قراءات نقدية
إضاءة على: بعد أن كبُر الموج للكاتبة هيام مصطفى قبلان
عن دار الوسط اليوم في رام الله صدرت مؤخّرا المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة والشاعرة هيام مصطفى قبلان، تزيّن لوحة غلافه لوحة الفنانة لينا صقر مصطفى، تقع في 120 صفحة وتحتوي على اثنتين وعشرين قصة قصيرة.
تفتتح المجموعة قصة «أفقد نفسي»، بطلتها هي إمرأة شابة، وربما من المثير للعجب أن اسمها يهودي، راحيل، رغم كونها عربية من عائلة عربية، قرويّة، تقليدية، تعود برفقة زوجها وابنها الصّغير إلى بيت أهلها الذي نشأت فيه في القرية، بعد غياب عشر سنوات. راحيل، التي توفّيت والدتها وهي صغيرة، فقدت حنان ودفء الأم منذ ذلك اليوم، واضطرّت هي وأختها فريدة للخروج للعمل في الحقول والكروم والبيوت، وتفاقمت معاناتها بعد زواج الأب من رحمة، إمرأة شابة وجميلة، تصفها الكاتبة بأنها «ذكيّة بحنكتها ومكرها وضعت كل طاقتها بتقريب الأختين لها وكسبهما» في البداية، وبعد ذلك كشفت رحمة عن وجهها الحقيقي بعد أن أنهت راحيل المدرسة وتمّت خطوبتها على سعيد الذي أراد الزواج من راحيل بعد أن طالت فترة الخطوبة، بموافقة راحيل، إلا أن زوجة أبيها، رحمة، أقنعت زوجها أن راحيل ما زالت صغيرة السّن والأفضل تأخير الزواج حتى يكمل سعيد تجهيز البيت.
وعندما طلبت راحيل من رحمة استقبال أهل خطيبها لتحديد موعد الزواج، ينكشف وجهٌ آخر لرحمة لم تكن تبديه، فيتّضح لراحيل أنها بلا رحمة، حيث «لم تمنحها فرصة أن تكمل كلامها وكأنّ الدّنيا انقلبت والنيران اشتعلت في جسدها»، ثم تتفاقم الأزمة العائلية بشكل مفاجئ وغريب، تقوم راحيل من بعده بفعل مفاجئ وجريء، يحوّل مسار حياتها إلى نقطة اللاعودة. «أفقد نفسي» هي قصة اجتماعية ميلودرامية عن صراع الخير والشر، عن فقد الأم وفقد الأب من بعده رغم وجوده الجسدي.
وتصف الكاتبة في قصة «ضوءٌ متكسّر» حالة انكسار رجل بعد فشل علاقة حبّه مع إمرأة لا نعرف اسمها ولا اسمه، فالكاتبة لم تسمِّهما بأي اسم، وسردت القصّة بضمير الغائب، وكأنّها قصدت بذلك أنها قصة يمكن أن تحدث مع أيّ رجل مهما كان اسمه ومع أيّ إمرأة مهما كان اسمها. وتبدأ القصّة بمشهد تصفه الكاتبة بأنه «متكسّر الأرداف ينعكس على وجه الماء»، حيث تقترب سيّارة إمرأة من بطل القصة، وكان «متأكّدًا أنها هي، تمرّ هذه اللحظة كأزيز رصاصة من أمامه، ودخان سيارتها من الخلف يتعالى في الأفق».
