قراءات نقدية
نسرين ابراهيم الشمري: صورة المرأة في شعر يحيى السماوي
شغلت المرأة الحيز الاكبر في منتج الشعراء بكل زمان ومكان، اذ مثلت الوجه الاخر للحياة، مشاركة للرجل احزانه ومسراته، فمن البديهي ان تتجه ذاته اليها لتكون منبعا ترفد شعره بقضايا عدة، فتارة نراها تلبد أجواءه بغيوم الاسى والالم، وتارة تغدو سر الحياة ومصدرها وتارة تتجلى لنا من بين ثنايا النص بأجل المزايا فهي العبادة وهي الوطن وهي خلوده وديمومته، مايعني ان شاعرنا عمد التنوع في تقديم او تشكيل صورتها كي تجاري نزعاته الذاتية، التي تعكس خلجاته النفسية او طابعه الفكري او الواقع الذي يحكمه، او قد يكون الشاعر رهن التوتر النفسي الذي املى عليه تلك الصور وتشكلاتها.(١)
دخلت المرأة في شعر السماوي من باب الغزل، فضلا عن ذلك كان لها دور لتكون الصورة العاكسة لحس الشاعر الوطني، اذ نراه يحدث توازنا بين نزعاته الذاتية الرومانسية وحسه الوطني الذي هيمن عليه واحكم قبضته من خلال الاحداث التي شهدها ضمن حدود واقعه المعاش، وهذا ما خلق منها رمزا يتخفى خلفه الشاعر لينقل ما يشغله ويظهر كوامن ذاته كما مثلت المرأة في النص السماوي قضايا اجتماعية، اذ حاول الشاعر تمريرها في نصوصه من خلال تجسيد المرأة لها، فيدل ذلك على تداخل حضور المرأة الرومانسي مع قضايا اخرى، اذ كانت الملهم والمثير القومي والانساني والنفسي لدى الشاعر، ما يعني ان حضورها لم يكن هشا بل كان ذا قيمة ميزت نصوصه.
ومن خلال البحث تجلت المرأة في نصوصه بصور متباينة، رصدنا منها صورة المرأة الواقعية، وصورة المرأة الرمزية وكان نتاج ذلك تتبع النصوص والغوص في اعماق بنيتها للوصول الى ما رصدناه.
اولا: صورة المرأة الواقعية:
نظم السماوي اناشيد الهوى التي تغنت بجمال المرأة واصفا لها يتلذذ بلقياها تارة، وهائما بحبها، يشكوها تارة اخرى، وخير ما اوحى بتلك الدلالة قصيدته (يا مبطلا حتى وضوئي)، اذ يقول:
رفع النقاب وسلما وبحاجبيه تكلما
ودنا... وأغمض مقلتيه تغنجا... وتبسّما
وأزاح عن زيق القميص جديلتين ومعصما
فرأيت ما اغوى بفاكهة اللذاذة "آدما"
صقران يختبئان خلف ضفيرتين فأوهما (٢)
يتغنى شاعرنا بحوائه التي حاولت إغواءه بمفاتنها، اذ تكشف عن حسنها عمدا وتجره للنظر اليها والتغزل بها وهو مرغما ؛فهي التي عمدت رفع النقاب ومن ثم تقربت منه تراوده وهي الراغبة التي تتودد اليه، اذ يتجلى لنا ذلك من قوله (ودنا واغمض مقلتيه تغنجا..وتبسما) وقوله كذلك (رفع النقاب وسلما) وايضا(ازاح عن زيق القميص جديلتين ومعصما)، لكن السماوي في كل ما بدر منها كان مرغما للنظر اليها فهو قد اعطى لذاته العذر وانها هي التي اغوته كتفاحة حواء التي اغوت سيدنا (ادم)، وهي التي ابطلت مناسك عمرته فيوجه اللوم اليها، اذ ابان نداءه لها بقوله (يا مبطلا حتى وضوئي) انه لا يملك زمام امره وانه لا حول له ولا قوة وهي التي أضرمت نيرانه، فلم يعد يحكم السيطرة على ذاته التي تلعثمت من شدة الذهول والشغف، فغدت عينه تنطق بما يختلج في روحه التي اسرها جمال ما رأته من مفاتنها، ليس هذا فحسب، بل ان نظراته سقطت على ما هو محظور، حتى نراه يعلي من نغمة التوتر التي انتابته وافقدته سلطته على تلك الذات التي بدت مشاكسة متهورة، لكنه يعود ويلملم شتاته من جديد، وكأنه ينهي صراعه الداخلي بين الروح والجسد فيحاول ان يحكم سلطان عقله ليقوده الى بر الامان، فيوجه خطابة لتلك الجميلة التي افقدته صوابه، فيلومها طالبا الرحمة منها فهو الغريب الذي اتى ليؤدي مناسك العمرة، اذ يقول:
فهمست رفقا بالغريب ألست قلبا مسلما ؟
ابطلت عمرة ناسك قد جاء مكة محرما!
