قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: مهرجان كركوك لمسرح الشارع – تنوع المسارات وتعدد الرؤى والاتجاهات
إقامة المهرجانات والعروض والمعارض الفنية والندوات والمؤتمرات ظاهرة ثقافية حضارية مهمة تتضمن دلالات تعافي المجتمعات، وارتقاء الوعي وتنمية الذائقة والحس الجمعي، وإكساب الإنسان المزيد من التوجهات المفيدة، والقدرة على فرز النتاجات ذات المضامين والأساليب الراقية عن النتاجات المتدنية.
قدم في مهرجان مسرح الشارع في كركوك - الدورة السابعة بتاريخ ١٩- ٢١/ ١١ / ٢٠٢٣ أكثر من عشرين عرضا مسرحيا متنوع الطروحات والتوجهات الفكرية والفنية، وهذا أمر طبيعي في المهرجانات كافة، ولكن ما تفرد به المهرجان هو فتح بوابة جمالية جديدة نأمل أن تحذو حذوه فيها المهرجانات الأخرى اللاحقة، وذلك حين جعل للمهرجان بأربعة مسارات:
المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.
المسار الثاني: العروض العامة ذات المضامين الموجهة للمجتمع المحلي.
المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات / الشباب.
المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال.
وذلك استنادا إلى أن مسرح الشارع واحد من أنواع المسارح التي:
1. تسعى إلى جذب المتلقي بالذهاب اليه، ولا تنتظر قدومه إليها.
2. تقدم مضامين تمس حياة المتلقي بصورة مباشرة ومكثفة.
3. تسهم في صناعة جمهور مسرحي وتنمي ذائقته الجمالية.
فيما يلي عرض لنموذج أو أكثر من المسارات الاربعة:
نموذج المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.
قدمت فرقة (كويا) من مدينة كويسنجق - اربيل مسرحيَّة (رسائل البحر) أداء (هونر محي طاهر - دكتور كيفي أحمد عبدالقادر - فريدون حمد أمين) في مجمع (بوليفارد) للتسوق.
بدأ العرض مع الموسيقى، دخول اثنين من الصيادين، يسيران بحركة إيقاعية، يحملان أدوات الصيد (دلو وسنارة) ومفارقات كوميدية بسبب صعوبة تفاهم الشخصيتين، فهما يسيران، يصطدمان ببعضهما، وعندما وجدوا شيئا مهما في حوض النافورة أحدهما يطلب الصمت والآخر يصدر ضجيجا، أحدهما يجد صعوبة وشقاء وعناء لفتح الكرسي المحمول لغرض الجلوس والآخر يأتي إليه ويفتح الكرسي ببساطة وسهولة، وعندما ينوي الجلوس على الكرسي يسحبه الآخر من تحته فيسقط أرضًا، وحالما يقشر موزة ليأكلها يأتي صاحبه ويأخذها منه فجأة ليعطيه قطعة صغيرة منها ويأكل هو الباقي، وهكذا تستمر المفارقات.
شخصيتان تم طلائها بلون ذهبي من أعلى الرأس وحتى الحذاء، انهما صورة جمالية للصيادين جميعا، يبدأ الصيد بواسطة السنارة، ولكنهما يتركان الصيد، ويسحبون شبكة صيد، لا يستطيعان سحبها من الماء بمفردهما، تتم دعوة اثنين من الجمهور للمساعدة في سحب الشبكة، المفاجئة هنا هي أن ما موجود في الشبكة ليس سمكًا -كما هو متوقع- بل علب مشروبات غازية وقناني ماء فارغة وأحذية تالفة وقطع بلاستيكية وبعض الكائنات البحريّة المشوهة بسبب ما ابتلعته من نفايات.
ثمة تركيز واضح على وجود النفايات في المياه مما يقتل الكائنات البحريَّة ويجعل المياه ملوثة، لم يقل الممثلون كلمة واحدة ولكنهم أوصلوا رسالة بليغة.
استند العرض إلى فكرة موجودة ومتداولة كثيرا في العديد من المجتمعات، وتعمل عليها الحكومات والمنظمات بالندوات والمؤتمرات والملصقات الدعائية، وجميعها صيغ وطروحات مباشرة، أما العرض المسرحي (رسائل البحر) فقد عمل على تأطير الفكرة بجماليات جعلته جاذبا ومتفردا، فقد حضرت الكوميديا ووحدة الحدث وسادت فكرة أساسية على وفق ايقاع محكم، فضلا عن توظيف المكان.
نماذج المسار الثاني: (العروض العامة) وهي التي تتناغم مع اتجاه الرأي العام وتوجهه:
عرضت في باحة المركز الثقافي يوم ١٩ /١١ مسرحية (مسافر من غزة) تمثيل (موختاري محمدي) وإخراج نجاة نجم، تناول العرض القضية الفلسطينية وتضحيات غزة وصمودها، وهو عرض مونودراما باللغة الكردية ، امتلك العرض وضوح الفكرة من خلال مفردات العرض غير الحوارية مثل الطفل المضرج بالدماء، العلم الفلسطيني، تعطير الجو برائحة البخور، طغيان صرخات غاضبة موجهة إلى الجمهور مباشرة، ومثيرة للتفاعل الوجداني، في نهاية العرض وزع الممثل طرود بريدية ملطخة بالدماء على عدد من المتفرجين وعند فتحها، كانت الصدمة، اذ كان في كل طرد حذاء ممزق ومدمى.
