قراءات نقدية
جمعة عبد الله: أسرار الازمنة في الرواية القصيرة.. الصندوق الحديد للاديب قصي الشيخ عسكر
اتجاه وشكل المتن الروائي يملك خصوصية متميزة، في الأدب الروائي في المهجر، وخصوبة الخيال الفني المتولد والمتحرك، وبراعته في صياغة الرؤية الفكرية وتجسيدها بهذا الابتكار الخلاق، في حركة ديمومة الفعل الدرامي المتواصل الى الذروة، بطرح موضوعات غير مسبوقة في هذا الجنس الأدبي (الأدب الروائي في المهجر) والارتقاء به الى الشكل النوعي، بأن يفتح بوابته بشكل واسع وآفاق غير محدودة، بتناول جملة موضوعات متعددة ومتطورة، وفق نسق هرموني موحد. والأستاذ قصي الشيخ عسكر، جند كل إمكانياته ومعارفه الشاسعة، باستغلال وتوظيف تجربته ومعايشته مع الواقع والحياة بأزمنتها المتعددة، مما أهلته أن يكون علامة بارزة ومرموقة في جنس الأدب الروائي في المجهر، لذلك نجد اطلق براعته الخلاقة في الرواية القصيرة، والتي أطلق عليها تسمية الصندوق الحديد، وهي تحمل معنى رمزي بليغ الدلالة، وبالاشارة بتسمية الازمنة أو المراحل التي مرت على العراق بصبغته بصبغها الخاصة والمعينة في النهج والسلوك والفعل والعقيدة بالصندوق أو الصناديق، والحقيقية بما في جعبة داخل هذه الصناديق وكشف اسرارها الظاهرة والباطنة في مراحلها المتعاقبة، التي جرفت العراق في في رياحها العاصفة و المدوية، يتناولها بشكل بارع ومرموق، وخاصة في الجانب الاجتماعي والسياسي في بيئة المجتمع ومحيط العائلة. وهذا الإصدار الروائي الجديد، يحمل في طياته اربع روايات مجهرية وهي:
1- الصندوق الحديد
2 - الهاربان
3 ربيكا (بطاقة نعي)
4 وجهي البشع.
ونحن بصدد تناول الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) بما تحمل من الصياغة الفنية والمضمون الفكري برؤيته الواقعية، في تناول ثنائي مشترك ضمن نسق واحد في أحداث السرد الروائي وهما:
1 - مسألة الهجرة المعاكسة.
2 - مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع الجديد.
رغم صعوبة التناول والطرح هذين الجانبين، لكن براعة الروائي الفائقة، ولغته الجميلة المهذبة برشاقة التشويق، يدخل القارئ الى عرينها بكل طواعية وانجذاب مؤثر، برؤية واقعية وفكرية رصينة، وبالتالي يشارك القارئ في التأثير الحسي، في آلة التأويل وخاصة الأستاذ الروائي، يترك خاتمة النهاية مفتوحة للتأويل، ما بعد الحدث (ميتا سردية)، حسب وعيه الثقافي والفكري، ووضع الأشياء في نصابها الصائب بما يحمل هذا الصندوق من صناديق متنوعة ومختلفة، وما تخص هذه الصناديق من اسرار عبر الازمنة المختلفة، لان كل صندوق يشكل ويحدد نوع الزمن أو مرحلة معينة بذاتها في نهجها السياسي والاجتماعي، فعلى سبيل المثال. صندوق النفايات و الأزبال والقاذورات. الذي ينتج من داخله وتفوح رائحته على المكشوف من الأزبال والقاذورات بالضبط متل ما تفرزه صناديق الانتخابات العراقية المتعاقبة، هي في الحقيقة تدوير النفايات والازبال القديمة بلون أو شكل جديد، أو بعبارة آخرى، بأن صناديق القاذورات القديمة تعود بشكلها أو ثوبها الجديد، لا تختلف في المضمون والمحتوى عن الصناديق الحالية، من خلال عملية تدوير النفايات وتسويقها مجددا، ولكن بأشكال وبجلود مختلفة، ولكن الجوهر باقٍ لا يتغير، في النهج والسلوك الاجتماعي والسياسي.. وكذلك صندوق الارهاب والتفجيرات الدموية التي طالت العراق مؤخراً، والصندوق الذي بداخله الذهب والمجوهرات، التي تخص المرأة لصبرها وتحملها في المعاناة في الظلم والاجحاف والحرمان من المجتمع الذكوري، في عاداته وتقاليده السلفية المتشددة، تستحق وسام من الذهب والمجوهرات. وغيرها من الصناديق الآخرى. ولابد من تحليل مضامين هذا الثنائي المركب في هذه الرواية هما: (الهجرة المعاكسة والتكيف والتأقلم)، ففي الجانب الأول الهجرة المعاكسة تختلف كلياً عن الهجرة إلى اوربا أو الى الجانب الاوربي، وصعوبات الحصول المهاجر على الشرعية وقبول اللجوء، ثم صعوبات إيجاد فرص العمل، ومسائل حياتية أساسية آخرى تمس حياته ووجوده في المجتمع الغربي بما