الكلام وفي المخاطبة والجدل في داخل الروح والقلب (وأنا كل الكلام) صوتان منصهران في صوت واحد، الشاعر وكل الكلام، كأنه يغرد بزقزقة العصافير في ابتهالات الحب، رغم الأهوال والعويل، لكنه يدرك رسالة القلب مرسومة بنشوة الوئام والسلام في داخل مشاعره، انهالت بمطر ذكريات العمر بهذا الشريط الشعري. نقتبس من فيضه هذه المقاطع الشعرية الدالة في مدلولاتها البليغة.

1 - ماذا سيحمل العام الجديد؟ لا شيء سوى انه سيكون نسخة من سلفه، ألم يكون أسوأ، في الاضطراب والارتباك والتيه والخراب، وطعن الامال بسكاكين قاتلة، لقد خلق هذا الواقع المزيف، آلهة أو ارباب، أو الاصنام مزيفة تتاجر بالدجل والمكر، تخدر المواطنين بعلكة الأدعية والتعاويذ والحجاب والرجاء الذليل للركوع تحت اقدامهم، لن يكون هذا العام الجديد أقل خراباً وكارثة، أقل جنوناً وظلاماً، اقل تناحر الثيران الهائجة على الاستحواذ والاستيلاء، وهي تصعد على أكتاف الخائبين، لن يكون اقل حروباً وحصاراً وظلماً، كل الدلائل تؤكد انهم سائرون على نهج الخراب والحروب بنكهة المجانين.

قد دَخَلنا..

مشجَبًا تَرقدُ فيهِ جُثّةُ العامَ الجديد

وفيوضٌ مِنْ صِياغاتِ التواريخِ اللّئيمةْ

وذيول من خيول الغابرين

قد نَسيْنا قَبْضَةَ الدّرْعِ وصَدّقنا الرَّخاءْ

وحَلَلنا رَبْطَةَ الصّدقِ وأبدَلنا القِناعْ

كالأميراتِ السّبايا

نَسْتَرِّقُ السّمعَ من جُحْرِ العدوِ

علّهُم يَرضونَ عَنّا.. عاهِراتْ

 من قصيدة: متاهات العام الجديد.

2 - هذا حال العراق التعيس مع تموز المتقلب بين النار الساخن والملتهب، انه على خط الاستواء بين الجحيم والمعاناة. والخراب يتعمق أكثر فأكثر، سواء كان تموز حياً أو ميتاً، لا فرق بين الاثنين. على سعير النار يحترق الأخضر واليابس، فكل مجيء لتموز لنا مأتم وحداد، وتبقى تنتظر النوارس، تتجول في سماء الغربة وقلق المنفى. فمتى تدق ساعة العمل؟ ونقول: حي على خير العمل.

تموز مات

حَيِّ على الحياة

تموز قام

حَيّ على خَيرِ العمل

لم يبق في العراق من اَمل

المِلحُ في النصال

والخَسفُ في الرجال

والموتُ في مُغتسل العورة في العراء

والماء في مِعصِرَةِ الهواء

وهدهدُ التاريخ في اسرة القصب

يُعيرُ رحلة الجهاد مرةً لرِيبة الجسد

ومرة لعِمَّة الرَّمَد

ونحن في بوصلةِ المغيب

لقالق الهجرةِ للأبد

حي على خير العمل.

من قصيدة: فريضة العمل

3- يتناغم الواقع المر على معزوفة الحلال والمباح شرعاً بناموس الشيطان، كأن من امتلك صولجان السلطة والنفوذ، حل محل رب العالمين، يلعب ويخرب بما يحلو له المذاق والمزاج، في المتعة الجنة الفردوسية، يتقمصون كل الأدوار من الكذب والرياء والنفاق، فطالما لبسوا جبة الدين، أذن امتلكوا الارض والسماء، على نحيب الثكالى والمحرومين. يغتسلون في شفاعات الفتاوى، التي تبيح لهم كل شيء حلال.

وإذا لامستمُ السلطةَ يوماَ فاستحموا

من زلالِ الهاوية

او تضمخْ بالعماءِ

فهوَ حَدُّ الزانية

فالوضوء باختزالات الحلال

سيكون بالحلال

كل شيء بالحلال

فالزواج في شفاعات الفتاوى

بالحلال

والدجاجُ بالحلال

والخياناتُ نذور في مضافات التملك

بالحلال

وليالي الرقص حتى مطلع الفجر المعنى

بالحلال

من قصيدة: المال الحرام

4 - التوغل في مفاصل الحياة والوجود، بوعي وادراك وفهم ناضج، تزدهر القيمة الحياتية والانسانية، وتثمر في براعمها وفاكهتها الناضجة، فهي تنهل في الارتواء من الماء العذب، لذلك تعطي قيمة للشاعر ان يكون مرآة حقيقية للواقع، بدون تساوم وتهاون، لان ضميره حياً يحب الجمال ويكره القبح، ويترنم باحلى الكلام.

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

من قصيدة: وانا كل الكلام.

5 - اللهفة المرهفة الى وميض الحب وصداه يتناغم مع شغاف القلب، في أعماق الحواس الداخلية، حتى بحبها وطيشها المتبعثر والخائب، فتظل الروح تتطلع الى عناقيد العنب الدالية، فالحياة لا تسمو إلا مع الحب، والحياة لا يكمل قمرها إلا بالشوق والاشتياق، ولا تدع القلب يهدأ إلا بهما، بغواية الحب، يفيض بالقلب نغماً وطرباً.

قُلتُ يَومًا للذي لَوّعَني داخَل صَدري:

دَعْ شَفاعاتِ الغوايةْ

دَعْ مِنَ اللّوعَةِ روحي والضَّياعْ

دَعْك من قولِ النساءِ

والوَميضِ الغضِّ

ما خبَّئن سرًا

تحت ياقوتِ صَداريهُنَّ يومًا

من ينابيع الكلام

دعك منّي

فَلِماذا...؟؟

كُلّما رَفَّ جَناحٌ

رفرفت روحك بالبهجة وامتد حبورك

ولِماذا لا تَدعْني أهدأ الليلَ

لماذا لا تَدعني

***

جمعة عبدالله

 

في المثقف اليوم