قراءات نقدية
قراءة في ديوان (أناشيد تشرين) للشاعر عبد الرزاق ناصر الجمعة
صدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل لمطلع عام 2023 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع المجموعة الشعرية: (أناشيد تشرين)، للشاعر البصري (عبد الرزاق ناصر الجمعة)، والديوان يحمل في طياته (42) قصيدة، وبواقع (121) صفحة من الحجم المتوسط. وصورة الغلاف تجسد موقف لأحد الشباب وهو يحمل العلم العراقي؛ وهي أحد صور ثوار تشرين 2019، والشاب يقف بمواجهة قوات مكافحة الشغب. إلا أن القصائد تنبض بالمشاعر الجياشة عن حال أبناء العراق على مر التاريخ، ومن خلال تظاهراتهم المستمرة وهم يطالبون بحقوقهم الشرعية.
النصوص الشعرية في الديوان تحمل طاقة لغوية تعبيرية، وخطاب مُثقل بالرموز والمشاعر الوطنية أمام كثافة المعنى وتعنُّت اللغة، وهو ما يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، في مجملها تنشد للوطن والناس والشهيد، ومنها: (خيمة الشوارع، مظاهرة، أم الشباب، النداء، المستحيل، الصبر، متى يعود، عقور تشرين، سورة الغضب، وحيدها شهيد، حظر التجوال، المشهد، وطني عراق، المصير، الحل، الإنذار، المرافعة، شباط، إلى المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله، حتى الموت).
مَثَلت القصائد أرفع درجات التعبير عن الناس والوطن، وهي علامات تتجاوز الإشارات والإيماءات، تنطق بصمتها وتسكت بكلامها، فتنشئ مداليات خاصة على صدور المتظاهرين والجرحى والشهداء. ولغة الشاعر عبد الرزاق الشعرية تمثل منتهى التزاوج بين جل العناصر اللغوية التي تشكل اللفظ وتحمله بما تفيض به من معنى.
والشاعر عبد الرزاق ناصر الجمعة من مواليد مدينة البصرة عام 1937م، وهو من قرية الدورة ناحية البحار التابعة لقضاء الفاو، اكمل دراسته الأولية فيها وتخرج في دار المعلمين الإبتدائية للعام الدراسي (1959-1960م)، وبسبب نشاطه اليساري السياسي نُقل إلى عدّة مدارس ابتدائية، واعتقل وسجن في نقرة السلمان، وزامل عدداً من رفاقه الشعراء والأدباء منهم: سعدي يوسف، الفريد سمعان، فاضل ثامر، مظفر النواب، جاسم المطير وآخرين... وكتب المئات من القصائد التي لم تنشر إلى الآن، ويعتبر هذا الديوان (أناشيد تشرين) ديوانه الأول.
وفي أول قصائد الديوان تحت عنوان (خيمة الشوارع) يقول الشاعر: يا خيمة الشوارع/ مأوى فتى يقارع/ تَحرْسُكَ القلوب/ في وَلَهٍ تذوب/ وأعينُ كومضة القمر/ تزين الوجوه/ تألقت توثباً ترقباً/ ضيوفك تخندقوا لغايةٍ كما المطر/ مُطَهِّرٌ وجهَ العراق/ فالتحفي السماء/ واستشرفي في الدعاء/ ضممتهم كما العرين/ هم فتيةً تعاهدوا/ ليغسلوا وجه العراق/ تحبُهُ النجوم/ وشمسُهُ تُقبل الجباه/ من أجل هذا يا خيام/ الليل لا ينام/ ينتظر القيام.
من خلال هذه القصيدة نجد الكلمات ترسم الصوت والإشارة لكل عنصر من عناصرها، وهو النص الشعري الحديث بكل طاقاته اللغوية التعبيرية، وقدرته على انتاج المدلولات المتعددة. والقصيدة خطاب مثقل بالرموز ورقص الكلمات، وكثافة المعنى وتعنت اللغة، وهنا الشاعر يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، يمكن أن نميز به أسلوبه وطرائقه في كتابة القصيدة.
والقصيدة أقرب إلى التقريرية بميسم حكائي للأحداث لصيغة المضارع، ليتحول بعد كل ذلك إلى الوصف التعبيري الانفعالي الذي يلج فيه إلى الأعماق ويتقمص الدور العاطفي الثوري، فيتحول معه السياق الشعري إلى خطاب تأثيري يجعله يأخذ على عاتقه الدور كاملاً.
أما القصيدة الثانية التي احاول أن أختم بها مقالي هذا فهي قصيدة (مظاهرة)، الشاعر هنا ينتظر قارئاً جريئاً يفجر ثوابت الخطاب ليملأ الفراغ ويتسائل المعنى، وهو ما يظهر أساساً في طرائق توليف المعنى، وقد تبدو صورة القصيدة في مستوى تشكيلها؛ بسيطة في ظاهرها، لكنها تدعو إلى التفكّر والولوج إلى اعماق المسكوت عنه في القصيدة، ويقول الشاعر في قصيدته: طرت بها ودونما جناح/ بدمعة وحسرة مستعرة/ تلمست يداوي/ بيارق الكفاح/ محافل بين الخيام/ في وسط الزحام/ ليل الفتى يقتات من نهاره/ يفسر الأحلام/ لله در صبرهم!/ قد قارعوا جبابرة/ ليس لهم إلا وعودٍ خاسرة/ والزمر الملثمة/ تداهم الخيام/ يا فتية التظاهر/ هل تحلمون/ بصخرةٍ سجيل/ كما ترون/ بغيتكم كعلكة العجائز/ ما بين لا وجائز/ فهذه معادلة/ كم تقتضي من الزمن/ ما كل غيم يحمل المطر/ وانتم نيام/ قد ملت الخيام.
أجد في هذه القصيدة شكل الوطن حالة خصوصية لدى الشاعر، لا سيما تظاهرات تشرين التي لم تفارقه، معلناً انتماءه إلى تجربةٍ قلقةٍ تحكي بسردية حوارية محتدمة شجنه لقضية وطن؛ من خلال مقاطع القصيدة. فالوطن والنضال والتظاهرة والسجن والاعتقال تعد عناية الشاعر عبد الرزاق الجمعة، في تجربته الشعرية الحداثية العالية اجدها متميزة أداةً وتشكيلاً ودلالة، وواعية وشمولية تمس مشاعر الفتى العراقي، تقوم على صراع الثنائيات في تصوير هاجس الوطن وأحاسيسه، فالواضح من قراءة قصيدة (مظاهرة) أن الوطن يسكن في وجدانه ويملأ حياته، ممعناً في هموم الإنسان وعلاقته بالمكان في رحلة الحياة. فالوطن روح وحضور بماضيه وحاضره، وآلامه وآماله التي تجلّت في ديوانه الذي يبرز شعريته الحالمة، فالمكان مرتبط بوجوده وقيمته، متوحداً معهُ حزناً ووهناً وهاجساً.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي