قراءات نقدية
سحر ماهر أحمد: النقد السياسي في مقامات العصرين المملوكي والعثماني
تعددت مظاهر النقد السياسي في المقامات، فقد انتقد الأدباء سياسة الإهمال المقصود التي مارسها حكام المماليك والعثمانيين بحق العلماء، ومنها إهمالهم في أرزاقهم، ومحاربتهم فيها، وباعوهم المناصب بالرشوة، وجعلوهم فضلة عند توزيع الأرزاق. وانتقد الأدباء سياسة التهميش والاحتقار والاستبعاد التي مارسها ساسة المماليك، وبيّنوا أن الموقّر عندهم الذي يريق ماء وجهه على أبوابهم، وصوروا سعادتهم وهم يذلّون المثقفين. وكشفت المقامات عن سياسات التنكيل التي اقترفها الحكام بحق بعض العلماء، وتراوحت بين التوبيخ، والتعذيب، والسجن، والقتل.
تناول السيوطي هذا الموضوع في ثلاثة من مقاماته هي (مقامة الرياحين، والمقامة المسكية، والمقامة الياقوتية)، ولكن السيوطي لم يتناول الموضوع بطريقة تصريحية، بل عمد إلى الطريقة الرمزية، ولم يكن السبب خوف السيوطي من بطش السلطان ولكن ليكسب مقاماته نوعًا من الطرافة والجدة.
ففي مقامة الرياحين بعد أنْ يقدم الكاتب وصفًا للمكان وهو حديقة نضرة، يسأل الريان عن الخبر، فيرد عليه بعض مَن عَبَر بأنَّ عساكر الرياحين قد اجتمعت لاختيار مَن هو أحق بالملك، ومَن تكون له الإمرة على البوادي والحواضر، فجلس الريان لحضور فصل الخطاب، فكان الورد أول المتحدثين فنوه بمكانته بأنه نديم الخلفاء والسلاطين، والمرفوع على الأشرة، وأبان عن منافعه الطبية ومحاسنه الأدبية، وما ورد فيه من طريف الأشعار، واعتز بأنَّ أمير المؤمنين قد حماه وأنَّ له تقليدًا من الخلافة على سائر الرياحين، وله ابن يخلفه في الحكم عند الحاجة، وبعد أنْ ينهي الورد حديثه يقوم النرجس فيغض من قيمة الورد، ويذكر محاسن النرجس ومميزاته، ثم يفتخر بنفسه قائلًا: "لقد تجبست يا جبس، وأكثرك رجس نجس، وأنت قليل الحرمة، واسمك مشمول بالعجمة، وكيف تطلب الملك وأنت بعد قائم مشدود الوسط في الخدمة"(1).
تستمر المناظرة فيتحدث البان ويهاجم الياسمين، ثم يأتي دور النسرين فينتصر لأخيه الياسمين على البان، ثم يقوم البنفسج ملتهبًا قد بدت عليه زرقة الغضب، فيحط من شأن النسرين ويفتخر بنفسه وبما له من فائدة، ثم يقوم النيلوفر ويحشد الجيوش قائلًا للبنفسج: "بأي شيء تدعي الإمارة وتطاوع نفسك والنفس أمارة"(2).
تستمر المناظرة بين الآس والريحان وكل منهما يدعي بأنه أهل للملك، وتنتهي المناقشة بين الرياحين، فيتفق أهل الرأي على اختيار حكم عدل، فيختارون رجلًا عالمًا بالأصول والفروع، محيطًا بأغلب الفنون، ويذكرون له قضية النزاع، فكان جوابه: "ليس أحد منكم مستحقًا عندي للملك"(3)، ويرى أنَّ الفاغية (الحناء) هي الصالحة لهذا الأمر؛ لأنها كانت أحب الرياحين إلى سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويشير بذلك إلى أنَّ اختيار الأمير يجب أنْ يقوم على أساس ديني، وأنَّ هؤلاء الأمراء لا يصلحون لهذا الأمر، ولعلّه يشير إلى أحقيته بهذا الأمر؛ لأنه مجدد الدين على رأس المائة التاسعة كما يقول.
وقد اختار في المقامة المسكية أربعة من أمراء الطيب وهم: المسك، والعنبر، والزعفران، والزّباد، ولعلّه يرمز بهذه الأربعة إلى أربعة من أمراء المماليك الذين تنازعوا على الحكم بعد وفاة قاتيباي أي من سنة 902 ـ 906 هـ، ونجد السيوطي، يقول لرابعهم الزّباد: "فلست تعد مع هؤلاء من الأقران،... ومتى ادعيت أنك رابعهم قيل لك: اخسا، ومتى جاريتهم في ميدان السبق فكبا لك وتعسا..."(4)، ولعله يقصد به طومان باي المتوفى سنة 906 ه، وهو الذي تطلب لقتله.