وحرمته سعيا بمروة والصفاء و "زمزما "
يا مبطلا حتى وضوئي: كن لعشق ميسما
فأعاد وضع نقابه كيدا..... وقال متمتما:
صبرا على عطش الهوى ان كنت حقا مغرما
فالماء اعذب ما يكون: اذا ستبد بك الظما!(٣)
من خلال ما تقدم من حوار بينهما تنجلي لنا صورة اخرى لها فبدت متمنعة تكد له، اذ تعاود وضع النقاب تلتمس منه الصبر على عذاب الهوى، وما يوافق ذلك ان المرأة قد عرفت منذ سالف الازمان بالكيد، اذ نظر المجتمع اليها كنظرته للشيطان، وهذه النظرة ذات بعد اسطوري، يجمع بين المدنس والانثوي، مايعني ان المرأة تكون قوية بسحرها الانثوي وضعيفة بعين التقليد الدكوري الذي يهمش حضورها
واللافت في هذا النص ان السماوي يعمد مخاطبة المرأة بصيغة المذكر، كعادة الشعراء العرب قديما وخاصة في العصر العباسي ومابعده، اذ اصبحت الضمائر التي تخاطب الانثى بصيغة المذكر دون النظر الى الدافع الكامن خلف هذه الظاهرة، واستمر هذا الى العصر الحديث وكان ذلك على نهج التقليد ومجاراة المحدث للقديم.(٤)
يرى النقاد ان مرد القضية الى الثقافة السلطوية التي ورثت من ثقافتنا العربية وكان لها الأثر على اللاوعي الجمعي أو قد يكون عائد الى النزعة الصوفية، والسماوي كعادته يعمد تبني البنية اللغوية القريبة من النزعة الصوفية، وهناك من رأى في هذه الظاهرة حصيلة لأسباب اجتماعية نفسية تعود الى مافوق التاريخية(٥)، لكن اذما اردنا ان ننقب في حقيقة الامر، فقد نتفق مع رؤية الناقد الأردني عبد القادر الرباعي المؤسسة على تحليل الخطاب الثقافي بجمالياته بديلا عن النسق المضمر بقبحياته (٦)، ووفقا لذلك نرى ان شاعرنا عمد منح المرأة السلطة المهيمنة على ذاته والمتمركزة في ثنايا النص وهذا ما دفع به الى تذكير الكلام الموجه اليها مخاطبتها بصيغة المذكر، ومنبع ذلك هو قوة سحرها الانثوية التي فرضت سلطتها وامسكت بزمام الامور، اي انه اعطى المرأة حريتها وفسح حدود النص لها ومنحها دور السلطة المهيمنة، اذ تجلت لنا وهي تشعل نيران اللهفة والشوق ومن ثم ظهرت وهي تطفئها، فبدت مشاكسة، متمنعة.
ان الدلال سمة من سمات المرأة، اذ تنبع هذه السمة من طبيعتها الفطرية الانثوية، وبما منحها الله من مقومات الحسن والجمال، لذلك احيانا تبالغ المرأة بهذه السمة حتى تجذب انظار المحب او تحسسه بقيمتها، اضف الى ما تقدم ذكره انفا نراه يراوغ بين التغني بصفات المرأة الجسدية وشوق الجسد الى الجسد تارة، وتارة اخرى يحاول ان يكسو تلك المفردات الحسية ما يستر دلالتها ؛ لذا يجنح الشاعر الى التشخيص احيانا والتشبيه والاستعارة احيانا اخرى، ولتأثره بجمال المرأة يعمل على تنظيم صور بديعية يصف من خلالها وجدانه، لنا ان نقول بأن السماوي قد ابتعد عن النرجسية الذكورية السلطوية التي تفرض هيمنتها على المرأة، فتصاعد الصراع والتوتر النفسي الذي يقوده للنظر الى ما هو محظور يعود به الى إبداء لندم، وهذا يوازي تماما ما اكده الناقد (صالح رزوق) اذ قال ما نصه (ان ثلاثية الخطيئة والتطهير والانابة المحببة لقلب السماوي، تبدو هي المسؤولة عن دراما الصراع والتوتر النفسي، وهو ما يدفع الشاعر الى الابتعاد عن التفاخر والزهو والخيلاء المرضي ويقترب به من حدود التأمل.)(٧)
ان قدرة السماوي على ادارة الحوار بينه وبين تلك المرأة الحسناء مكنته من كشف امكانية المرأة (الاخر) وقدرتها بفرض هيمنتها على ذات الشاعر (الانا)، اذ فسح المجال لها للاندفاع نحو الامام لتتمكن من الافصاح عن نفسها ضمن منطلقات متباينة، ما يعني ان السماوي اعلى من شأن(الاخر) المرأة مؤكدا دورها في الحياة وابداء رأيها
اما قصيدة (نسجت لها من القبلات ثوبا)، فقد تجلت لنا صورة المرأة بهيئة تبين قدسيتها وقوتها وسموها في عين السماوي اذ يقول وهو ما بين الحقيقة والخيال، الواقع والحلم:
لثمت خدودها فأغتاظ زهرُ
واعشب مقفر واخضل صخرُ
وخرَّ مكبرا نزق وطيش
وصلى تائبا لله نكر
وجفت موحلات للخطايا
وفاض على حقول العسر يسر
رأيت فجائعي عرسا ومغنىً
وعاد صبا برغم الشيب عمر (٨)
تجتمع العناصر المكونة لبنية النص لترسم صورة المرأة الخارقة لحدود الطبيعة، التي بحضورها يخضر مقفر، و ينزه الاثم من اثمه، ويتجاوز معها كل الخطايا، ويسهل معها كل عسير، فلا محل للهموم والاحزان بوجودها، فغدت امرأة السماوي الحياة والبهجة والامل، ولشدة لحظات السعادة ونشوة الحب التي تغمره يرى انه قد عاد الى الصبا معها، لنا ان نقول بأن ما يصفه السماوي يتعلق بما تشعر به ذاته، اي انه يصف شعوره نفسيا معها وهذا يجعله يرى ما حوله قد تغير الى ما يبعث في نفسه السعادة و الامل، اذ يسمو ذلك العشق بينهما الى العشق الروحي المنزه من كل ما يشوبه، فيعمد الى وصفها منطلقا من صفات معنوية تتجاوز مزاياها الظاهرة مخترقا ذاتها كاشفا جمالها الروحي، وهذا بدوره جعل من الانثى ذات حضور مثالي في حياته، فلا محل للمحرمات ولا المعصية بل انها المقدسة و المنزهة من كل ما يشوبها، ولذا نراه يوظف مفردات توحي بالقدسية (صلى، مكبرا، تائبا الى الله، جفت الخطايا)، لكن السلطة الذكورية تتجلى لنا فارضة سلطتها على الجزء الاخر من النص، اذ يبدأ السماوي حديثه عن لقائهما وكأنه يريد القول ان ما اوصله الى تلك النشوى هو ما سيعبر عنه الان والذي حاول ان يخفيه لكنه لم يتمكن من ذلك فيقول:
وأسكرني العناق فرحت اعدو
فبيني والمدى والنجم شبرُ (ُ٩)
فبعضي مثقل بالقيد عبد
وبعضي مثل ضوء النجم حرُّ
حملت اميرتي والليل سر
وعدت بركبها والصبح جهر
ويقول كذلك:
كأن النهد فاتنة خجول
وان قميصها الشفاف خدرُ (١٠)
معظم المفردات التي شكلت بنية المقطع الانف ذكره هي مفردات مباشرة حسية او عشقية ممنوعة وهذا ما توحيه لفظة(اسكرني، العناق، النهد، قميصها الشفاف)، ومن خلالها يتحدث السماوي عن المرأة الحبيبة بصورة مباشرة صريحة لا تحتاج الى تأويل، اذ تبوح كلماته بوقوع المحظور، فهو يرى روحه التي تهيم بها مقيدة مأسورة كالعبد، وفي الوقت ذاته يرى بعضه الاخر مثل ضوء النجم حر منطلق، مخلص حديثنا انه تمظهر بين رؤيتين فتارة يرى منها الروح الطاهرة الغير مدنسة، وتارة اخرى، هي التي توقعه في هوة المحرمات، وتجلى ذلك بالانتقالية من المقطع الاول للقصيدة الى المقطع التالي لها، اذ تبين لنا ان السماوي جعل من المرأة شيئا مقدسا بمثابة طقوس العبادة، حيث كانت تمثل له العطاء والحياة ومنبع السعادة، وهذا ما توحي به الحقول الدلالية التي شكلت بنية المقطع الاول للقصيدة، واذ ما انتقلنا الى ما يليه نرى المرأة مجرد جسد يثير ويلهب ذات الشاعر، ويبعث النشوى من شدة الوله والذهول، لنا ان نقول بأن هذه الازدواجية فيما صرح به السماوي مرده الى رؤيته الذاتية التي تقدس مكانة المرأة، ودورها في الحياة، لكن جمالها وحسنها افقده صوابه وفضح سره، فقد غلب على امره لما يكنه للحبيبة من لهفة شوق لها، فهو يرى من المرأة تفاحة ادم التي اغوته وهذا عذره الذي يبرر له وقوعه في المحظور، محملا المرأة ذنبه ولومها على حسنها الذي اغواه وهو جائع فجوارحه التي تخطت حدود الممنوع او المحظور في قانون العشق تعاني الحرمان وهذ ما يقوله في نهاية القصيدة:
لـ "ادم " عذره......وانا لثغري
وجوع يدي وللاحداق عذرُ.(١١)
فبعد ان اوقعه عشقه بالمحظور بدأ السماوي بالبحث عن عذر يعلو به من هوة المحظور الى ما هو اسمى من ذلك، اذ وجد ذاته محاطة ومكبلة بالعديد من القيود الايدلوجية و الثقافيىة، فوجد بلوم الذات وزجرها منفذا ينجيه من تلك القيود وفضلا عن لوم الذات فقد يحمل النص السماوي خيبة امل، او نظرة تشاؤمية، لما هو منتظر من قصصه الغرامية، فيقول:
علقت بها وادري ان حظي
بلا حظٍّ ..... وان الحتم خسرُ
اذا ضحك الهوى لي بعض يوم
فان بكاءه الصوفي دهرُ.(١٢)
فهو يعلم انه غير محظوظ في الهوى وان فرحه لا يدوم ولهذا فهو يندب حظه ويلوم نفسه لتعلقه بها، وما دل على ذلك هو بكاءه الصوفي الذي هذب الروح من الخطايا وقلب موازين النص وبات السماوي العاشق المتيم المغلوب على امره امام حضرت المرأة الحبية المعبودة، وهنا يمكننا القول ان السماوي عاد واعلى من شأن المرأة نهاية القصيدة،، اذ ان شدة القلق والخوف من خسارتها وتقلبه بين الندم والتشاؤم ولوم الذات اكد على ذلك.