وغزة كانت حاضرة أيضا في عرض مسرحية (رسائل) الذي قدمته شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية المقدسة يوم ٢٠/ ١١،باللغة العربية، توليف وإخراج صادق مكي وتمثيل جعفر الأمير، قدم العرض في مجمّع (بوليفارد) للتسوق، وقد استخدم مفردات الكوفية الفلسطينية، وفرش مساحة التمثيل بالتراب واستخدم عبوات الدخان في إشارة واضحة للحرب، وقطع قماش بيضاء للدلالة إلى الأكفان والموت المحيط بالمكان فضلا عن لغة الحوار التي أفصحت عن الصراع مع الاحتلال وفيض مشاعر الغضب الممزوجة بالحزن والتحريض على الاستمرار بالمواجهة واستنهاض الهمم.
وعرضت مسرحية (كفى) من جمهورية سوريا تناولت قضية غزة (يحتفل عروسان بليلة زفافهما، يقصف المكان، يستشهدون) وهو عرض قصير وصادم.
توضح هذه النماذج الثلاثة أن مسرح الشارع يتناول القضايا الإنسانية الساخنة التي يعيشها المجتمع والعالم ويقدم رؤيته لها، فقد أفصحت العروض عن مشاعر التضامن والغضب، وطرحت المضمون نفسه ولكن برؤى متعددة.
نموذجين من المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات/ الشباب، وتم تقديم العروض للطلبة في (جامعة الكتاب)
عرضت مسرحية مونودراما لمعاناة امرأة في مجتمع الاستغلال الذكوري، فهي تفرح بزواجها ولكن بعد الترمل يظهر الوجه القبيح للتعامل مع المرأة /الأرملة، ويباع جسدها من أقرب الناس إليها وتتعرض للمهانة، استعان العرض بمفردات بسيطة ودلالات عميقة مثل الاستعانة بقطع ملابس رجالية من الجمهور لتكوين جسد الرجل الذي تفرح وترقص بزواجها منه، وتشارك الجمهور بورق لعب القمار عندما يصبح جسدها سلعة رخيصة، وقد شهد العرض تفاعلا جماهيريا بفعل تمكن الممثلة من تحريك المشاعر قوة خطاب الشخصية.
والنموذج الثاني هو عرض مسرحية (نخاسة) انتاج كلية الكنوز الجامعة، تأليف سعد هدابي، وإخراج علي الأحمد، تمثيل (أحمد الشمالي - احمد محمد - مصطفى مكي - احمد الغانمي) الموسيقى المؤثرات الصوتية الحية لحسام المبارك، شباب ملؤهم الحيوية جاءوا من مدينة البصرة، تناول العرض قوى السلطة التي تعمل على تحويل الناس إلى عبيد، وتدعي تمكنها من بيعهم في سوق النخاسة ولكنهم في النهاية يثورون على السلطة الغاشمة، سادت مفردة شد الحبال والتفافها بقوة السلطة على رقاب الناس وتحكمها بهم مثل الدمى المتحركة بواسطة الخيوط، وعندما يعيدون اللعبة بوعي آخر جديد، يتحررون من حبالهم ويطرحون السلطة ارضاً و يستعيدون حريتهم، تميز العرض بصوت تحريضي على خلفية من الإيقاعات الشعبية.
ومن نماذج المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال قدمت فرقة (اتحاد فناني كوردستان - فرع حلبچة) في مجمع (بوليفارد) للتسوق عرض مسرحية (العمل سحرية كاتا وكالي) باللغة الكردية، تأليف وإخراج (هه ردى هادى) اشتركت في أداءه ثلاث فتيات (توران وبيتا وبارين) أبرز ما عمل عليه فريق العرض هو الإيقاع الصوتي الحركي الذي تناغمت فيه الموسيقى مع استلام وتسليم حوارات فردية وجماعية وغناء وعزف حي من قبل (ياسين علي و ئاكار مصطفى) مع الحركة المعبرة المتنوعة، التي شغلت أرجاء مساحة العرض، وكانت خلفية العرض هو مسرح دمى خرجت منه الشخصيات في البداية، لتعلم الحضور بصيغة درامية عادات حميدة وسلوك جميل بواسطة الفعل وليس النصح والإرشاد المباشر، ثم عادت إلى بيت الدمى بعد أن أكملت مشاكساتها وحكايتها في النهاية، حضرت في هذا العرض الأجواء الاحتفالية بزيارة بابا نويل وهداياه الجميلة وأداء الدمى.، شكل هذا العرض علامة بارزة بالمهرجان لما تضمنه من متعة وتشويق وتعليم وتثقيف.
وإذا ما تم تعريف مسرح الطفل: بأنه مؤسسة اجتماعية تربوية.
وتعريف مسرح الشارع: بأنه مسرح المجتمع/ الشعب.
بناء عليه يمكن الجزم على أن مسرح الشارع ومسرح الطفل يعدان مدخلين للعمل على إعداد وصناعة الجمهور، فكيف هو الحال إذا قدمت عروض موجهة للأطفال في الشارع، ربما هي حالة فريدة من نوعها، تنطوي جرأة على فتح أفق جديد في المسرح.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب