قراءات نقدية
زكية خيرهم: قراءة في رواية ليلة العشاء الأخير
للروائي المغربي ادريس الصغير
تركت هذه الرواية أثراً عميقاً في نفسي، إذ لم تكن مجرد رواية صغيرة الحجم، بل كبيرة في مضمونها ومعانيها. لما تناولته من موضوعات كبرى تشغل البشرية، فهي لا تتحدث عن مجرد قصة بل تناقش قضايا جوهرية، تدور حول الوطن والجهل والموت والمرض والهم العربي. تتميز هذه الرواية بأسلوب نثري سلس، يساعد على إبراز تلك الموضوعات الجوهرية بشكل مفعم بالعواطف والإحساس، يجعل القارئ يشعر بما يشعر به الشخصية الرئيسية. تناول أيضا قضية الوطن بطريقة تعبر عن العلاقة الخاصة التي يملكها الإنسان مع بلده وأرضه، وتوغل في أعماق النفس البشرية وتحدث عن حالات الوحدة والعزلة التي يمكن أن يعيشها الإنسان. بالإضافة إلى الجوانب السلبية للحكومات العربية والمسؤولين. وهو ما يدفعنا إلى التفكير في الحلول الممكنة لهذه المشكلات والسعي لتحسين الوضع الاجتماعي في المنطقة. إنها رواية اجتماعية مؤثرة بأسلوب نثري تأسر القلب وتحرك المشاعر. قدمها لنا الاديب ادريس الصغير في قالب فني راق، تتجسّد في الكلمات والعبارات التي تخاطب العقل والوجدان. يحلو للنفسِ العربيةِ المُحبةِ للغةِ الجميلةِ الاستمتاعُ بها. تُلهِ القارئَ الخياليَ وتأخذه في رحلةٍ ساحرة بينَ عوالم متعددة. يبدأ بالحديث عن شخصيةٍ رئيسية تبدو محبطة وغير مهتمة بالحياة. شخصية تفضل النوم العميق للهروب من واقعها، وتعاني من الأرق الدائم والميل للنوم والافلات من الواقع، شخصية يشعر بأن المتع التي يتذوقها لا تمنحه الرضا والسعادة التي يتوق إليها. تسكن ذكريات الماضي في قلبه، عن حبٍ وطفولةٍ واعتقالٍ ووظيفةٍ، تثير فيه الأحاسيس والألم، لكن يتعرض للمرض ويواجه مشرفةً اجتماعيةً تهتم بعلاجه بلباقةٍ ومحبةٍ. يزور المستوصف والمستشفى، يرى الممرضات والمرضى وحالته وأوجاعه ووحدته، ويشهد مواقفًا من الناس تثمن عقاره ولا تقيم تراثه. يتأمل الحكومات والمسؤولين ويتألم بفراق الأحباب ويخشى الموت ويتوق للزواج، فهو في بحرٍ من الانطباعات المتجددة. صراع داخليً يعتصره، يحاول التغلب عليه. يشعر بالتعب والإرهاق، ويرغب في الوفاة، يبحث عن الشفاء والعلاج. يتأرجح بين الذكريات الحزينة لحبيبته الراحلة ومشاعره تجاه حبيبته الجديدة. يرى الموت يلوح في الأفق ويرغب في الاستعداد له. يريد التأكد من أن كل ما لديه سيذهب للشخص المناسب. يحاول التغلب على الشماتة الأليمة للزمن ويحلم بالاحتفاظ بحبيبته الجديدة. يريد إنهاء الصراع الداخلي في حضن الحب والوصول إلى السلام النفسي. ومع ذلك، يمكن اعتبار هذا النص متفائلًا بطريقة غير واقعية، إذ يوجد صراع دائمًا داخل كل إنسان، وليس من السهل التغلب عليه. فإن الاستسلام للموت ليس دائمًا الخيار الأمثل. قد يكون التركيز الزائد على حبيبته الجديدة هو مصدر الصراع الداخلي الذي يشعر به. في النهاية، قرر أن يتخلى عن الصراع الداخلي و يعيش حياته بسعادة وإيجابية، و يعتمد على الحب والأمل والتفاؤل في مواجهة أي تحديات في المستقبل.