كان للمرأة الثائرة دور في النص السماوي، اذ عكست صورتها واقع المرأة المقاتلة التي شاركت الرجل حتى ساحات القتال حاملة السلاح غير مبالية بما سيحل بها وهذا يرفده السماوي من واقعه ارض العراق التي انجبت (مريم ناعم)، وهي سيدة من مدينة السماوة، كان لها حضورها في الانتفاضة الشعبية، حملت السلاح وقاتلت جنبا الى جنب مع الرجل، خلدها شاعرنا في نصوصه لتتلو للأجيال حكايتها، أذ يقول (حكاية مريم الناعم):
سمراء مثل خبز الفلاحين
وديعة مثل جدول حديقة نعناع
شفيفة كالندى
هادئة كالنعاس
لكنها حين تغضب: تهطل كالنيازك
تحب القرنفل والعصافير والاطفال
وبالمجان تخيط ثياب فقراء الحارة
تحمل في قلبها كتاب الله
وتغفو تحت عباءتها قنبلة مهيأة للاستيقاظ (١٣)
يمزج النص من خلال مفرداته صورة لتلك المقاتلة التي يتوقع المتلقي انها قد تكون صورة قاتمة ؛فهي المرأة المقاتلة، وما يوعز به مصطلح القتال من دلالة توقظ في داخلنا التهيب لسماع كل ما يسلب الحياة نظارتها وديمومتها، لكن المقاتلة الثائرة تتجلى بداية بأبهى الصور التي عكست روحها النقية العفوية، اذ شبه حسن وجهها بخبز الفلاحين، ببساطته ولذته وطبيعته، فهي هادئة، وديعة، فيتجلى لنا ان السماوي كان متعمدا توظيف تلك الصفات أذ حاول ان يرسم لنا صورة انيقة وجميلة عن ذات ممزقة نتيجة لقساوة واقعها الذي شهدته ولهذا بدت لنا بصورة اخرى تتناسب مع روحها الغاضبة الثائرة التي ترفض الذل وهذا ما اوحى به قوله:
لكنها حين تغضب تهطل كالنيازك
ما يثير انتباهنا، هو ان شاعرنا عندما رسم للمرأة تلك الصورة الثائرة عمد ان يرتكز على مفردات تتناسب مع رقة المرأة وعذوبتها، فيشبهها بالنيازك تلك الاحجار التي تشتعل نارا فترى وكأنها نجم متوهج في حضن السماء، لكننا نفزع ونهرب بمجرد ان نراها تقترب من سطح الارض، وما بين توهجها في حضن السماء وكتلتها المدمرة المشتعلة نارا وهي قريبة من سطح الارض، نلمح تلك الصورة لمريم التي ابدع السماوي برسمها امرأة تحب الحياة رقيقة، عذبة، قلبها محب لعمل الخير تارة، ورسمها امرأة ثائرة يعلو صوتها حين يغصب المرء على الصمت في بلاده تارة اخرى.
كذلك نراه يجاور بين متنافرين حين يقول:
تحمل في قلبها كتاب الله
وتغفو تحت عباءتها قنبلة مهيأة للاستيقاظ(١٤)
وكأنه اراد ان يطفئ وحشية وقساوة ما توحي به لفظة القنبلة بأن يتقدمها قوله كتاب الله تحمله في قلبها، فهو يجيب المتلقي اذا تساءل عن مريم، (النقاء، الامل، الحياة)، والقنبلة (الدم، الدمار، الموت) كيف لمتنافرين ان يجتمعا، لكنه بين ان مريم، المرأة الثائرة كانت مؤمنة تخاف الله ملتزمة بسننه وتعاليمه، فحمل السلاح كان مبررا وقتلها لبعض رجالات الدولة كان مبررا ايضا، كونها انسانة حرة ترفض القيد في بلدها ومحبة لأرضها وابناء بلدها ترى في مشاركتها الرجل واجبا مقدسا.
ولا تخلو نصوص السماوي من صورة المرأة الام التي حملت في طياتها معاناة الفقر التي ادركها الشاعر في ظل واقعه وعاشته الام العراقية وهي تجهد ذاتها من اجل فتح باب المستحيل وطرد شبح الفقر والجوع واشباع صغارها، ضمن هذه الصورة نراه يقول:
ابي عاش سبعين عاما ونيفا
على الخبز والتمر
ما زار يوما طبيبا...