لم تلتفت المرأة نحوه، رغم أنها كانت تعرفه جيّدًا. حيث تسرد لنا الكاتبة كيف تعرّف الرجل عليها مصادفةً في مقهى وباحت له بالعديد من أمورها الشخصية في ذلك اللقاء الأوّل، فأحسّ نحوها بشيءٍ ما مغاير كان يبحث عنه دائما، شيء مختلف لم يعرفه في النساء من قبل، و«مارس معها لعبة الحب حتى الذوبان... ولم يكن مجرد إحساس، بل إنه الانصهار والتّماهي بمن يحبّ». لكنه، في تلك اللحظة، أدرك أنه فشل في علاقته، وبقي حائرًا وتائهًا، يتساءل في داخله: هل كانت خدعة؟
أما بطل قصة «نقرات الكعب العالي» فهو رجل وحيد وحزين بعد أن طلّق زوجته، زهرة، المطيعة، الخدوم الصّامتة، التي لا ترفع إلى زوجها النظر حتى في أصعب اللحظات، يجلس كل صباح أمام النافذة ليختلس النظر إلى العمارة المقابلة لشقّته، حيث يرى المرأة التي «تمشّط شعرها الليليّ الطويل، تسترخي على الكنبة بقميص نومها الشّفاف الذي يكشف عن جسد بضّ ومشاغب»، فيشعر بدوار من تلك الأنثى التي دوّخته. وفي يوم من الأيام حين عرّج على المقهى القريب ليرتشف قهوته، لم يصدّق عينيه، إذ رآها هناك بجسدها الرّشيق، أميرة أحلامه. فسار وراءها مأخوذًا بسحر جمالها، بعطرها الزكيّ الذي يفوح منها، بكعبها العالي الذي كلّما ابتعدت نقراته «ينفكّ رباط حذائه، يتحلحل، يطير ويتطاير». ويتمنى لو يتوقّف الزّمن ليلامس شعرها، ويصمت الكون ليتنفّس ليلها ويغرق في عينيها. ولا بدّ أنه أحسّ حينها كأنه عاد مراهقا شابّا إذ ذكّرته ملاحقته لذات الكعب العالي كيف كان يلاحق بنت الجيران في حبّه القديم بين البيوت المتراصة، ثم يقارن في ذهنه تلك المرأة ذات الكعب العالي بزوجته التي طلّقها، زهرة، التي يتذكّرها بجلبابها الطويل، وكيف كانت «تخنقه رائحة الرّطوبة التي تنبعث من تحت جلبابها ومن قدميها المتشقّقين، وهي تهرول حافية على الطريق الترابيّ المؤدّي إلى الحقل». في هذه المقارنة بين المرأتين تنتصر ذات الكعب العالي على ذات الجلباب الطويل في جذب الرجل والاستحواذ على قلبه، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لكن الكاتبة تفاجئنا في نهاية القصة بلحظة تهزّ النفس وتحرق القلب حين تخبرنا كيف يختفي ظلّ تلك المرأة ذات الكعب العالي و«ويهوي حلمه المدنّس من ثقوب السّراب».
وفي قصة «بعد أن كبُر الموج» التي تحمل عنوان المجموعة، تصارع الراوية، بطلة القصة، مجتمعها وأهلها من أجل حبّها وعشقها للكتاب، الذي تصفه بكل مواصفات الحبيب: «تلهث أنفاسي، وأدري أنني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأول مرة، تجوّلت، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجولتَ معي في شوارع المدينة، ودخلتَ ورائي إلى حانوت الملابس. كم تعثّرتُ خجلا وأنت ترمقني نصف عارية أمامك. انتابني شعور مراهقة يتورّد خدّها البتول، دون استئذان تتأبّط ذراعي وأختلس النظر إلى الوراء.» ذلك الحبيب الذي حاولت عبثًا التخلّص منه برميه في البحر، وتقاوم الطّعم وتقرّر ألا تتبعه. «أردتُ أن أخلعك مني، كما تخلع الشعوب حكامها، كما تُهدم في الوطن المساكن، كما تُنزع الطفولة من أثداء الأمهات وكما يسقط القتيل وراء القتيل مضرجًا بدمائه.» لكن، رغم كل الضغوط والقيود التي حاولوا تكبيلها بها، وقفت أمام أمّها بكلّ شجاعة، عندما اكتشفت ما تكتبه في أوراقها التي تخبّئها تحت فرشتها فنهرتها، أدارت لها ظهرها، في حركة تدلّ على الثقة بنفسها وبحقّها في الحبّ، وسألتها: «أين أوراقي التي تحت فرشتي يا أمي؟»
ثم أضافت: «هذه أوراقٌ تخصّني وحدي»، مذكّرة أمّها بحقّها في الخصوصيّة، حتى لو كانت ابنتها، فلها كيانها الخاص، حاجاتها ورغباتها، ولا يحقّ لأحد، حتى لو كانت أمّها، بفرض رغبته عليها ولمس أوراقها الشخصية. وكان على الكاتبة الاستمرار في لهجة الراوية الصّارمة مع أمّها خلال تلك المواجهة فلا تتلعثم ولا يتوقف الكلام في حلقها ولا تحاول الصّراخ بعلو صوتها، كما فعلت، فكلّ هذه الأفعال تدلّ على التردّد والضعف، بل كان عليها أن تقول لها ببساطة ورزانة كلّ ما قالته لها في نهاية القصّة دفاعًا عن حبّها.
