قراءات نقدية
عبد الرحيم التادلاوي: أبعاد الحزن.. قراءة في مجموعة لحظة شرود لمحمد محضار
صدرت للمبدع محمد محضار مجموعته القصصية "لحظة شرود" عن مطبعة دار الوطن في طبعتها الأولى، سنة 2013، وتضم في ثناياها سبعة عشرا نصا، يمكن تقسيمها إلى قسمين بحسب تاريخ كتابتها: القسم الأول ويشتمل على نصوص ما قبل سنة 2000 وعددها ثمانية، والقسم الثاني يتضمن نصوص ما بعدها وعددها تسعة، بمعنى، أن العدد يكاد يكون متساويا، مع العلم، أن القاص قد اختار أن يكون نص الافتتاح ونص الختم من القسم الأول؛ وكأنه يخبرنا أن النفس واحد، وأن الانشغال بقي واحدا؛ وأن الواقع المزري مازاد إلا استفحالا؛ غهوالمولد للاكتآب وأن التقنية نفسها، أي الاعتماد على البداية والوسط والنهاية، مع تكسير لتتابع الأحداث بالاسترجاع؛ وهي تقنية تضعنا أمام نصين اثنين، يقرأ أحدهما الآخر، وكأنهما متقابلان، ومتضادان. كما أن القاص لا يسعى إلى الجريب من أجل النجريب، لأن في ذلك خراب للكتابة، وتنفير للمتلقي، بل يؤمن بالتجديد بنسب لا تجعل خيط التواصل مع القارئ ينقطع.
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص أن نصوصا جاءت مذيلة بتاريخ كتابتها كاملا، وأخرى اكتفت بالسنة لا غير، وأخرى عرفت بمكان الكتابة، وهما نصان: مراكش، وخريبكة، ونص واحد أثبت الجريدة التي قامت بنشره على صفحاتها. وباعتماد الشهور، سنجد أن فصل الخريف قد حاز ستة نصوص، أما فصل الشتاء فحاز نصا واحدا، وفصل الربيع حاز ثلاثة نصوص، وكلها ارتبطت بشهر أبريل، أما فصل الصيف، فقد حاز أربعة نصوص استحوذ شهر يونيو على معظمها، فيما ظلت ثلاثة نصوص خلوا من الشهر. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: إن المبدع لا ينثال قلمه إلا في فصلين؛ وهما، فصل الخريف وفصل الصيف، أما في فصل الشتاء، فيعتمد استارتيجية الدب. ويستعيد القلم حيويته في فصل الربيع، وبخاصة في شهر أبريل، دون بقية شهوره.
عنوان المجموعة يعتمد بناء الجملة الاسمية، وينبني على حذف المبتدأ مكتفيا بالخبر ذي الكلمتين؛ وهما: لحظة، وشرود؛ فاللحظة فترة قصيرة من الزمن بمقدار لحظ العين؛ أما الشرود فهو التيهان، وعدم الانتباه إلى ما يجول حولنا. والجمع بين الكلمتين يفيد أن هناك فترة زمنية تعاش خارج اللحظة الراهنة؛ إنها خارج الزمن الحاضر؛ فقد تسير باتجاه الماضي، وهو الغالب؛ وقد تتجه صوب المستقبل، كنوع من الاستشراف. المهم أنها لا تمت للحاضر بصلة من حيث التسلسل؛ فهي خرق له، واستدعاء لزمن مختلف. والبين أن فعل الحزن هو المحرك لمثل هذا السلوك النفسي، إذ إن السفر إلى زمن مختلف يرتبط بالنفس لا بالجسد.
والمجموعة حافلة بقاموس الوجع، وهو قاموس موزع بالتساوي بين النصوص، يحضر بكثافة في النص الأول، حيث يمكن تلمس ذلك من خلال المعجم الموظف؛ وهو معجم يرخي بظلاله الحزينة على العمل ككل، ولعل العناوين خير دليل على هذا الأمر. فالحزن يعتري الأب رغم انه يعيش لحظة فرح، لكنه يرى القادم بنوع من السوداوية، كونه أقام عرس ابنته بواسطة الاقتراض، ويستوجب عليه أن يعيده أقساطا؛ وهو أمر قد تعود عليه، فحياته مجرد عمل متواصل لا مجال فيه للراحة والاستمتاع.
والأمر نفسه بالنسبة للمومس التي وجدت نفسها تبيع جسدها بعد أن طلقها زوجها، لكنها، رغم كم المرارة التي عاشتها؛ فقد شعرت بقليل من المتعة استلتها من وقتها المزدحم بالخيبات؛ وهي تمشي قرب البحر تتنفس هواء نقيا، نص "خلوة" ص 23.
