قراءات نقدية
يوسف علوان: التأريخ والمرأة في روايةك العالم الأهم ليعقوب زامل الربيعي
تُعد كتابة مرحلة معينة من التاريخ وانتاجها روائيا مجازفة كبيرة، لأن هذا العمل سيُحمّلُ –الرواية- أبعادا رمزية، لذلك فإن مثل هذه الروايات ستحيل النص الروائي، بسبب تعدد مصادرها واختلاف بنيتها الدلالية والنصية، إلى إشكالية ذات جدليات فكرية، تصل في كثير من الأحيان إلى الضبابية العقائدية. فهناك اختلاف بين الرواية التي تعيد كتابة التاريخ، والرواية التي تجعل من التاريخ خلفية قصصية داخل السرد، لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته الروائية المعروفة. فالتاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة، ولا رواية بدون تاريخ، ولا اختلاف في أن التاريخ يحرّك مسار بناء الرواية، التي لا تتم بدونه أو من خارجه حتى ولو كان هذا التاريخ تاريخا متخيلا وليس واقعيا. فالروائي لا يدرس الإنسان في روايته، ولكنه يجعله يحمل أفكاره ورؤيته، ويعيد صياغته عاطفياً من خلال الحوار والمواقف الفرعية التي يبتدعها ليحمل رسالته الفنية، بل إنه يبتدع الشخصيات الروائية لكي يسد النقص الذي تحدثه كتابة التاريخ عادة في هذه النواحي. وهو بذلك يقدم البعد الغائب في الكتابة التاريخية وهو البعد العاطفي والوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادة.
ولا بد من القول إن التاريخ ثروة روائية هائلة ومتنوعة، تتمثل في التجارب الإنسانية الغنية التي تفوق أي قدرة خيالية فردية على الإبداع في كل الأحوال. وإذا كان الروائي الذي يتعامل مع الحاضر يعيش هذا الحاضر، فإنه بالضرورة لا يستطيع أن يرى هذا الحاضر من منظور شامل، وسوف تكون رؤيته جزئية بسبب القصور الفردى البشري. صحيح أن الفنان يرى الاحداث من منظور موهبته التي لاتتوافر للإنسان العادي، ولكن الرواية عادة ما تكون متمركزة حول الجزئي لتكون بمنزلة الشرفة التي يطل منها الروائي على الكل. ويجد الروائي في متناوله مايشبه المخزن الهائل الذي يحوي تجارب إنسانية لامتناهية في تنوعها وثرائها. فالتاريخ، بوصفه سجل النشاط الإنسانى متنوع الوجوه والاتجاهات، وبوصفه رصدا لحركة الإنسان في الكون بأبعادها الثلاثية (الإنسان، والزمان، والمكان) يشبه رواية هائلة لكنها تخلو من الخيال الفني، كما أن الرواية من ناحية أخرى ترصد التفاعلات داخل المنظومة الثلاثية نفسها، لكنها تستعين بالخيال الفني، لكى تضفي على التجربة الإنسانية تلك الحيوية التي تفتقر إليها الكتابات التاريخية.
وقد جهد الكاتب في هذه الناحية، فساق لنا احداثا سمع بها القراء او شهدوا بعضا من أحداثها، او جرت على البعض منهم! وأبتدع شخصيات واقعية؛ هاشم، ومحمد رفيقه في السجن الذي اطلق سراحه بعد توقيع (براءته) من الحزب ومقتله بعد هجرته من العراق، ووالده سلمان، بينما خلق شخصيات غير واقعية كان يتحدث عنها كأنه يعيش في حلم، عندما ذهب ليستكشف قرية (أم المساكين) التي أخبرته عنها القابلة في السوق الذي كان يتردد عليها مثل الآخرين، كذلك حكى عن ما كان يحدث داخل المعتقلات والسجون، وكذلك عوائل هؤلاء وما عاشوه من انتظار لعودة أبنائهم الذين تعرضوا للتغييب او القتل!!
في رواية "العالم الأهم" التي صدرت عن (دار المثقف للطباعة والنشر) في 2018 للكاتب والشاعر يعقوب زامل الربيعي، صورت رحلة زمنية مضنية، أمتدت عبر ازمنة الخوف والاعتقال والتغييب والموت او الهجرة في بلدان الغربة، ومن الناحية الاخرى رسمت صورة محزنة، لحالة الأحباط التي عاشها الكثير من الذين وقفوا بالضد من سياسات النظام السابق، لتغيير الواقع الذي كان يعيشه البلد، وكان لضياع بوصلة هذه القوى وكثرة الاختلافات فيما بينها، سببا في وصول الكثير من كوادرها الى مرحلة الضياع والنكوص، وفي احيان كثيرة الى نهاياتهم في سجون النظام البعثي وأجهزته القمعية. وكانت بعض اطراف تلك الحركة تعتقد وتصر ان طريقها ومنهجها الذي سلكته هو الأصوب. وبسبب هذا الاصرار ضعفت قواها وتأثيراتها في مجريات الأحداث اليومية، ووصلت حد التخبط في تصرفاتها، فدفعت هذه القوى الكثير من الشهداء الابرياء، يقابلها سلطة قمعية أمتلكت شروط قوتها الذاتية بتملكها السلطة والمال، ووقوف دولا كانت تعتبر صديقة للشعب العراقي الذي عول عليها كثيرا، فاعانت هذه الدول الصديقة السلطة القمعية بكل ما تحتاج من سلاح، ودربت أجهزتها القمعية على أحدث الطرق لاذلال القوى المعارضة والقضاء عليها.