وامي اذا جعت تشوي لي الماء
او تنسج الصوف ثوبا
فيغدو حريرا بهيا (١٥)
يسرد لنا السماوي واقعا عاشه مع أفراد عائلته مستذكرا ما عانوه من الفقر والحرمان، وكان للأم دور قيّم في تخفيف الم تلك الليالي وكيف أنها كانت تفعل المستحيل كي لا يشعروا بألم الفقر فكانت تخلق من العدم شيئا يسد عوزهم، واي صورة اكثر تعبيرا تخلقها عبارة (تشوي لى الماء)، وليس هذا فحسب بل انها كانت تنسج الصوف، لكنه يتحول حريري الملمس. جسدت هذه الصورة معاناة الام العراقية بصورة عامة، وبينت عظمتها وشجاعتها في مواجهة الفقر وتدبيرها سبل العيش، وليس هذا فحسب بل ان شاعرنا تمكن من خلال تلك الصورة ان يمرر قضية الفقر التي اطبقت على انفاس اغلب البيوت العراقية بسبب سياسة الاهمال والترهيب المتعاقبة على بلدنا العراق، فضلا عن ذلك ورغم ما خلفه الفقر في بلاده لكننا نلمح الامل بغد مشرق فلا وجود للاحباط في حياته وهو ما جعل من الصوف حريرا في نظره، فهو يرى ان المحبة اساس للعيش بنفس راضية قنوعة، اذ كانت الام تقدم ما لديها بنفس طيبة نقية تملؤها المودة والرحمة ومن المؤكد ان ماتقدمه كان يقابل بالمثل.
يسند السماوي للمرأة (الام) دورا يتمثل بتدبيرها لسبل العيش، و دورها في كيفية تعاملها مع اطفالها وسر قناعتهم ان ما يلبسونه هو الاجمل وما يأكلونه هو الاطيب والالذ، وهذا السر يكمن فيما تعطيه الام من محبة وما افرزته من قيم ومبادئ جعلت منها مرتكزات لأسناد بناء عائلتها، ما يعني ان دورها يلتقي مع دور الام وفق المنظور الاجتماعي، الذي يرى الام مدرسة، ويراها كذلك المؤسسة الاجتماعية الاولى التي تهيئ انسانا سويّا يتقبله المجتمع ويمتزج مع عاداته وتقاليده (١٦)، وهذا يعني انه اعطى لهذه الشريحة من المجتمع مساحة تحسب لها كذلك دورها الذي اخرجها من قوقعة التهميش والاستقصاء، فما يتجلى لنا ان للمرأة الام حضورا يكاد يغلب دور الاب.
خلاصة قولنا ضمن حدود صورة المرأة الواقعية و نسقيتها، نرى ان السماوي تعامل مع المرأة من خلال الدور الذي تشغله، اذ تجلت لنا حرة طليقة مشاركة للرجل في ساحات القتال ثائرة لا ترضى الخنوع، ما يعني انها كانت تعود بفائدة نفعية للمجتمع، وبدت كذلك مربية ومؤسسة لجيل تساهم في تكوين بنية المجتمع، وهذا ما يؤكد ان المرأة نصف المجتمع وهي عضو فعال في تكوينه، كذلك يؤكد لنا سياسة المساواة بين الرجل والمرأة التي يؤمن بها شاعرنا، لكن ورغم ذلك بدى لنا الشاعر بمنظور اخر مثل ما هو ذاتي نفسي تحركه كوامن داخلية، او ما هو غاطس في اللاوعي الجمعي ويكون متحكما برؤيتنا بوعينا او دونه، فتارة هي خطيئة الشاعر التي يحاول تطهير ذاته من تلك الخطيئة، اذ نظر لها بمنظور حسي يحاول من خلاله اشباع غريزته، او بالمعنى الادق اطفاء ناره التي اوقدتها تلك المعشوقة، وتارة اخرى هي المقدس والمثالي، التي يسمو بها عن كل ما هو دنيء محظور في القانون المجتمعي، وقانون العشق الازلي، ما يعني تشابك الجوانب الجسدية والروحية في صراع، اذ يحاول احدهما ان يطفو فوق الاخر وهذا بدوره ولد تلك النظرة المزدوجة لدى الشاعر كما و يؤكد لنا ان السماوي لم يوجه نصب اهتمامه الى اللذة الحسية، بل انه امن بالحب الذي يتجه نحو روح تجسدت في بدن، وما يصاحب ذلك من لذة والم (١٧)، تنجم عن لحظات السعادة ولحظات الحزن التي ادركها السماوي.