ويبلغ الوجع أقصاه، في نص "الغاية تبرر الوسيلة"ص 27، حيث تختار شخصية النص الانتحار حرقا، اقتداء بالمكفوفين الذين يهددون بإحراق أنفسهم إن لم يحصلوا على وظيفة في القطاع العمومي. والاقتداء بالمكفوفين يعني، أيضا، الاختيار الأسوأ؛ إذ كان على الشخصية أن تبحث عن وسائل أخرى لإثبات ذاتها بشكل إيجابي، يسمح للكل بالحديث عنها بفخر، لكن، أن تنقذف باتجاه النار لن يحقق لها البطولة.
ما الذي يدفع الإنسان إلى وضع حد لحياته إن لم يكن الظلم والإقصاء واللاجدوى، ونجد في نص "لعنة الليل" ص13
إن السفر إلى الماضي يتحكم في العديد من النصوص، وما استعادته إلا بغاية قراءة اللحظة الراهنة، ونقد ما تحقق، على اعتبار أن ما تحقق لا يتساوق ورهانات تلك الفترة؛ فما تمخض لم يكن في مستوى التطلعات، بل يمكن القول: إنه أصاب النفوس بالخيبة والمرارة. ففي نص "لحظة شرود" ص 17، نجد السارد يستعيد الماضي حيث الصراع بين المستعمر والخونة من جهة، والمقاومين من جهة ثانية، ويتمخض هذا الصراع العنيف غالي الثمن، بالاستقلال المخيب للآمال. لقد كان تعرضه لحادثة سير فرصة استعادة فترة من فترات زمن المغرب إبان الاستعمار، بقصد مقارنته بالزمن الحاضر، إذ لا معنى للاستحضار إذا لم يكن بغاية مقارنته بالآن. والخلاصة أن التضحيات أثمرت بؤسا. وعليه، يمكن القول: إن الصدمة كانت ذات بعدين؛ حقيقي ورمزي؛ فقد صدمته السيارة حقيقة، كما صدمه الواقع رمزيا.
ترى، ما أسباب الحزن والقتامة الحاضرين بكثافة في نصوص المجموعة؟
قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحزن الذي لون الشعر والقصة والرواية، وكل نصوص مجموعة "لحظة شرود" ليس بغاية إنبات اليأس في النفوس، بل من أجل رفع منسوب وعي القارئ بواقعه، بغاية إصلاحه؛ إنها نصوص تحتفي بالحياة، ولا تقبع في قعر اليأس أبدا، بل تفتح نوافذ لتهب رياح السعادة، المحققة للتغيير الإيجابي.
من أسباب شقاء الإنسان العربي بعامة، والمغربي بخاصة، نجد: القمع السياسي البوليسي، نص "الخطو الشارد" ص 62، والقمع الاجتماعي نص "مالكة" ص 67، والوصولية والانتهازية، والخذلان، نص "الفرصة الأخيرة" ص 64.
ولم تقف النصوص عند هذه التيمات، بل وسعت من دائرة اهتمامها، للحديث عن بعض المهرجانات الصاخبة والمعبرة عن تدني الذوق، من مثل نص "الحفرة" ص57.
وقد اعتمد القاص على تقنيات عدة في تشكيل معمار نصوصه، من مثل الاسترجاع الذي لعب دورا في بناء الأحداث، وخلق المفارقات الدالة؛ إضافة تنويع في الضمائر، والسراد، زائد السخرية المرة من واقع متعفن، رفع درجات الفن الهابط على حساب الجاد والممتع؛ فضلا عن الحوار بشتى أنواعه، حيث قدم معرفة للقارئ عن وضعيات الشخصيات، ومواقفها من الأحداث، والشخصيات الأخرى، وعرى نواياها وطموحاتها، إضافة إلى المقابلة البانية، حيث التعارض بين الجميل والقبيح.
مجموعة "لحظة شرود" عمل يحتفل بالحياة بالرغم من اكتساح الحزن لكل مفاصيل النصوص، لكنه لم يدفع بالقارئ إلى اليأس، بقدر ما كان الهدف التعبير عن الرغبة في إصلاح أسباب الخيبات، وبناء عالم تسوده العدالة الاجتماعية، والمساواة، وتتحقق فيه الكرامة بكل أبعادها، مع احتفاء بالتجديد المدروس وإن بدت النصوص تقليدية، لكنها وظفت الكثير من التقنيات لخدمة أغراضها، كالاسترجاع، والمقابلة، وتنويع الضمائر، مع حضور السخرية المرة، كل ذلك بلغة بسيطة وسهلة، لكنها تمتلك عمقا، وتعبر بصدق عن معاناة الإنسان في ظل القهر والفقر والاقصاء.
***
بقلم عبد الرحيم التادلاوي