عن هذه الفترة التاريخية التي أمتدت من اسقاط اول جمهورية عراقية في العام 1963 وحتى عام احتلال العراق 2003 من قبل قوات التحالف التي كانت تقودها الولايات المتحدة الامريكية. رحلة الاعوام السود التي عاشتها القوى السياسية المعارضة، والكثير من العراقيين الذين لم يتقبلوا ممارسات البعث وطغيانه وتفرده بالسلطة، ومازالوا يحسون بأشباحها وعذاباتها شاخصة أمام أعينهم، بالرغم من ان أعواما طوالا مرت عليها، إلا ان روائحها وخيالاتها لم تزل ملتصقة في عقول الذين عاشوها وأكتووا بنارها، فهذه الصور باقية معهم مشتعلة في مشاعرهم، تطرد من عيونهم النوم وتبعد عنهم الراحة! ساعات التعذيب التي لايستطيع ممن عاشها ان يصفها ويجيد تصويرها للذين كانوا بعيدين عنها. أهوال جعلت حتى الذين مارسوها على اخوتهم العراقييين، ينقلبون الى وحوش من عالم غريب، يستلذون ويبتكرون طرق لتعذيب المعتقلين دون نأمة رحمة!! من الذي حول هؤلاء البشر الى قتلة ومصاصي دماء يتشفون بتعذيب ضحاياهم؟ حيث يجعلون الشخص الذي يعذبونه يحلم بالموت للخلاص من الألم الذي يذوقه كل يوم وكل ساعة على أيديهم..
وقد اعتمد كاتب الرواية في سياق سرده لاحداثها عملية التقطيع السردي، الوسيلة التي تحقق التنقل من حدث لآخر ومن شخصية لأخرى، وتأخذ اشكالا متعددة، مثل جعل السرد في الرواية يكتب على شكل فصول او مقاطع بعناوين داخلية، او بأرقام في اعلى الصفحة التي يبدأ بها المقطع الجديد، او مجرد وضع علامة تؤشر لانتهاء مقطع وبداية مقطع جديد. وقد اختار كاتب الرواية وضع نجمة (*) بعد كل مقطع من مقاطع الرواية، وهذا التقطيع في السرد يهيئ له فرصة التنقل بين احداث الرواية دون الخضوع للتسلسل الزمني للسرد، أي يستطيع ان يُقدم ويُأخر في احداث الرواية بحسب حاجته.
شكلت المرأة في هذه الرواية ركناً اساسيا فهي؛ الأم والأخت والحبيبة والرمز، وأغلب تلك النساء تكلم عنهن الكاتب بألم، من خلال نقل صورة لما كن يعيشنه، من فقر واضطهاد وحرمان. اولئك النسوة كُنَّ يمثلن غالبية المجتمع العراقي بعد ما أكلت الحروب العبثية التي شنها ذلك النظام البغيض، أغلب الرجال وبالأخص الشباب منهم! وهذه الشخصيات النسوية لهن مخاوف وآمال وخيبات، ولهن نقاط ضعف ونقاط قوة، وسنجد هذه الصفات واضحة بالاخص لدى امينة، الام التي توصي زوجها سلمان قبل موتها ليخبر ابنها هاشم: "-قل لهاشم عن لساني: بُني أوصيك بالصبر، فأنه دواء للعلل، وسبيل للغايات"(ص 5). هاشم الذي اخذه الولع بالسياسة وحب الصراع مع السلطات الحاكمة، فلم يكن امامه وامام ابيه اخيرا من خيار سوى الهجرة من البلد والهرب من مصير القتل الذي يتربصه كل يوم من قبل الأجهزة القمعية ويتربص الآخرين، بسبب الحرب العبثية الذي زج بها النظام الاف الشباب في آتون الموت والأسر. فيرحل البعض منهم لبلاد الغربة، في مدن الله الواسعة كي ينجون بجلودهم، وعكس حياة أمه التي سقطت مرة واحدة دون أن تنبس بأي كلمة. فقد بقيت حياته تتساقط على الدوام بين الجنوح والتراجع، بين الرغبة والصوم، كأن مفاتيح الدنيا أعيتها الحيلة ولم تفتح له مغلقا واحدا! ومثلما ذكرت أمه؛ ان ليس لأي قفل مفتاح غير الصبر! أمه التي أنجبت سبعة اولاد، بنينا وبنات، وفقدت ابنها نبيل في الحرب اللعينة التي استمرت ثمان اعوام، وكانت من قبل قد فقدت اربع من اولادها: "لي اخوين واخت لفهم الموت لجوف شراهته صغارا، لم ارى أي منهم، سوى تلك الاخت التي ما ان تخطت لتوها على الارض مشيا حتى لوى شبح مرض السحايا رقبتها لتموت بعد ايام من الألم(9). يتذكر هاشم كيف صدم يوما، حين علم ان أمه تخزن في حقائب خاصة ما تشتريه من لوازم عرس له ولاخيه. يومها ضحك عاليا لهذه الصدمة المباغتة وقال: "- ستطول الحرب وسيأخذونني خلفه"(21). ذوت عافيتها مذ جيء بولدها نبيل قتيلا، وهروب هاشم الى بلاد الغربة، لكنها ظلت تتعلق بالعافية، غير ان هزالها يزداد كل يوم. امست كيانا متشبثا بحائط الحياة الاملس كيانا يعاني خرابا مستمرا، وكما توقع سلمان؛ وجد جسدها "صلبا كلوح من الثلج، فكف عقله من الحركة وتيبس جسده أمامه مشدوها"(67).