اعتبره البعض بطلًا وشجاعًا، الفلسطيني الذي يحمل في قلبه غضبًا شديدًا تجاه الواقع العربي المرير. لكن هذا الغضب جعله يقع في قبضة السلطات السياسية، حيث تم اعتقاله وسط ملابسات سياسية غامضة. تعرض لتحقيقات قاسية والتعذيب من قبل المحققين الساعين لاستخراج اعترافات منه، وبعد ذلك حُرم من حريته وتم حبسه في السجن. بين جدران السجن، عاش العديد من الأوقات الصعبة والقاسية، وعاش تجارب مختلفة مع زملائه في السجن. حكايات مؤثرة عن القسوة والألم والشجاعة والأمل. لكن، الأمر الذي ترك أثرًا أعمق في نفسه، هو عزلته داخل قبو ارشيف عمله. هناك، وجد نفسه يتأمل في ماضيه ويحلم بمستقبله، ويستكشف هويته الحقيقية. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن من الخروج من عزلته الذاتية، فأصبح قبو أرشيف عمله مكانًا له للاختباء والتأمل والتفكير في الحياة.
يصوّر الكاتب في نصه حالة المريض المصاب بالتخمة النفسية، ويتناول الأسباب التي تؤثر على الصحة النفسية للفرد، مثل تغير الظروف وتقلبات الحياة. ويتساءل الكاتب إذا ما كان المريض قد تسبب في إصابته بالتخمة نتيجة لتماديه في متع الدنيا. ويعكس النص بشكل واضح تأثير هذه الحالة النفسية على المريض، حيث يشعر بالإحباط والتعب والأرق، ولا يشعر بالاهتمام بالحياة ويشعر بالانسحاب. ومن الناحية الفلسفية، يتيح النص مدخلاً لمناقشة العلاقة بين الصحة النفسية والسعادة، إذ يعرض الكاتب حالة المريض الذي يتذكر السعادة والأمل اللذين كان يشعر بهما في السابق، والذي يعاني الآن من الإحباط والتعب والانسحاب. ويوازن الكاتب بشكل متناغم بين اللغة الوصفية والمضمون، حيث يتعمق في وصف حالة المريض ويوضح تأثير الزمن وتغير الظروف على حالته النفسية. بشكل عام، يتميز النص بأسلوبه العميق والصادم في نفس الوقت، حيث يسلط الضوء على الآثار السلبية للحالات النفسية المختلفة، وكيف يؤثر ذلك على حياة الفرد. يمكن أيضًا تفسير النص من خلال علاقته بفلسفة الوجودية، التي تركز على البحث عن معنى الحياة والوجود البشري في هذا العالم. يظهر الشخص المريض في النص كشخص يعاني من شعور بالفراغ والعزلة وعدم الرضا عن الحياة، وهذا يمكن تفسيره على أنه نتيجة لتفككه من واقعه وضياعه في العالم الخيالي. يتناول النص بشكل مترابط عدة محاور مهمة، فهو يسلط الضوء على أهمية الدعم العائلي والاجتماعي في الظروف الصعبة، ويشدد على أهمية العدالة والاحترام في العلاقات الإنسانية، كما يحذر من الاستخدام الفاسد للسلطة والقوة. يتركز النص على شخصيتين رئيسيتين، وهما الشرطي الفاسد والمعتقل، حيث يتضح من خلال حوارهما أن الأول يعمل في مؤسسة تفتقر إلى العدالة والإنصاف، فيما الثاني يحاول الدفاع عن حقوقه وحقوق شعبه. يعمل النص على إظهار الأسباب التي أدت إلى فساد الشرطي وتحوُّله إلى هذه الحالة، مما يعكس تأثير المحيط والبيئة على الإنسان وسلوكه. ويختم النص بتحذير من أنه لا يمكن التنبؤ بمصير الأفراد وأحداث الحياة، مما يدل على تشاؤم الكاتب واعتقاده بأن الحياة مليئة بالمفاجآت والتحولات الغير متوقعة.
