قراءات نقدية
أحمد غانم: شظية في مكان حساس.. حرفية السرد تتسلل إلى خفايا الحروب
انتهت الحرب، أو أن استعار نيرانها هدأت حدته منزاحًا عن بغداد،
إلا أنها خلفت "شظية في مكان حساس"
***
تقتنص رواية "شظية في مكان حساس" للأديب العراقي وارد بدر السالم، الصادرة عن دار نشر خطوط وظلال 2021، جانبًا خفيًا وموجعًا أرسته التفجيرات الدموية في حياة العراقيين، التفجير الأخير في العاصمة بالذات، قبل استتياب الأمن، ولو بشكلٍ نسبي، يوغل مخالبه في جسد امرأة وزوجة وأم، منتزعًا منها ومن أسرتها السلام لتندلع حربـ ضارية في أحشائها، بالتحديد في مكمن أنوثتها، عبر شظية تسبب لها حكة داخلية شرسة، نزيفًا، و... هيجانًا جنسيًا غريبًا يتطلب من زوجها ما لا يطيق، ولا يتوقع من زوجته القروية الخجول، ذلك الخجل الذي هو من سمات نساء تربين في مجتمعات مقيدة بالكثير من الأعراف والتقاليد التي تفرض على المرأة أكثر من حجاب يلقي كل ما يخصها في دائرة المحرمات، فما يمنحها إياه الزوج عليها أن تتشبع به بامتنان وحياء دون أن يبدو عليها أي تذمر وإلا صارت موضع ريبة وتوجس وأقاويل... غير أن الحرب اعتادت قلب كل الموازين، على كافة الأصعدة، وفي أدق التفاصيل الحياتية، تكشف لنا ما يكمن في أنفسنا من خبايا وما يحاول المجتمع تجاهله وغض الطرف عنه.
"الحرب أظهرت عريها أمام الناس ورأوه ولمسوه في غفلة الجروح الكثيرة التي انتشرت في جسدها، وبالتالي فصلت عنها روح الخجل الفطري الذي كانت تحافظ عليه" ص 44
الزوج/ الراوي، غير العليم بما يجري لزوجته في الفراش وما يجتاحها من شهوة جنونية تصل به حد الإنهاك دون أن تبلغ ذروة الإشباع إلا لوقتٍ محدود، يجد نفسه مرغمًا على الانصياع لصرخاتها المتسولة في عملية تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة التي اعتادت أن تنساق لرغبة زوجها كلما حفزته شهوته نحوها وإلا لوقعت في المحظور الديني والأخلاقي، وكأنها تبيح له فرصة السعي وراء أخرى، بزواج أو خارج نطاق الشرعية، إلا أن الزوجة ليس لها سوى فحولة زوجها، وبطلب غير مباشر عادة، أما في حالة وجود جسم غريب لم يستطع التدخل الجراحي المساس به، لاحتمائه بستر الأنوثة، فالوضع جد مختلف ومربك للطرفين والاستقرار العائلي، خاصة لدى وجود ابنتين، إحداهما طالبة جامعية تعي كل ما يحدث في بيت يسوده الاضطراب والفوضى، كانعكاس لما يجري في البلاد التي تشهد الكثير من التغيرات على كافة الأصعدة، بينما تبقى الأم مستلبة الإرادة المتراقصة ما بين الحياة والموت الذي ظل يعبث بجسدها كما يشاء حتى وهي تنهل (إكسير الحياة) من شغف زوجها بعد انقطاع أشهر إثر التفجير الذي ظل يشم تداعيات روائحه المختلفة في ثنايا جسدها لتؤكد الحرب حضورها العبثي في أكثر الأوقات والأماكن خصوصية، يبدد دفء وقدسية العلاقة المجدولة بالحب ليحيلها إلى شهوة حيوانية مجردة من جوهر المشاعر الإنسانية.