أما (قند) حبيبة هاشم منذ الطفولة فقد ولدت وعاشت طفولتها معه، وبعد ان كبرا وشاعت حكاية حبها لهاشم بين الناس، أجبرها ابيها (عيدان منخي) التي توفيت زوجته (نباهن)، على الزواج من زميل له في الحراسات الليلية، الذي يكبرها باكثر من خمسة وعشرين عام. وبعد زواجها ونزوح ابيها لمكان آخر، بسبب هروب زوجته الجديدة (سومه) مع عريف الشرطة فوزي. انقطع اخر خيط من خيوط الوصل بين قند وهاشم. وكان هاجسها ان تبتعد مكرهة عن هاشم، وذلك موافقة لرغبة ابيها وواقع الامر. وبقيت تعاني من الوحدة وسوء الخاطر ليلا وليس هذا فقط انما كان يعذبها ان ترى بأن نهر من الدفء والحنان، قد أخذ يجف شيئا فشيئا.
القابلة التي تجاوزت سن إثارة الرجال، تعرف عليها هاشم في السوق، وعندما أحست ان هاشم يختلف عن الأشخاص الذين يأتون لها في الليل ليشبعوا رغبتهم فيها، أخبرته عن حكاية ولادتها التي روتها لها أمها: "ساعة شؤم لفظتهاالأقدار فيها من رحمها للارض"(13).. ولدت في قرية تسمى "أم المساكين"! وتسأل هاشم؛ هل سمعت بقرية ام المساكين فيجيبها بلا "ان ما حصل فيها، وكما حكته أمي، سيجللك بالبياض من هامتك حتى قدميك وسيدمي قلبك!"(ص17) وما خلفته صورة فجيعة هذه القرية في رأسها سيبقى مثل ملازمة الليل والنهار. "كانت القرية تحمل معنى حلم خرافة الحياة التي يتمنونها"(18)
راجحة: من ام شامية واب موصلي، بعد سبع اعوام من زواج والديها يتوفى الزوج ولم تخلف منه امرأته الشامية سوى ابنة واحدة. راجحة قاربت الخمسين في عمرها، يسكن هاشم غرفة في بيتها، ورغم انها لا تتقرب للرجال إلا أنها رأت فيه رجلا مختلفا عن الآخرين، فترعاه وتتعلق به، وعندما يحتاج الفران الذي يعمل لديه هاشم لبعض المال ويطلبه من راجحة تشترط ان تشتري نصف الفرن وتسجله باسم هاشم. عندما يحكي لها عن أسباب هجرته من العراق وما كان يعانيه، تتعاطف معه. لكن عندما أراد العودة لبلده، حاولت ان تستبقيه معها من خلال تذكيره بما ينتظره إن عاد: "ان اردت العودة للنار، فأنت حر"(41). وقد احبها هاشم في غربته وتعلق بها وأحس بها قريبة لنفسه وكانت علاقته بها حاجة انسانية بعد العذاب الذي ذاقه في السنين التي مضت. وعندما يخبره صديقه محمد ان علاقته براجحة باتت اهم ما يشغله ويعتبره قد ضمن مستقبله يجيبه هاشم: "ان راجحة بعض هذا السلام الثمين. أليس الحب هو السلام الأعم يا صديقي؟!"(120). ويظل هاشم يعيش صراعا داخلياً ويحاول ان يعود لبلده ليعيد بناء حلمه الذي استشهد الكثيرين من أجله، والذي قضي حياته على أمل تحقيقه!
***
قراءة: يوسف علوان