يمكن اعتبار هذا العمل الروائي بمثابة دراما نفسية حيث يتمحور حول الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية وتأثيرها على حياتها وعلاقاتها الشخصية. تتميز هذه الدراما بأنها تتركز على التحليل العميق للشخصيات وتطورها وعن العواطف والمشاعر الإنسانية والتحديات التي يواجهها الإنسان في حياته. كما يوضح النص أيضًا أن الشخص المصاب بمشاكل نفسية يحتاج إلى العلاج بدقة واهتمام واتباع النظام الصحيح، والتعاون مع الأطباء والممرضات لتحقيق التعافي الناجح. يوضح النص أهمية احترام الآخرين وتقدير جهودهم، وروح التسامح والصفح عن الأخطاء والأخذ بالاعتبار الجهود المبذولة للمساعدة في التعافي. كما يناقش النص أيضًا بعض الأفكار الثقافية والتاريخية، مثل قراءة القصص الخيالية وتخيل الأماكن والثقافات المختلفة، وكذلك المشاهد الحزينة في مراسم الدفن والتفرقة في المعاملة بين الرجال والنساء في المجتمع. تنساب في قلب هذه الرواية قصة حب غير متبادل، تعتريها أحداث مؤلمة تصيب الأفراد بشكل كبير. فالشاب المريض، يعاني من ضروف صعبة تجبره على الابتعاد عن حبيبته، فلا يجد سبيلاً للتعبير عن ألمه وتقييداته، سوى الحاجة الملحة للمشاركة والحب. ولكن، تنتقل الأحداث في النص لتصوير الوحدة والانطواء، ورغبةٍ في الاتصال بالأجداد والبحث عن الهدف في الحياة، وذلك عبر شخص يعاني من مشاكلٍ في الحياة العائلية والشخصية. فهو يبحث عن تحديد مسار حياته، ومعرفة المزيد عن تاريخه، وكأنه يحاول إيجاد ذاته في الفضاء الزمني الواسع.
تعد رواية "ليلة العشاء الأخير" للأديب المغربي إدريس الصغير، إحدى الأعمال الأدبية الحديثة الرائدة التي تحاول تناول مجموعة من الموضوعات الإنسانية العميقة، مثل الحب، الوحدة، الإحباط، التيه، وبحث الإنسان عن معنى الحياة. ويتميز أسلوب السرد في هذه الرواية بالتعبير عن المشاعر والأفكار المتضاربة التي يعيشها الشخصيات، وتضفي عليها النقد الاجتماعي والثقافي نكهة فريدة، مما يزيد من قيمتها الأدبية. يمكن القول أن هذه الرواية تشكل نموذجًا حقيقيًا للرواية الحديثة التي تعتمد على تقنيات السرد الحديثة وتتجاوز الحدود التقليدية للسرد، وتجمع بين الأصالة الأدبية والتجديد الحديث. وليست هذه الرواية مجرد قطعة أدبية عابرة، بل هي مصدر إلهام للكثير من الأعمال الأدبية والفنية الحديثة، حيث استوحى الكثيرون منها فكرهم وموضوعاتهم. تجسد هذه الرواية موضوعات إنسانية عميقة بطريقة حساسة ومؤثرة، وتعكس بدقة حالة الإنسان في العالم الحديث. ومن خلال ذلك، فإنها تعد مرجعًا أدبيًا هامًا للدارسين والباحثين في الأدب العربي.
***
زكية خيرهم