«بعد أن كبُر الموج» هو الإصدار التاسع للكاتبة هيام مصطفى قبلان من قرية عسفيا، التي أصدرت حتى الآن خمسة دواوين شعرية، نصوص أدبية بعنوان «بين أصابع البحر»، رواية «رائحة الزمن العاري» عام 2010، وهذه ثاني مجموعاتها القصصية، بعد مجموعة «طفل خارج من معطفه» عام 1998. وعن سبب اختيارها لكتابة القصة القصيرة تقول هيام: «كتابة القصة لم تكن بمعزل عن فكري وتفكيري وقدرتي، فالقصة كأيّ جنس من الأجناس الأدبية تأخذ حيّزا كبيرًا ومهمًّا بين كتاباتي، اخترتُ هذه المرة إصدار مجموعة قصصية لأنني أشعر أنني متمكّنة من كتابة قصة بكل ما فيها من عناصر وتقنيات القصة القصيرة، القصة لا تتطلب مني غير أن أكون على علم مُسبق وتجربة في كتابة القصة، فقد درستُ عن القصة والرواية في دراساتي العليا وكان قراري بإصدار المجموعة حيث أتى بعد كتابتي لمعظم قصص المجموعة من قبل وقد كنتُ أريد أن أطلق عليها اسم (نساء) ،جمعت القصص وترويت، لكن تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن، فقدتُ ابني ومرضتُ، حاولتُ التوقّف عن الكتابة لفترة لأعود لقصص مجموعة (نساء)، لكن مشاعري في تلك اللحظة والفترة الزّمنية التي صارعتني قبل أن أصارعها ألحّت عليّ الاستمرار بكتابة باقي القصص التي وُلدت من رحم الألم والصّدمات والمعاناة، خاصة الإحساس بالموت والفقدان والغربة والحنين للأمس!»
نلاحظ أن معظم قصص المجموعة تتحدّث عن نساء يعانين من الظّلم والقهر والاضطهاد في المجتمع العربي الذّكوري. فماذا يميّز بطلات القصص عن غيرهن من النساء؟
تقول هيام: «كل بطلة من بطلات قصصي لها شخصيتها المختلفة والخاصة التي تميّزها: مثل المرأة المقموعة المظلومة، والمرأة المتسلطة القوية، والمرأة الخائنة، والمرأة المناضلة، والمرأة الضعيفة الوفية، وفي نفس الوقت جميعهن يخضعن للاضطهاد في مجتمع عربي ذكوري وعقلية قبلية متوارثة».