أما المقامة الياقوتية فقد أجرى فيها المفاخرة بين سبعة من اليواقيت وهي (الياقوت، والؤلؤ، والمرجان، والزبرجد، والعقيق، والفيروزج) ومضمونها هو مضمون المقامات السابقة.
أما شهاب الدين الخفاجي فيخصص مقاماته في وصف رحلته في طلب العلم والبحث عمن يعطيه حقه من المكانة التي تليق به، لذلك فإنه ينتقد بعض الحكام والوزراء، ويخصص مقامة في ذم المولى يحيى بن زكريا فينتقده ويذمه وينتقص من مكانته، يقول: "فإنه مما صب من المصائب أنْ حمل على كاهل الدهر عيبة المعائب، نسخة القبائح، مسودة الفحش والفضائح، جريدة العيوب، تمثال السيئات والذنوب، إكسير الفساد، وشماته الأعداء والحساد، أنموذج الهوم، أظلم من ليل المرض والغموم، قحط الرجال، قائد جيش الدجال، قبيح الفعل والقول، إذا اعتذر عن إساءته غسل البول بالغائط، ..."(5).
ثم يستطرد في الكلام على هذا الرجل وينتقي ما أسعفه به قاموسه اللغوي من ألوان الذم والهجاء، فيقول: "ريقه الزقوم، وأنفاسه السَّموم، فهو لعَين الدهر قذىً، ولا ينطق بغير فحش وأذى، الجهل رداؤه، والجذام حليته وبهاؤه،... أقبح من النقم، وأسوأ من زوال النعم، أزنى من ظلمه، وأمد من غمه على غمة،... لا خير فيه إلا أنه لا يأثم له مغتاب، بل يحمد ويجازى بجزيل الثواب"(6).
فالشهاب ينتقد علماء الدولة العثمانية، لما رآه من تفشي للظلم بين أمراء الدولة وحكامها وعلمائها، إذ يقول في سبب إنشائه هذه المقامة: "فما حدث بها ـ أي الروم ـ لما سجد الزمان فارتفع كل أسفل، واتبعت نتيجة هذه الدولة الأخس الأرذل أن فوضت صدارة العلماء، ووجهت قيادة الفضلاء لشخص ملقب بأسود الخص، يُغْني دون عدد معائبه الرمل والحصى، فجرت بيني وبينه مخاصمة، أدت إلى المكابرة والمحاكمة فقلت في وصفه مقامة"(7).
ولأحمد البوني مقامة بعنوان (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة 1106ه، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات العصر، ويبدأها بالحمد، يقول: "الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف،... وبعد،"(8). ثم يحذر العلماء ويدعوهم لسماع ما سيلقيه عليهم، يقول: "وبعد أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا في الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدى لها كل ذي نفس للشر سريعة، بينما نحن في عيشٍ ظله وريف، وفي أهنى لذة بقراءة العلم الشريف،... إذ سعى في تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه بما هو لاقيه، واعتد في ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم والله أوباش أراذل،... وما كفاه بث ذلك في كل ميدان لأنه يسر الشيطان، حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتب واردة علينا من جانب الأمير بعزل صديقنا الشهير، من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، تحيرنا من ذلك أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير ثم نادى منادي السرور، وقال ابشروا برفع السوء عنكم ودفع الشرور،... فقلنا يا هذا أصدقًا..."(9) فالكاتب في هذه المقامة يتحدث عن وشايات السلطة والحكام وأثرها على المفتين، إذ قام الحاكم بعزل صديق له يعمل مفتيًا، وذلك لرفضه مثل تلك الأعمال.
كما مرَّ سابقًا فإنَّ كتاب العصرين المملوكي والعثماني كتبوا مقامات في نقد المجتمع والسلطة الحاكمة، وذلك ينم عن ذائقة رفيعة لهؤلاء الكتاب، وأنهم عاشوا في المجتمع وناضلوا بالكلمة في توضيح هذه الإشكاليات وإبداء رأيهم فيها.
***
د. سحر ماهر أحمد
........................
(1) مقامات جلال الدين السيوطي:1/ 444.
(2) السابق: 1/ 472 ـ 473.
(3) السابق: 1/ 473.
(4) مقامات جلال الدين السيوطي: 2/ 1109.
(5) ريحانة الألبا: 284.
(6) السابق: 286 ـ 287.
(7) السابق: 284.
(8) أبو القاسم سعد الله: تجارب في الأدب والرحلة، المؤسسة الوطنية للكتاب، (د.ط)، شارع زيروت يوسف ـ الجزائر، 1983م، 91.
(9) السابق: 91 ـ 96.