ثانيا: صورة المرأة الرمزية:
تقاسم السماوي عالمه مع المرأة، اذ كانت ناقلة لتصوراته عن قضايا ادركها الشاعر على ارض الواقع، كان منها قضايا الفقر والحنين الى الوطن وقضايا اخرى انجلت لنا من خلال نصوص عدة تظهر المرأة وهي ترمز لقضية ما او توحي بمسألة ما أراد السماوي البوح بها من خلالها، ففي قصيدة(حديقة الجنون)، اذ يقول:
ايتها العفيفة الطاهرة الآثام
والقديسة
الناسكة المجونْ
*
تدرين ان العشق
في عصر فتاوى الذبح
اضحى تهمة
وانني الخارج في فقه الدراويش
عن القانونْ (١٨)
يتحدث السماوي مع امرأة مجهولة غير واضحة المعالم، يناديها بأسمى الصفات فهي العفيفة الطاهرة القديسة فتبدو بصورة براقة، ويتضح من خلال حواره انه يهيم بها عشقا، لكن هذا العشق بات جريمة في عصر اختلت به الموازين، فهو يحرم الحب ويحث على الكراهية المتمثلة بالقتل، وكأن السماوي يصور واقعه المأساوي، المتمثل بأرضه العراق المغتصب الحقوق مستعينا بصورة المرأة الفصلية، اي ان صورة المرأة التي تحدث عنها بداية تفقد بريقها بعد ان يكشف عن هويتها فيقول:
انك الفصلية النعجة
في وليمة الآمر
بالأكفان والتابوت والسياط(١٩)
فهو يعمد الى توظيف صورة المرأة الفصلية ضحية زواج الثأر في العرف العشائري، اذ تعيش هذه المرأة مسلوبة الارادة تحت ضغط نفسي فهي ضحية لتلك الاعراف والتقاليد، فتكون الوسيلة التي يقدم من خلالها صورة بلده المسلوب الارادة في عرف القوانين التي يسنها الآمرون في بلده، فيشاكل السماوي بين صورتين متماثلتين المرأة الفصلية ضحية الاعراف والتقاليد العشائرية ووطنه المسلوب الارادة الذي يراه ضحية القائمين على امره، ما يعني ان المرأة الفصلية التي تحدث عنها السماوي كانت وسيلة لتمرير قضية وطنه الذي يراه مسلوب الارادة.
ويقول شاعرنا ضمن قصيد ة (عندي عتاب):
بالأمس كنتُ اذا ظمئتُ حلبتِ لي
شفتيك لو جفَّ الندى وسحابُ
وانبت عن فانوس ليلي مقلة
فأنا وانت: الجفن والاهدابُ
استحال الورد سوطا والندى
جمرا ؟واثما يا رؤوم ثوابُ (٢٠)
من المؤكد ان المرأة عنصر ذا اهمية في حياة الشاعر تعمل على اثارة مشاعره، كونها تعيش في وجدانه و تحيا ضمن احلامه، اذ نراه يتلذذ بوصلها ويحزن لهجرها وصدها وضمن حدود ما ذكر في النص من مفردات تمثلت بقوله (رؤوم، حلبت لي، شفتك، انبت) تبين حديثه مع امرأة تتماهى معه وتتمازج، فهما متقاربان الى درجة تقارب الجفن والاهداب، لكنه غدا متعجبا من جفوها وصدها وبعدها، فتلك المعطاء امست سوطا وجمرا يلهبه، فلم تعد كما كانت بل تغير ما بينهما من ود ولذلك نراه يعاتبها متعجبا لما حل بهما، وكيف انقلبت الموازين وتغيرت قوانين الحياة، ثم يكمل الشاعر القصيدة بقوله
جهزت تابوتي فهل جهزت لي
غُسلا به من عذب فيك رضابُ
لا توصدي الشطآن دون سفينتي
ما عاد لي من شاطئيك إيابُ
قد جئت توابا يقود قوافلي
ندم..وعفوك مطمح وطلابُ (٢١)
من خلال تنقيب النص تبين لنا أن تلك المرأة التي يسمو بها الى اعذب الخصال قد عمد الشاعر ان يقحمها في نصه لتمرر قضية مهمة تمثلت بشوقه وحنينه للوطن او ارض مدينته السماوة، ما يعني ان هذه المرأة كانت ترمز الى السماوة او العراق اذ طالما تغنى بالشوق والحنين للعودة اليهما، وما دل على ان المعشوقة هي بلاده تلك المفردات التي شكلت نسيج المقطع الاخر للنص (جهزت لي غسلا، لا توصدي الشطآن، شاطئيك، عذب فيك)، فهو يطلب منها ان تجهز له مراسيم الدفن، ويلتمسها ان تسامحه ليعود من غربته، اذ يعلن ندمه طالبا منها العفو ويطمح بذلك.