"حياة السياسة الطائفية التي غيرت فينا المزاج وجعلتنا ننتظر ما هو أسوأ... لكن المصاب الشخصي يختصر تلك القائمة الوطنية من الرعب والعذاب ويصبح كأنه استهدفك أنتِ لا غيرك، مع أن المأتم واسع ويتسع كل يوم في حياتنا الصغيرة والجميع مصابون بالشظايا في كل مكان لا سيما في أرواحهم" ص 76
رغم أن الموضوع العام يغري بالتشعب والاسترسال في تفاصيل كثيرة، إلا أن الكاتب التزم بالتركيز ضمن مسار درامي مستقيم، يأخذ بالتصاعد رويدًا رويدا ليوجه دائرة الضوء السردية نحو شخصية (نور) البسيطة، كما تبدو على الأقل، مثلها مثل أغلب نسائنا اللاتي تجرعنَ آلام الحروب، شأن الرجال وربما أكثر في أحيان كثيرة لا تفرق بين ضحايا التسلط وتجار الأزمات، تلك القروية المنغمسة ببراح الأرض وفوح خيرها المعطاء، لا تتمنى أكثر من حب زوجها وتربية ابنتيها، فإذا بهذه الحمامة المحلقة في سماء العائلة الممثلة للطبقة المتوسطة، التي يقع على كاهلها أغلب ما يواجه البلد من إرهاصات فكرية وسياسية واقتصادية... تتحول بفعل آلة الحرب المتخفية بين المدنيين إلى ما يشبه وحش جنسي صعب المراس والإرضاء، تعيش صراعًا مزدوجًا ومتخبطًا لا تدري شيئًا عن نهايته، صراعًا مع أقرب الأشخاص إليها، وآخر، ولعله الأشد صخبًا، يقبع داخلها وهي تنتفض على الأنثى الشهوانية التي آلت إليها، مما يزيد من مخاوفها من مقبلات الأيام وما يمكن أن تحمل من فواجع ليس لها أن تنعزل عنها بملازمة البيت، ومن هاجس تطور حالتها نحو الأسوأ، فتلجأ وزوجها إلى دكتورة متخصصة في الطب النفسي، تكتظ عيادتها بالحالات الغريبة على أي مجتمع يتمتع بحياة طبيعية غير مهددة دومًا بالفناء، وعلى مدار عقود، فالأزمة تراكمية، تزداد استفحالًا مع كل وهج حرب وبيان انتصار تليه بيانات أسف الاندحار، مع كل مفخخة تلقى شضاياها في الأجساد بعشوائية المصادفة المجردة من أي مقصد عقلاني، فالحروب لا تخضع عادةً لأي منطق.
"بدت لي العيادة كأنها إفرازات الحرب المختلفة التي لا نراها بارزة ولا نتلمس وضوحها، فأيقنت بشكل مبدأي أن الحقائق هي في عيادات الأطباء وليست في قاعات المحاكم." ص 124
للمرأة كما نلاحظ حضور كبير في نصوص الكتّاب العراقيين، ربما بتأثر مثيولوجي في الدرجة الأساس، فنجد شخصية (عشتار) تطل من بين طيات السرد، تتبدى في ممازجة أدبية متقنة ما بين الأسطورة والواقع المعاش في حاضر يملي على الجميع تحدياته ونكباته ومشاقه الَمتضاعفة حربًا إثر أخرى، إذ تتحول إلهة الحب والحرب إلى أيقونة تتمثل في مواضع القوة والضعف، الإرادة والاتكسار أمام شظية تشوه العلاقة الزوجية وتحيلها إلى سلسلة من التأوهات الحادة، أشبه بتضرع باكٍ يستغيث من الموت المستبطن (تاج الخصوبة) لدى المرأة، تأوهات تردد صدى انهيار الجمال في زمن القبح المستشري بين أرجاء المدينة، يتبدى في وجوه الناس وتصرفاتهم، في الثقافة الغريبة التي حطت بصماتها الثقيلة في حياتنا، تلبس لباس التقوى في سطحية تفضح الإزدواجية التي أودعتها حياة الجدب فينا عبر عقود من الموت والدمار، وكما توارت أغلب النساء، بمختلف الأعمار والحالات الاجتماعية، بالعباءة والحجاب توارت معهن تلقائية غرائزهن ورغباتهن، طموحهن واستقلاليتهن، فالمرأة في بلادنا انتظرت النماء طويلًا إلا أن مواسم الحصاد لم تأتِ أبدًا.
"المرأة العراقية تحملت الكثير من الأورام الوطنية جسدتها الحروب من أربعة عقود تقريباً وبالتالي وقعت عليها أدوار متعددة أكثر من طاقتها النفسية والروحية والجسمانية، لكنها واصلت الحياة بالرغم من كل القتل والرعب والموت" ص 182
محنة نفسية أم عضوية بالدرجة الأساس، أم أنها محنة حياتية عامة فجَرَها ذلك الجسم الغريب الصغير ليثير المياه الراكدة فينا ومن حولنا، فتتشعب تساؤلات حيرى كثيرة تفتقر إلى الإجابة في فضاء المسكوت عنه المتكاثف مثل غمامة تأخذ بالاتساع حينًا بعد حين، ومع تدهور حالة (نور) وارتفاع حدة شبقها المعتصر جسدها الآخذ بالضمور، تتصاعد حمى اللهاث لدى بحثها عن السكينة التي كانت تكتنفها وأسرتها قبل أشهر معدودة فحسب.
" هذه هي الحرب.. تعرّينا حينما لا نكون مستعدين للتعري وننتزع الخجل منّا لتكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا فتجعلنا نرى في الجمال قبحاً كثيراً." ص 162
الحرب ما بين اللوثة والتلوث بكافة أشكاله، ثنائية تتلوى كالأفعى بين الأحراش، تنفث سمها في أوصال المدن والأبرياء المتوسلين النجاة من أهوال حاضر ينعطف بنا ذات اليمين وذات الشمال، عسى أن نستدل على دربٍ يبرأ فيه الوطن من شظايا الموت القابعة في الخفايا.
"نور سلبتها عاصفة الانفجار وتناثرت في جسدها الأبيض شظايا ومسامير وفتيت حصى وشرائح زجاج صغيرة ولوّث البارود روحها البيضاء" ص 200
***
أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي
26 ـ 2 ـ 2022 عمان