الدير الذي لجأت إليه فاتن، الحقول والكروم التي عملت فيها فريدة، القطيف في حقول التّفاح التي تعمل فيها أم سماح، الكروم التي في أطراق القرية، الغابة الممتدّة وشجرة التّين القريبة من البيت... كلّها تذكّرنا بنكهة قرية الكاتبة، عسفيا. ومن هنا يتبادر إلى الذّهن السؤال: إلى أي حدّ تكتب هيام في قصصها عن قريتها وعن البيئة التي نشأت بها؟
عن ذلك تقول هيام: «أكتب عن البيئة والمكان ليس فقط في قصصي، بل واضح في روايتي «رائحة الزمن العاري» وفي قصائدي أيضا عن المكان والطبيعة، وتعلّقي بكرمنا في أطراف القرية ونكهة قريتي التي ولدتُ فيها ونشأت وترعرعت، من يتناول شعري وقصصي يشعر أن (أدب المكان) يتواجد في كتاباتي وهذا ما أطلقه عليّ بعض النّقاد لتعلّقي بالمكان وما يسمى ب (توبوفيليا)، فحين نتحدّث عن المكان ونصفه لأن المكان قد يكون مرجعا يوفّر للكاتب بداية وانطباع أوّلي، حيث الحكائي الذي يكتنز مضمونات مأخوذة من الواقع ووظيفته توفير مرجعية لانطلاق الإبداع لدى القاص أو الروائي وكأن المبدع يستشرق واقعًا جديدًا رغم المعاناة التي يمرّ بها في واقعه، فلا زمان دون مكان طبعا، ولا سرد للقصة أو الرواية دون الاهتمام بالمكان والجذور فالذّات البشرية تمزج ما بين المكان الواقع والخيال ليصبح المكان فضاء لا يخلو من الرّمزية والإحساس والواقع المتخيّل فهو امتداد للشخصية وانتقالها من جغرافية المكان إلى الدّلالات الرّمزية والفكريّة وأقول: أن للمكان مكانة خاصة في كتابة السرد عند الكتّاب وأنا منهم».
مداهمة المرض الخبيث بعد رحيل الابن في «دون خيار»، الإصابة بمرض السرطان الذي اختار منطقة حساسة من جسد المرأة في قصة «فوق سرير أبيض»، السقوط في سرير المرض في قصة «سرب ضجيج»، كلّها توحي بتجارب وآلام شخصية اختبرتها الكاتبة بنفسها. فإلى أيّ حدّ تعبّر قصصها عن تجاربها الشخصية؟
تقول هيام: «ليست جميع قصص المجموعة هي تجارب شخصية، من الواضح في مجموعتي أن فقداني لابني وقتله غدرًا، ومداهمة المرض الخبيث بعد رحيله بفترة وجيزة ناتجة عن تجربة شخصية ومعاناة وانكسارات وصدمات، أما باقي القصص فتعبر عن المجتمع والواقع الذي نعيشه، فماذا تغيّر؟ الرّذيلة والفساد والعنف والقمع والخيانات والمصالح الشخصية والطبقيّة والعار والأقاويل والسّمعة كلّها ما تزال موجودة وتؤثّر طبعا على القاص الذي ليس بيده مصباح علاء الدين، ولا سيف الحق والعدالة ولا قدره لتقويم الأخطاء في المجتمع بل التطرّق لمثل هذه الظواهر هي امتداد لتربية وعقليّة متوارثة، وآن الأوان أن تتغيّر، ورسالة الكتّاب والأدباء ليس الحياد لا في الشعر ولا في القصة ولا في الرواية، لأنّ موقف الحياد قد يزيد من الآفات في مجتمعنا وهذا ما لا نصبو إليه بأقلامنا».
«بعد أن كبُر الموج» للشاعرة والكاتبة هيام مصطفى قبلان، التي لها العديد من المشاركات في أمسيات ومهرجانات محلية، عربية ودولية، هو كتابٌ يستحقّ القراءة والتّمعّن والإبحار في معاني قصصها المُستقاة من الواقع المرير للمجتمع العربي، وتدعو إلى واقع أفضل في مجتمعنا للمرأة والرجل على السّواء، فألف مبروك للأديبة هيام مصطفى قبلان وإلى المزيد من الإبداع.
***
بقلم: حوا بطواش