قدم السماوي اعتذاريته للمرأة /المعشوقة/ بلاده، مرتكزا على صياغات لغوية حيوية التفاعل وايحائية الدلالة، بعيدة العمق، اذ نراه يقول وهو يؤكد سمة العطاء: بالأمس كنت اذا ظمئت حلبت لي
شفتيك لو جف الندى وسحاب
عمد السماوي اثارة المتلقي وارباك بنية النص بقوله (حلبت لي شفتيك) وكأنه ارد ان يقول ان العراق / ارض السماوة /المعشوقة كانت تعني له الام والحبيبة، فضلا عن ذلك قوله:
جهزت تابوتي فهل جهزت لي
غسلا به من عذب فيك رضابُ
نرى السماوي مرحبا بالموت لا يهابه وهو في رحابها، وكأنه يرى في الموت ومراسيمه ما يطهر ذنوبه ويغتسل خطاياه، اذ بدى لنا مذنبا معترفا بذنوبه معلنا ندمه.
خلاصة القول ان ما اورده السماوي من مشاكلة بين صورة المرأة وما اراد ان يوحي به الشاعر من رمزية اقحمت في النص من خلالها كان ناجما عن تشابه الموقف، اي ان ايراد بعض المفردات الايحائية حين يتجلى العراق/بصورة المرأة الحبية / المعشوقة ما هو الا دليل على تماهي دلالته الشعورية وتصوفه الروحي تجاه الوطن والحبيبة، ما يعني ان الحبيبة والعراق متماثلان فكلاهما يسكن قلب الشاعر وكلاهما يذوب شوقا اليهما.
***
بقلم: نسرين ابراهيم الشمري
تدريسية عراقية / ماجستير أدب عربي
..................
المصادر:
1. ثنائية اللذة والالم في الشعر العربي قبل الاسلام، د.ليلى نعيم الخفاجي، بغداد عاصمة الثقافة العربية، الطبعة الاولى، ٢٠١٣
2. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي، دار التكوين، استراليا، الطبعة الاولى، ٢٠١٢
3. المصدر السابق
4. اخر الكلاسيكين وجهة في شعر يحيى السماوي، صالح رزوق، حلب، الطبعة الاولى، ٢٠١٣
5. المصدر السابق
6. جماليات الخطاب في النقد الثقافي رؤية جدلية جديدة، عبد القادر الرباعي، دار جرير للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، عمان، ٢٠١٥
7. اخر الكلاسيكين وجهة نظر في شعر يحيى السماوي، صالح رزوق، حلب، الطبعة الاولى، ٢٠١٣
8. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي.
9. المصدر السابق
10. المصدر السابق
11. المصدر السابق
12. المصدر السابق
13. المصدر السابق
14. المصدر السابق
15. المصدر السابق،
16. الذات والمجتمع دراسة في الانساق الثقافية، موج يوسف، مؤسسة ابجد، بابل، الطبعة الاولى، ٢٠٢٢
17. مشكلة الحب مشكلات فلسفية، زكريا ابراهيم، دار مصر للطباعة، الطبعة الثانية، ١٩٧٠
18. اطفئني بنارك، يحيى السماوي،، دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الاولى، ٢٠١٨
19. المصدر السابق
20. المصدر السابق
21. المصدر السابق