فيه الحب. نجد في الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) ليس هناك صعوبات جمة، وإنما تعقيدات عويصة لا تتحمل ولا تطاق في العودة الى الوطن بعد غيبة طويلة. وهذا يشير بوضوح بأن الوطن اصبح غريباً على ابن الوطن نفسه، فكيف الحال بالاجنبي المرافق له، مثل الزوجة والأبناء يصاحبون والديهما من المجتمع الأوربي الى المجتمع العراقي، فأن الحالة تكون معقدة تصطدم بجملة معوقات من العائلة والمجتمع، تضع العائد إلى الوطن، ان يصطدم بمشاكل جمة، تجعله كأنه يدور في نفق مسدود. في جانب مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع العراقي المحافظ في تأثيراته الدينية وفي العادات والتقاليد الاجتماعية السلفية، مما تخلق احباط نفسي ووجودي، يدخله في دوامة الشعور بأزمة الخوف والقلق، بأن الأمور تسير من سيء الى الاسوأ. كما في الحالة المأساوية للعراقي (ناصر) العائد من الغربة بعد سنوات طويلة هو وزوجته الأوروبية (النرويجية)، ولكن تحت الضغوط الهائلة، يضطر اخيراً الرجوع الى بلد زوجته (النرويج):
احداث المتن الروائي
مضامين المتن الروائي يتحدث عن عراقي من عائلة غنية ومحافظة دينياً، حصل على شهادة جامعية في اختصاصات النفط في لندن.رجع الى العراق الى مدينته البصرة، مع زوجته (النرويجية) التي تعرف عليها في أروقة الجامعة وتتكلل الحب بالزواج ورزقهما بطفلين. لكن هذه العودة منذ ايامها الاولى واجهت صعوبات ومعوقات جمة، لا يمكن حلها وتحملها، وهي مشاكل عائلية واجتماعية، فالأب منذ الوهلة الأولى أبدى معارضته ورفضه الشديد، بالزواج من (النرويجية) النجسة و الكافرة والملحدة، واعلن ان ابنه العاق غير مرحب به في البيت والعائلة بحجة أن (هل تدخل النجاسة البيت ؟ هؤلاء الاوربيون يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور والعياذ بالله، وبناتهم يقترفن الزنا قبل الزواج) ص34. ويصرح علناً بالغضب الشديد، ليذهب ابنه العاق وزوجته الى جهنم، بينما قلب الام تخضع لإرادة الآب الطاغية وتبرر رفضها لهذا الزواج وتعلله بقولها (أن ذلك لا يمنعها من الغضب على ابن ترك الأهل والجميع من أجل امرأة ليست من ثوبنا وجلدنا ولا من ملتنا !) ص12. مما جعلوا الزوجة (النرويجية) تعاني الإحباط والازمة النفسية والوجودية، تعاني الصدمة من المعاملة والعدوانية، من هذا الرفض العائلي، وكذلك من البيئة الاجتماعية، يقول عنها زوجها (- لا اخفيك ان حالتها تطورت الى الأسوأ..... الصدمة كانت اقوى منها.. خوف من الآخرين وعودتها الى البصرة تزيدها رعباً ونحن في بغداد وحين نمشي في الأسواق تظن شقرتها تلفت الانظار وان هناك من يحاول التحرش بها واغتصابها أو قتلها) ص13. رغم أن (ناصر) يكن الحب الى زوجته، لكنه يشعر بالحرج والعجز الشديدين أمام المعضلة العويصة التي وقع في فخها، فالأب لم يتوقف عن غضبه وندمه تجاه ابنه (- آه إني اعض الآن أصابع الندم..... والله ذلك لن يكفي لو قطعت اصبعي... الغلطة غلطتي، انا الذي بعثت ذلك الولد العاق الى الخارج) 29. وتتصاعدت حلقات النفور الشديد، حتى في ذهابها إلى دورة المياه وعدم استخدام إبريق الماء،اما من ناحية مائدة الطعام والمطبخ (أما المطبخ فقد حرمت منه، رحن يضعن لها الطعام في صحن عند الباب حتى إذا فرغت، رفضن أن تغسله تزعق احدهن (DIRTY) وتتعمد، ان تبسمل على النبي وهي تعلق الصحن بطرفي اصبيعها تحت الحنفية وقتا يطول دقائق) ص54.
إزاء هذا الوضع السيء والمعقد، لم يعد يحتمل ولا يطاق، اضطر أن يعود الى بلد زوجته (النرويج) مع طفليهما، مع العلم أن وزوجها (ناصر) مصاب بمرض السرطان الذي اخذ يستفحل عليه حتى صرعه بالموت، لكن قبل وفاته كتب وصية نقلها ابنه الى اعمامه في البصرة بقوله (عمي، بابا قد أوصى أن يدفن في مقبرة النجف) ص67.
هذا يشير بوضوح لكي يثبت عراقيته الذي لم يتخلى عنا حتى بعد الموت، رغم ما تجرع من علقم المرارة في المعاملة السيئة من الظلم والاجحاف.
***
جمعة عبد الله
.........................
للاطلاع
https://www.almothaqaf.com/k2/971853